باسم 7 أعوام أمام شاشة الكومبيوتر، منهمك في لعبة "فايس سيتي"، أي مدينة الرذيلة. يقود دراجة نارية وفي يده رشاش. يجوب الشوارع وعناصر الشرطة تطارده. يطلق النار عليهم بين السيارات والمارّة. عَلِق الطريد في أحد الأزقة، فعلّق باسم اللعبة وضغط على بضعة حروف في لوحة المفاتيح. وإذا به داخل دبابة، ينجح في الفرار بعد القضاء على القوة التي تحاصره. هو يكسب المال والترقيات، كلّما قتل"مواطناً". حان وقت النوم. غداً يوم مدرسة. طلبت منه أمه جمانة 39 عاماً، وهي موظفة بنك، أن يتوجّه إلى سريره. غضب باسم، واستلّ"الماوس"وضغط عليها بسبّابته ثلاث مرات، بحدّة. أصاب ثلاثة أشخاص على الرصيف، فأرداهم. ونظر إلى أمّه، وقال لها مهدّداً:"هل أعجبك هذا؟". لكنّه توجّه إلى غرفته، أمام إصرار أمّه وحزمها، بعد أن قطع اللعب وأطفأ الكومبيوتر، متأفّفاً. ارتدى ثياب النوم. جاء إليها في غرفة الجلوس. ارتمى في حضنها. وضع إبهامه في فمه. غلبه النعاس وغفا. فهل نام الطفل المشاكس الصغير أم طريد العدالة الخطير؟ جمانة لا تجد سوءاً في ما يفعله صغيرها على الكومبيوتر. هي تُحسن تنظيم أوقاته، وتستطيع ردّه من لهوه في أرجاء المنزل وسحبه من ضياعه في"الشوارع الافتراضية"، متى شاءت. همّها الأكبر في ما يفعله زوجها حسّان 44 عاماً، وهو مهندس كهرباء، مع ابنتهما مها 12 عاماً، أثناء لعبة المصارعة أو الحرب."يتحاربان كل الوقت. تقتله ويقتلها. وتعلو صيحات المنتصر... هو كالصغار تماماً"، تروي الأم. ثم تضيف، بشيء من الإرباك:"سمعته مرة يشجّعها على الانتحار لتبدّل سلاحها". لم تفهم جمانة، حينذاك، لماذا يسدي أب نصيحة مقيتة كهذه لابنته. هرعت إلى غرفة الجلوس حيث الكومبيوتر وپ"ساحة الوغى"، ونهرت زوجها. فضحكت الفتاة عليها:"هذه لعبة"باتل فيلد"، يا ماما، لا يمكننا أن نبدّل السلاح ما لم نمت، لنعيش من جديد ومعنا سلاح أقوى". وأضاف الأب سريعاً، لئلاّ يفقد حماسته:"أنا أنتحر مئة مرة، لأجاري هذه الشقيّة التي تغلبني دائماً". لا قانون لسنّ اللاعب وپ"حيلة الانتحار"هذه من مقتضيات اللعبة، يلجأ إليها الفتيان والفتيات الذين يرتادون محال ألعاب الكومبيوتر. هناك الذكور والإناث سواء، فالشرط الوحيد لخوض أي لعبة هو البراعة. وهناك أيضاً يعلو صياح المنتصرين والتهديد والوعيد باجتياح البلاد واقتحام الموقع، والتخطيط لاحتلال المصارف، وتدمير المحطات النووية. في تلك الملاعب الداخلية، ذات المساحة الضيّقة، يدور القنص وعمليات الالتفاف والغدر، والالتحام بالسلاح الأبيض، وتنظّم عمليات انتحارية. وبين الروّاد، ومعظمهم من المراهقين، يجلس أمام الشاشات أطفال دون التاسعة، وقلة ضئيلة من الكبار. ويفرج الصغار عن حماستهم، التي تُكبت في الشقق الضيّقة، احتراماً لمشاعر الجيران، فتخرق أصواتهم الحادة آذان الموجودين، ويسري ضجيجهم في الأحياء القريبة. وقد أصبحت محال ألعاب الكومبيوتر أشبه بفسحات اللعب في الأزقة والشوارع قديماً. إذ يقضي فيها الأولاد معظم أوقاتهم، كما ورد في"الحياة"التي تابعت الأطفال على مدى أسابيع إجازتهم الصيفية. بدا الكومبيوتر الطريقة المفضّلة لتمضية أوقاتهم، في غياب نشاطات أخرى أو بسبب أحوال أمنية واقتصادية معيّنة. أشرف 32 سنة، صاحب محل ألعاب كومبيوتر. يتقن عمله ويُحسن إدارته. وهو يضع قوانينه وشروطه:"الحكي في السياسة ممنوع. السبّ والشتائم ممنوعة. الألفاظ البذيئة ممنوعة. الكلام الجارح ممنوع... وما عدا ذلك مسموح"، يعدد الشاب الهادئ قوانين محلّه. وأما أعمار الروّاد فلا دخل له بها، ويبرّر استقباله صغار السن، بأنهم يأتون إليه بموافقة الأهل. وأما اللعب فلا يعتمد على السن،"فقط على الشطارة"، كما يقول. وبعض المراهقين يهاب اللعب مع الصغار. ويشير أشرف إلى غياب تام لقوانين تضبط ألعاب الكومبيوتر وسن الاشتراك، وتنظّم العلاقة والسلوك. ويعلل ذلك بأن ألعاب الكومبيوتر أكثرها مقرصن، وهي تنتقل من ولد إلى ولد، بدافع الفضول والغيرة. ويكفي نسخها على الكومبيوتر الشخصي."وكلّهم باتوا يعرفون كيف يفعلون ذلك. حتى أن أطفالاً في السادسة والسابعة، يستخدمون رموز"تشيت"أي رموز الغش تُدخل بواسطة لوحة المفاتيح، وهم لا يعرفون القراءة والكتابة بعد"، كما يختتم حديثه. أسرار العلبة المضيئة قد يكون مبكراً الحديث عن مدى تأثير ألعاب الكومبيوتر والواقع الافتراضي، في نفوس الأولاد. وهو يشكّل نطاق بحث ومتابعة لدى مؤسسات تربوية واختصاصيين في علوم الاجتماع النفس. ولكن مما لا شكّ فيه أن الكومبيوتر وألعابه والاتصالات باتت تمهّد لثقافة شعبية يصنعها المراهقون والشباب، وأخذت تتغلّب على الثقافة التقليدية، كما ورد في ملحق"صحافة العالم"الذي نُشر في"الحياة"، بتاريخ 19/9/2007. ولعلّ الصغار، يجدون خصوصية مفقودة في تلك العلبة المضيئة التي يعبُرون منها إلى عوالم افتراضية، تشحذ خيالهم وتسلّيهم، وتُشعرهم بالمتعة وهم يقودون تلك العوالم بأطراف سبّاباتهم الصغيرة. ثقافة عند تاجر الألعاب وقف شابان يتحدّثان بإنكليزية"سريعة"، في متجر للكومبيوتر وملحقاته وألعابه. وكان الزبائن، كباراً وصغاراً، يدخلون لشراء أجهزة وألعاب، وطلب مشورة هيثم أو زوجته في أمور تكنولوجية. وهيثم شاب على عتبة الثلاثين، بدأ بيع أجهزة الكومبيوتر وصيانتها، ككثيرين غيره في بيروت ودول أخرى، عربية وعالمية، عندما غزتها التكنولوجيا وأدواتها. واستطاع الاستمرار في"تجارته"هذه، لأنه أحسن إدارتها، واكتسب معرفة وخبرة في هذا المجال. وهو يقدّم النصح والإرشادات، خصوصاً للصغار. ويحرص على ألاّ يقعوا على خيار"سيّئ". لذلك، تراه أحياناً، يرسل في طلب الوالد أو الأخ الأكبر ليشرح له مساوئ بعض الألعاب الرقمية، ويرفع عنه مسؤولية العواقب. ويشير هيثم إلى أن الحصول على هذه الألعاب يسير جداً. فهناك نسخ مقرصنة تملأ الأسواق، وهناك الإنترنت، والأصحاب... ويؤكّد أن من المحال ضبط هذه السوق أو دراسة تأثيرات الألعاب في الأطفال، ما لم يتعرّف الأهل على مجرياتها، وما لم يهتمّوا بما تقدّمه الأسواق لصغارهم. والأهم أن يثار اهتمام المربّين. فرغ محل هيثم من الزبائن، فيما استمرّ الشابّان في حديثهما الشيّق. ولوهلة، ظهر أنهما يتكلّمان عن فيلم سينما أو رواية. ويعرّجان على الكاتب، وتأثير الرواية في القرّاء، وينتقدان بعض مكامنها. ويعربان عن تمنيات في ما لو حدث أمر ما بدلاً من أمر آخر. ثم تطرّقا إلى أبعادها السياسية. حديث ثقافي صرف، متّصل في شكل وثيق بواقع، تبيّن لاحقاً أنه واقع افتراضي. وحديثهما كان عن أحداث وشخصيات غير موجودة، أو بالأحرى موجودة بقوة في لعبة كومبيوتر. "سيمْز"مجتمعي الخاص ظهرت لعبة"سيمْز"في عام 2000، وهي من ابتكار ويل رايت. ولا تزال رائجة بين لاعبين من كل الأعمار، وخصوصاً بين الإناث. وهي تقوم على إنشاء أسرة مكوّنة من والدين وأبناء. ويحدد اللاعب لون بشرة كل فرد وثيابه وشخصيته وطباعه، فضلاً عن مدى استعداده للانخراط في"المجتمع". وعليه، ينطلق اللعب في قيادة أشخاصه في علاقة بعضهم مع بعض ومع الآخرين، ليجد نفسه مسؤولاً عن مجتمع كامل. وعلى عكس ألعاب الكومبيوتر الأخرى، في"سيمز"لا غالب ولا مغلوب، وفي هذا ما يدعو إلى استغراب نجاحها. ولعلّ السر يكمن في الشعور بالسيطرة على"الناس"ورؤيتهم من علٍ، وهم يتصرّفون على"هواهم"الذي يحدده اللاعب. وربما كان في اللعبة ما يحمل اللاعب إلى واقع أقل رتابة وتفاهة من حياته اليومية. واللعبة، بالنسبة إلى الصغار، فرصة للتماهي مع شخصية من اختيارهم. وهم يفضّلون التعامل مع شخصية واحدة، وإلاّ تعقّدت الأمور كثيراً عليهم، كما ورد في مجلة"بسيكولوجي"الفرنسية المتخصصة، في عدد أيار مايو. وتسمح ألعاب الكومبيوتر عموماً، بالذهاب إلى أبعد الحدود في التعبير عن النزاعات الداخلية في النفوس، ولكنها لا تدع اللاعب يقترب من الانحراف. وعندما تعترض المصاعب مسار اللاعبين الصغار، يعمدون ببساطة إلى التخلّص من الشخصية التي تتسبّب بتلك المصاعب. وهم في ذلك كأي صغير يكسر دمية ويقطّعها. ويجدون في"سيمز"فرصة لتنفيس غضبهم ومشاعرهم الأكثر عدائية. وهذا يريحهم. فهذا الفعل الرمزي إنما يمنعهم من الانتقال إلى الفعل الحقيقي، كما يعرب متخصصون في علم النفس، علماً أن هذا الموضوع لا يزال مثار جدل. وتكمن خطورة ألعاب الكومبيوتر عموماً، إذا مورست بكثرة، في التعلّق بها أو التعوّد عليها، وفي الابتعاد من الواقع"الحقيقي". وفي"سيمز"، كما يشير خبراء، يلامس الأطفال عالم الكبار، إذ عليهم كسب المال وإدارة الشؤون، والوصاية ومواجهة المتاعب... وهذا ما لا يفقهون به تماماً. ومع ذلك، اللعبة منتشرة في أوساطهم.