نَسَخ الفنان يحيى بن محمود الذي اشتهر بلقب الواسطي، نسبة الى واسط في جنوبالعراق، مخطوطة لمقامات الحريري في القرن الثالث عشر، وزينها بمنمنماته المصورة التي تظهر بالرسم الملوّن الوسط الذي تدور فيه المقامات، والتي رواها الحريري بكثير من الدقة والصدقية وبروح مرحة تخلو من الوعظ الجاف. إلا أنها كنص كتابي كانت موجزة. استلهم الواسطي تلك الحكايات، وصورها في شكل تفصيلي، أقرب الى الواقع، عبر لوحات فنية مستخدماً كل التقنيات التي كان يحذقها. ونفذها بدرجة عالية من الذوق الفني الراقي ومنها المقامة التاسعة والثلاثون التي سيجرى الحديث عنها بإسهاب نظراً لأهمية تصاويرها. تعتبر منمنمات الواسطي أول عمل في تاريخ التصوير العربي يعْرَفُ اسم مبدعه عن يقين. ففي نهاية مخطوطته، دوّن الواسطي قوله"فرغ من نسخها العبد الفقير الى رحمة ربه وغفرانه وعفوه يحيى بن محمد بن أبي الحسن بن كوريها الواسطي بخطه وصوره آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمئة"، كاشفاً بذلك اسمه الذي أضحى علماً من أعلام المبدعين في تاريخ الفنون الاسلامية. استطاع الواسطي في منمنماته أن يعيد ترتيب مقامات الحريري في مجملها، وذلك بنقل الصورة الأدبية التخيلية الى إيحاء مرئي. ومن أهم المميزات الفنية لهذه المنمنمات ان الفنان اعتمد حدوداً أكبر من الواقع تمثلت في صدر الصورة وجوانبها، لتأتي عناصر الموضوع موحية بالحركة والفعل بغية توضيح المعنى، مصحوباً بلغة الاشارة التعبيرية، والإيماء باليد وحركة الأصابع. وبذلك اغتنى المشهد بقدر وافر من ديناميكية الحدث. وفي إمكان المشاهد ان يلاحظ بأم العين ان العلاقات الكلية والجزئية في العمل الفني رُبطت في إطار لا يسمح بفصل إحداها عن الأخرى. وبحسب فرج دهام،"فإن الصورة الفنية في رسوم الواسطي، تقوم على عامل اساسي مهم وهو سينوغرافيا المشهد أي تحديد المشهد وتلخيصه وتحجيمه، ومن ثم تحييد الشكل قدر المستطاع عن أصول الانشائية الهندسية وعناصر التماثل والتناظر التي تجلت لاحقاً في الفنون الاسلامية". ونعرض ببعض التفصيل لرسمة البحر في مشهد مصور من المشاهد التي لونت المقامة 39، والتي قدم الواسطي فيها العناصر المؤلفة هنا، أي المركب والبحارة والأرض. وهذه المنمنمة لم تعرف الرواج في الميديا ووسائطها المتعددة كمثيلاتها التي زينت المقامات 2 و10 و22 و24 وغيرها، وأشهرها لوح الابتهاج برؤية هلال شوال التي زينت المقامة البرقعيدية. وبالعودة الى رسمة المركب، نجد ان الفنان جمع بين البيئة البحرية والأرض اليابسة في فترة زمنية واحدة. أما المركب الراسي فيشبه البواخر العمانية الحالية، ويُلاحظ ان النباتات على اليابسة شبه استوائية، في حين اننا نستطيع تصنيف الأسماك بسهولة. اما رسمة امواج المياه، فتسجل كإضافة من إضافات الواسطي المهمة والتي أطلق عليها الدارسون اسم"اجتماع الديدان"بسبب رسم الفنان المبدع أمواج المياه على شكل مجموعة ديدان تتماوج في حركية متجانسة، ما يعطيها انسيابية إيقاعية رائعة كما لو انها تشكيل استعادي ومتواتر لأمواج المياه. يظهر في الصورة ان جسم المركب مزدوج المقدمة والمؤخرة. وتبدو أيضاً ألواحه مشدودة بعضها الى البعض بالخيوط. وإن لم تظهر حبال الدقل الصاري الرئيسة، إلا أن صاري المقدمة يحمل أشرعة مربعة صغيرة. وعلى رغم ان رسمة المركب تعود الى فنان ليس من رجال البحر، إلا أن هذا المركب يوفر معلومات قيمة عن طبيعة مراكب المسلمين في الخليج والمحيط الهندي قبل زمن البرتغاليين. ويظهر في المنمنمة المقابلة لها أبو زيد وهو يطلب اعتلاء أحد مراكب الركاب في الخليج العربي التي كانت متوجهة من البصرة الى عُمان. عند قراءة التشكيل، يصعب عزل العناصر والوحدات. فالزخارف والمنمنمات والحواشي الزخرفية تأخذنا الى مزار آخر في مشهدية تصويرية أخاذة. فكل مكونات الرسم والتكوين متماسكة يجمعها حزام رابط للشكل العام. ونلاحظ في محتواها الداخلي التفصيل الجزئي للعناصر، كما نلاحظ ان بناء العمل وتماسكه يعتمدان على الجزء والكل في آن معاً. وهي قاعدة إنشائية متنامية تجمع عناصرها وحدة الأسلوب والتباين والتكامل اللوني الذي يضفي على معالمها إحداثية المساحة لتوصيف المكان والزمان وإضفاء الجانب العاطفي النابع من الكلمة المكتوبة. ولتقريب الصورة للمتذوق العام بغية معرفة كيفية معالجة الواسطي لمقامات الحريري، نستعيد هذا القول المختصر: قال الحارث:"ولما توسطت السفينة الماء واعتدل الجو وطاب الهواء حلا السمر وطاب الحديث"... الى آخر النص. وفي المعالجة، استطاع الواسطي من خلال محاكاة النص المختصر، جمع عناصر الموضوع في نص واحد يحويها الماء في مساره، بحركة عفوية للأسماك معاكسة لخط سير القارب والشخوص الآدمية، ليكتمل المشهد باتزان العناصر، وتوزيع الشخوص. راجع فرج دهام: الواسطي... رؤية متقدمة ومعاصرة لبناء المشهد http://www.albadeeliraq.com. وتكمن أهمية هذا المشهد في كونه أحد السجلات التصويرية النادرة لشكل السفن العربية. وعلى رغم عدم التناسب بين أجزاء المركب كما تظهر في المشهد، إلا أن الواضح أن الجسم مزدوج المقدمة والمؤخرة ومخيّط وله مرساة كلابية ويوجه بدفة تشغَّل بالحبال، كما هي الحال بالنسبة الى المراكب التي تشاهد في الخليج العربي اليوم. ولمزيد من الشرح والاستدلال عن الآلية التي تسيّر هذا المركب، نورد قولاً لأبي زيد الحسن السيرافي الذي عاش في القرن الرابع الهجري العاشر ميلادي بأن"جماعات من عُمان كانوا يفدون الى جزر"المالديف"وپ"الكالديف"التي تزرع النارجيل جوز الهند ومعهم أدواتهم وعدتهم، ويقطعون ما يشاءون من تلك الأشجار ثم يتركونه ليجف، وينزعون عنه الأوراق ويفتلون من لحاء أشجاره حبالاً يصنعون منها المراكب. وكان شجر الهند متعدد الفوائد بالنسبة الى أهل عُمان، فكانوا يصنعون منه أيضاً أشرعة السفن". ومما ذكره الإدريسي عن أسطول قيس أن ملك جزيرة قيس كان مرهوب الجانب، وكان أهل الهند يخشونه ولا يستطيعون مقاومته إلا بنوع من المراكب تسمى"المشيات"، تستطيع ان تحمل مئتي رجل على رغم انها من قطعة واحدة. وحين زار ماركو بولو هرمز القديمة في القرن السابع هجري الثالث عشر ميلادي كتب يقول:"... والمراكب ليس فيها مسامير حديد، إنما تُربط ألواحها بحبال من لحاء جوز الهند النارجيل. فكانوا يدقون هذا اللحاء حتى يصبح رفيعاً مثل شعرة الخيل، ثم يفتلون منه الحبال التي يربطون بها ألواح المراكب، وهي قوية لا يفسدها ماء البحر، ولكنها لا تصمد أمام العواصف كثيراً، ولا تطلى هذه المراكب بالقار وإنما تدهن بزيت السمك ولها صارٍ واحد، وشراع واحد ودفة واحدة وليس فيها سطوح وإنما غطاء يمدونه فوق السفينة، ولم يكن لديهم حديد لصنع المسامير ولهذا كانوا يستعملون مساند خشبية في بناء سفنهم..."راجع"عُمان وتاريخها البحري"، وزارة التراث والثقافة ? سلطنة عمان ? الطبعة الثانية. تقع منمنمات الواسطي التسع والتسعون في 167 ورقه طول كل ورقه 37 سم وعرض 28 سم. ويعد المخطوط المحفوظ حالياً في المكتبة الوطنية في باريس تحت رقم 5847 عربي والتي يرجع تاريخها الى العام 1237ه واحداً من أشهر الآثار الفنية العربية والاسلامية ومن أهم المخطوطات المصورة لمدرسة بغداد وذلك لتصويرها كل المواضيع في شكل دقيق. إذ تحول الفن الاسلامي في منمنمات الواسطي من فن زخرفي الى فن انساني حيث جعل الشخصيات نماذج تنبض بالحياة والحيوية. وعالج هذا الفنان المبدع الكثير من المواضيع الاجتماعية في أعماله وعبر بمهارة عن العادات والتقاليد الإسلامية بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وسجل التفاصيل الدقيقة للحياة حيث صوّر الحياة اليومية وشخوصها وهم في حركتهم اليومية منكبين على أعمالهم ومنهكين في أداء مشاغلهم. وبحسب غالبية النقاد، فإن الواسطي اعتنى بتصوير مشاهد اللهو ومجالس القضاء والولاء، كما أبدع في نقل عناصر الزخرفة المعمارية الاسلامية. وبرع أيضاً في رسم الزخارف الهندسية والنباتية والحيوانية والكتابية. وإضافة الى السفينة التي عرضنا لها، صوّر الواسطي السوق والمكتبة والخيام في الصحراء وبلاط الحكام والقصور وهي تعج بالعبيد والخدم. وأظهر داخل احدى المدارس معلّماً يلوح بالعصا لتلاميذه، كذلك صوّر ذبيحة تنحر وبجانبها نار مشتعلة. وصوّر حفلة عقد القران ومراسم دفن الأموات وقوافل من الجمال وموسيقيين يمتطون ظهور الحيوانات. كما صور الواسطي العمارة الرائعة، فرسم الأحياء الغنية والمنازل الفقيرة وخيام الناس البسطاء. وفي تصويره المشربيات عني بتفاصيلها وزخرفتها خصوصاً تلك ذات الطابقين. تقول الباحثة والفنانة التشكيلية أمل بورتر في دراستها"قراءات في الفنون الاسلامية"ان الواسطي صوّر"الطبيعة فكان أحياناً كثيرة ينقل عنها حرفياً، وأحياناً أخرى يحوّرها ويختزلها او يجردها. وغالباً كان يترك لخياله العنان في تصوير أي منظر طبيعي ولكن من وجهة نظره، كونها تعزيزاً وتكريساً للإنشاء التصويري". وتُضيف ان الحريري روى المقامات بكثير من الدقة والصدقية وبروح مرحة تخلو من الوعظ المباشر الجاف، إلا أن الوصف التفصيلي جاء موجزاً ومقتضباً. أما الواسطي فقد صورها في شكل تشكيلي تفصيلي أقرب ما يكون الى الواقع، مستخدماً كل التقنيات التي كان يحذقها رابطاً الزمان بالمكان في شكل واضح، وفي المحصلة فإن الحرية في التعبير هي الهاجس الذي بدا واضحاً في كل أعمال الواسطي راجع http://tashkeel1.ektob.com/page3/&thisy=&thism=&thisd. وخلاصة القول إن منمنمات الواسطي هي من أروع الأعمال الفنية الموجودة اليوم كما وصفها المستشرق الفرنسي"ماسينيون". وفي عملية انجذاب لروعتها ودهشة لدقتها وتناسق كتلها وألوانها وانسياب خطوطها، استطاع الواسطي بطريقة تعبيره إقناعنا بأن ثمة عالماً ممكن الركون إليه واستشفاف الحقائق منه. كما باستطاعة المشاهد ان يستند الى عالم عياني أُدخلنا فيه بحميمية، ومن خلاله انتقلت الصورة التشكيلية والتذويقية ذات التقنية العالية الى صورة ذهنية شديدة الوضوح تستحضر بإمتاع ومؤانسة معظم تفاصيل الحياة اليومية لأطياف المجتمع العباسي المتأخر. * كاتبة لبنانية