يتعامل مصوّر المنمنمات مع العالم على أساس أنه ورقة، لا علاقة لتراتبية قياساته الرمزية أو المعنوية بالنسب الطبيعية، فالسلطان أكبر من الوزير والوزير أكبر من المحتسب. والثلاثة أكبر من أفراد الحاشية، قامة قيس أكبر من قامة ليلى والإثنان أكبر من بقية أفراد القبيلة، أبو زيد أكبر من المصلّين الذين يخطب فيهم. وهكذا، فالعالم الفرضي مسكون بدلالات ومفاهيم منتزعة من عالم "المعقول" ولا علاقة لها بعالم "المحسوس"، فقد يحجز سطح الفراغ "كل" اليابسة أو المعمورة بقياسها النسبي كما هو الأمر في رسوم مخطوطة "عجائب المخلوقات" للقزويني، حيث تصوّر كلّ العالم، وحدوده مع بلاد الواق الواق. قد تمثل المنمنمة كل الطبيعة من خلال هيئة جزيرة رمزية مقامات الحريري 39 الواسطي. ولو عدنا الى بعض الخرائط الجغرافية بما فيها خرائط الإدريسي عثرنا على بصمات هذا العالم الفرضي، الذي يقع في "برزخ الخيال". فإذا ما تناولنا صورة الخليفة علي بن ابي طالب رضي الله عنه في بعض منمنمات الشيعة خصوصاً الصفوية منها وهو ما امتنع عن تصويره بقية المذاهب وصلنا في الخصائص المفاهيمية مبلغاً كبيراً يتجاوز خروجه الظاهري عن حدود التنزيه، ذلك أن هيئة رسمه لا تتطابق مع ما يمكن أن يكون عليه في عالم الإثبات الواقعي أو التوثيقي، وإنما تستجيب لما هو عليه في "اللاوعي الجمعي"، كمثال يملك مفاهيم ما يجب أن يكون عليه. نستطيع أن نؤكد ان الصفة التنزيهية تطبع كل الرسوم والتصاوير حتى العلمية منها المرتبطة بتشريح إنسان مثلاً على غرار تشريح العين في "تذكرة الكحالين" لابن سينا أو تشريح الحصان أو رسوم الكتب الطبية والنباتية أو كتب الأعشاب والفلك وحتى كتب الميكانيك، لعل أبرز أمثلتها الشطحية "كتاب في الحيل الهندسية" للعالم الجزري، ترسم مخططات آلياته تحولات الطاقة وفق مسارات تتحرك حسب نظام الورقة الى الأعلى والأسفل وليس الى الأمام والخلف كما هو الواقع، وبطريقة يبدو فيها موقع الشكل من الفراغ وطريقة تمفصله مع هيكل التكوين أشد أهمية من الشكل نفسه، يتسامى الميكانيك في هذه الحالة الى مستوى السيمياء السحرية المرتبطة بعلم الباطن وليس بالبصر والتعقل علم الظاهر. ينسحب معنى المشاهدة القلبية المرتبط بالشهادة والشهود على تمفصل أمثال هذه الميكانيكيات التأملية، فيخرج من فوائده النفعية ليعبر الى محراب تأملي روحاني. تحاول بعض عناصر الرسم وبشكل دؤوب الخروج من حدود الحيز الفرضي للصفحة أو بالأحرى حدود المنمنمة التي تملك غالباً نفس قياس تسطير النص والعبور الى مساحة الهامش أي الفراغ المطلق بمثابة الهجرة من المحدود الى اللا محدود في المكان. يخرج الفارس وفرسه في جزء منه غالباً من حدود المنمنمة تماماً كما تهاجر الحلية القرآنية الى هامش حدود تسطير الآيات الكريمة في المصاحف. يُشيّد الفراغ على أساس شبكة متعامدة مضمرة قريبة - كما ذكرنا - من نظام رقعة الشطرنج، لا تبوح بمفرداتها القياسية إلا بحفر شديد، تنتظم وفق منظور أفقي ذي مسقط متعدد زوايا الرؤية وكأنه مخطط مرصود من القبة السماوية أو من "عين الصقر" المارق في بطن السماء. تفترض هذه التعددية الرمزية تساوي الظهور بين العناصر سواء كانت بعيدة أم قريبة، مرفوعة الى الأعلى أم منخفضة الى الأسفل. وقياس العناصر يرتبط كما رأينا بتراتبية مفهومية، لا علاقة لها بصغر البعيد وكبر القريب، تتمركز الشدّة البصرية قوة اللون والقياس والعناية بتفاصيل التخطيط والموقع من التكوين في رسم الشخصية الرئيسية، كما يستقطب أبو زيد الاهتمام البصري في منمنمة المقامة 28 من "مقامات الحريري" لمحمود بن سعيد الواسطي، يتمركز في بؤرة التكوين بحيث يبدو المصلون الذين يخطب في صفوفهم وكأنهم حشدٌ محايدٌ أو أرضية خافتة تساعد في إبرازه على المنبر. وقد رأينا سابقا كيف أن تراتبية هذه الأهمية تخضع الى المقاييس المعنوية المرتبطة بالتراكم الثقافي والتربوي وليس الى المعايير الواقعية. يحتكر الخط كأداة رسم دلالة العناصر الممثلة وهوية تعيينها "السيميولوجي" بدرجة كبيرة، وذلك على رغم الجنوح في تشريحها الوصفي. درجة المثال الحي القريب من هيئة عالم النبات، وبما يستجيب ربما الى حديث ابن عباس الشائع حول إجابته على تساؤل أحد المصورين عن رسم الأحياء وتوصيته بما معناه أن تتقارب هيئتهم من التوريق النباتي أو الزهور. فإذا ما تجاوزنا تعصب بعض المغالين، فإن رسوم الكائنات الحية غائبة فقط من جدران المساجد ومن صفحات المصاحف والكتب الدينية عموماً، يستعاض عنها بالرقش الهندسي النجميات والنباتي الحليات، تتجه هذه "الدلالة" إذن الى الترميز والإلماح وخفر الإشارة وغمز البيان، واختزال الشكل العضوي الى أبجديته الهندسية أو ما يشبهها، يصل الشكل في اختصاره حتى اللبّ مما يذكر بحساسية الزهد والتقشف في التعبير الأدبي تماماً كما يقول النفري: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة". تحضرني في هذا المقام واحدة من منمنمات القرن الرابع عشر، اختصر تكوينها الى ثلاث دوائر: واحدة كبيرة تمثل دائرة البئر أو البركة أو المرآة تعانق دائرتين متماثلتين، تعكس الأولى دائرة القمر وتعكس الثانية وجه المعشوقة، تساعد النصوص المواكبة للرسوم بالطبع في كشف خباياها الباطنة. تبلغ درجة التنزيه ذروتها الشطحية في مجال اختيار المقامات الصباغية أي تزامن البارد والحار، وانتساب الألوان الى بعضها البعض وليس إلى دلالة الخطوط، تماما كما هي النواظم الموسيقية في الموشح والمقام والانشاد. فالتواصل الكوني يجمع خفقات عالم السماعي ونبضات عالم البصيرة، ويعتبر هنري ماتيس الفنان الفرنسي الذي استلهم من فن المنمنمات "ان هذا الفن يقتصر في التعبير ضمن تاريخ الفنون على اللون، واللون وحده". ترتشف صباغته كميات متخمة من ألوان الجمر والصقيع، الزمرد والعقيق، مستعيدة ألوان الفردوس والجنان المغتبطة، مثلها مثل أفانين بعض طرز السجاد والكليم، سلالم من الألوان تنتقل من الألوان المحايدة ذات القرار الخافت الى محطات اللون المشرق الجواب. نلاحظ في "قافلة الجمال" التي رسم مجموعتها الواسطي مقامات الحريري أن موسيقى تواتر صباغاتها لا تنتمي بأي حال الى لون دلالة الخط التي ترسم هيئة الجمل، تسوح العين من مقام لوني حار الوردي الى آخر اكثر برودة البنفسجي من دون ان تعير اي اهتمام للمعنى والتعيين التمثيلي للطبيعة، كما تشفّ منمنمة "مصنف اسكندر" التي تصور ابراهيم الخليل شيراز 1410 عن البُعد الروحي في اللون، فقد سيطر على ألسنة اللهب برودة مشتقات الازرق والبنفسجي. مما يلامس معنى الآية الكريمة: "يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم". ينزلق مفهوم اللون في أمثال هذه الحالات من المعنى "الانطباعي"، أي من "التعيين الزماني" في المشهد، فيتجاوز لون النور المسيطر الوقائعية اللحظية ليقع في الزمن المطلق المتوسط بين الليل والنهار، والشتاء والصيف، والصباح والمساء، وكنا قد لاحظنا سابقا كيف يمنح منظور وحدة الوجود البعد النسبي نفسه في المكان الفرضي أو المطلق. جعلت هذه الخصائص فن المنمنمات من أكثر الفنون الاسلامية صعوبة ومجالاً لسوء فهم المستشرقين، يقيسونه بقياس المنظور "الأحادي النظر" الذي اعتمده جيبرتي في القرن الرابع عشر، ثم أصبح عقيدة "عصر النهضة" واستمرت سلطته حتى اليوم معتمدا على سكونية العين وهروب الخطوط باتجاه أفق ثابت. والواقع ان فنان المنمنمات لا يسعى خلف وهم الحقيقة الملفقة، بل إن عودة بسيطة إلى بصريات ابن الهيثم في القرن الحادي عشر تكشف معرفته بهذا المنظور، بل إنه تجاوزه ليطبق أعقد انواع المناظير على العدسات المقعرة والمحدبة. وكان علينا ان ننتظر حتى بداية القرن العشرين حتى يأخذ الفنانون الغربيون في الاستعارة من منظور المنمنمات على غرار فيكتور فازاريللي وأيشير وغيرهما. لعله من المفيد العودة إلى تحليل أبي حامد الغزالي في كتاب "مشكاة الأنوار" القرن الحادي عشر اي نفس عصر إبن الهيثم، يشرح الفرق العرفاني بين البصر والبصيرة، فيذكر عيوباً عدة لأكاذيب البصر، منها رؤية العناصر البعيدة صغيرة والقريبة كبيرة، والعجز عن العثور على المثال، والاستغراق في نواظم الآخر المرئي أو الوصفي الواقعي والعجز عن مراقبة الذات، يربط البصر بسطحية الأشياء ومظاهرها العابرة أي بعلم الظاهر وتفويتها للجوهر والمثال والأبدي المرتبط بعلم الباطن. ترتبط الأولى بالعين والبصر الحسي وترتبط الثانية بالقلب. نعثر في هذا المقام على التجلي الذي تتصل به نواظم المنمنمة بقوانين الوجود، اي انها ترتبط بالطبع بالبصيرة وليس بالبصر. لا يخلو تقسيم طرز المنمنمات وفق الخرائط القومية الاقليمية أو المذهبية من التعسف، نقول مثلا مصنفات فارسية أو عربية أو تركية أو هندية اندلسية أو بربرية أو فاطمية او أيوبية أو سنية أو شيعية أو اسماعيلية... الخ. يجري في شتى هذه الحالات تقسيم ما لا يقبل القسمة، لأن "وحدة" الفن الاسلامي أشد صراحة من تبايناته الذوقية المرتبطة بتلونات الزمان والمكان. فإذا واجهنا الأمر بدقة اكبر وجدنا ان الخرائط السياسية لا تنطبق دوما على الخرائط الجمالية، اي المرتبطة بانتشار حلقات تطور الطرز في محترفات المنمنمات. خصوصاً أن الحكام كانوا يتنافسون على جلب الحرفيين من شتى الأمصار والمشارب والآفاق، حتى أننا نادراً ما نجد رساما للمنمنمات ينتسب إلى مدينة المحترف نفسه. واذا كانت النزعة الإقليمية والعصبية الشعوبية مستشرية في الفترة الأموية وبداية العباسية، فلا يمكننا أن نتجاوز سيطرة الفكر الشمولي التوحيدي على فترات ازدهار المخطوطات والمنمنمات التي نحن بصددها، على الأقل على مستوى الثقافة النخبوية في دور المكتبات والحكمة والعلم. يؤكد ذلك كتابة الكثير منها بلغات عدة، كالعربية والفارسية والهندية والتركية، ثم الاردية، نعثر عليها جميعا في المخطوطة نفسها أو عبر نسخها المتعددة. لعلها الحساسية الشمولية التي طبعت عصر ازدهار المخطوطات ابتداء من القرن الحادي عشر، والتي لم تجعل من البيروني هندياً ولا من ابن فضلان صقلبياً. وكتب مولانا جلال الدين الرومي "مثنويته" بالفارسية على رغم استقراره في قونيه، وكتب الخوارزمي "الجبر والمقابلة" بالعربية وهكذا... لا شك في أن للموقع الجغرافي أثراً ما في تماوج الطرز، تكفي مقارنة بسيطة بين منمنمات الأندلس كتاب النار وتصاويرها عموماً فريسك سقف "قاعة السفراء" في قصر الحمراء في غرناطة مع تقاليد العصور الوسطى اوروبية ثم التأثير الصيني في منمنمات تبريز وسمرقند رشيد الدين: جامع التواريخ، القرن الرابع عشر ثم التأثير الهندي في بعض مصنفات العهد المغولي في دلهي وأكرا، حتى نتأكد من تماوج هذه التلونات بين المحترفات المتباعدة القارات. علينا الاعتراف بأن متابعة هذه الطرز تصبح ميدانية عندما تتم متابعة تطور تقاليدها في محترفات المدن المستقرة، على غرار مدارس: بغداد، قرطبة، الفسطاط، هيرات ، بخارى، سمرقند، اكرا، دلهي، استنبول، تونس، بحيث ترتب ضمن سياقها التاريخي كالتحول مثلا من دمشق الى بغداد لرصد تأثير الايقونات والى هيرات واكرا، ثم القاهرة واستنبول. دعونا نلاحق، على سبيل الدراسة الجمالية المنهجية، تطور عدد الأشخاص في المنمنمة ونموه المتدرج ابتداء من الاقتصار على شخص أو إثنين امرأة ورجل يتحاوران في السوق أو اكثر في المنمنمة الواسطية مدرسة بغداد ما قبل تدمير هولاكو لها العام 1258. يزداد افراد المنمنمة في القرن الرابع عشر العهد المملوكي مباريات البولو، العهد الاندلسي مباريات الشطرنج، وتتعدد اكثر في القرنين الخامس عشر والسادس عشر خصوصاً في مدرسة بهزاد - هيرات منمنمة الحمام العام. ويزداد عدد هؤلاء مع حشود بلاط منمنمات اكبر خان للدولة المغولية في النصف الثاني من القرن السادس عشر. ثم يصل تدافع البشر الى ما يقرب من يوم الحشر في صفوف العسكر والأعيان والإدارات المرسومة في منمنمات العهد العثماني القرن السابع عشر وما بعد منمنمة الفرق الموسيقية العسكرية. قد يكون الإنطلاق من ثلاثية الأيقونة السورية - الاموية قبل الوصول الى الحشود البحرية والبرية وتدافع شعوب الخلافة العثمانية. ويعكس هذا التنامي المتدرج خصائص النظم الإدارية والحضرية لكل عصر، ولا شك في انه سيكون مفيدا متابعة التطور نفسه في بقية العناصر كالحيوانات والكائنات الرمزية، ثم خصائص شبكات الفراغ والتكوين وأسلبة الرسم وغلبة الألوان. لقد سيطر مثلا بخصوص هذه الاخيرة على مدرسة دلهي المذكورة في القرنين السادس عشر والسابع عشر الحوار المرهف بين الأخضر الشاحب والأصفر الهندي وهو لون خريفي قريب من النحاسي. وكما تركت الدراسات بداية المنمنمات غائمة، غير محددة المعالم، فكذلك الامر مع تاريخ انحسارها، وانقطاع تقاليدها، لدرجة اندثارها في اغلب المحترفات، يغشيها النسيان والإهمال المزمن كما هي المخطوطات. ولا شك في أن تاريخ غروبها المتباين من بلد لآخر يرجع في اساسه الى محاصرته بتقاليد التصوير الغربي المناقضة له، وما بقي من جمر نخبويته تحت رماد الاهمال انقلب الى فنون هجينة "فولكلورية" سياحية وغير ثقافية. توقفت تقاليد المنمنمات في استنبول مثلا مع وصول فن "البورترية" رسم الوجوه وانتشاره بالعدوى في قصور السلاطين، وتسرب مع وصول بلليني، وسيطرة الاسلوب الايطالي في صياغة الكتل والظلال، والمناظير الهاربة الى أفق أحادي. ستقرع هذه الموجة بالذات أبواب تقاليد التصوير المغولي والإيراني، وعلى رغم مازلزلته من اصالة هذه التقاليد فقد ظلت قائمة في هذه الحواضر حتى اليوم، كذلك الامر مع بعض محترفات استنبول التي عاندت الاندثار خصوصاً في بعض مدن آسيا الاسلامية النائية من أمثال بخارى وفرغانة وسمرقند. أما في البلاد العربية فقد اندمجت اشباحها الممسوخة في بعض الفنون الشعبية مثل الحفر الشائع في المقاهي الشعبية دمشق - القاهرة - تونس - المغرب والذي يتناول ملاحم وبطولات وسير عنتر بن شداد وعبلة، والزير بن المهلهل، والزيناتي خليفة... وغيرها كثير تروى على لسان الحكواتي الذي يتربع مجلسه المرتفع في المقاهي الشعبية على غرار مقهى النوفرة في دمشق. كما ازدهر في تونس الرسم على الزجاج من الخلف المثبت، والرسم على المرايا ذات المصاريع في المغرب، والكثير من رسوم الابواب العجمي، ورسم الجدران والسقوف والأثاث الخشبي والوسادات والمطرزات والسيراميك وغيرها كثير، ناهيك عن انواع المسرح الشعبي المدعو "بظل الخيال" أو خيال الظل عُرف المشخصاتي إبن دانييل في القاهرة بحيث تتحرك العرائس بخيوط خاصة. عرفت هذه الطريقة في العصر العثماني باسم بطليها "كراكوز وعواظ" كما وان هناك "صندوق العجائب" الذي يعرض الصور المتتالية على دولاب داخل علبة خشبية كبيرة، يسترق فيها النظر الزبائن عبر كوى صغيرة. تناسخت تقاليد المنمنمات في أساليب بعض الفنانين المعاصرين الذين كانوا يحفظون سماته العامة المبسطة بصورة تلقائية، لذا اطلق عليهم لقب "الفنانين البكر" كان آخرهم في دمشق المرحوم ابي صبحي التيناوي الذي أثر في اساليب العديد من المحدثين من مثال برهان كركوتلي، ورفيق شرف بسبب قوة شخصية رسمه. سنعثر على الظاهرة نفسها مبعثرة اليوم في العديد من المحترفات العربية المعاصرة، تشكل عائلة من هذا التوارث العفوي، من مثال فاطمة حسن وصلادي والرباطي في المغرب، واحمد الحجري في تونس مقيم في باريس، وباية في الجزائر، وشادية عالم في المملكة العربية السعودية، وعبدالله ناصر في البحرين، واحمد نعواش في عمان من اصل فلسطيني، ثم سيد عبد الرسول وشلبية ابراهيم من مصر مقيمة في دمشق وغيرهم كثير. يكشف سعي رسام المنمنمات النخبوي الشهيد في الجزائر المعلم محمد رسام وتلامذته الذين خلفهم قبل رحيله، آخر محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من تقاليد المنمنمات المندثر، أو الغارق في سبات اهل الكهف. ولم تعترف به الاكاديمية الملكية البريطانية لرسم المنمنمات على رغم عبقريته إلا بعد ان تقدم به العمر. لقد ورث هذا الفنان على اهميته الثقافية جنوح تقاليد منمنمات القرن الثامن عشر باتجاه التوليف الغربي غير المقصود. وعلى غرار التعثر جزئياً في مشكلة التعبير عن الحجوم التي هدّت من خصائص المدرسة المغولية وغيرها، فانه مع ذلك يحتل موقع المعلم الأخير لفن المنمنمات في المحترفات العربية والتي يغلب على شظاياها المتناثرة صفة الهواية والاستهلاك، قد تكون بعض الحواضر الاسلامية أشد محافظة على محترفاتها من مثال ايران وتركيا، وإن كانت تقاليدها تعاني بدورها من النزع الأخير. لعله لم يفت الأوان بعد لإنقاذ فن المنمنمات وانعاش تقاليده الإبداعية من جديد، فهو المساحة التي تحتكر الكثير من خصائصنا الثقافية البصرية.