تغيّرت أشياء كثيرة في عادات السهر الليلي في «صيدا» اللبنانيّة، وهي عاصمة جنوب لبنان. وتسير أقدام بعض شبابها ومراهقيها من الأحياء الخارجية فيها إلى البلدة القديمة، على عكس ما فعلت أقدام آبائهم الذين خرجوا من العيش الضيّق بين جدران المدينة القديمة إلى عيش أكثر رحابة في أحياء تنطق بالحداثة في شرقها وشمالها. والأرجح أنه لا يصعب على عيون الأجيال الرمادية الشعر، عند عودتها إلى المدينة القديمة، أن ترصد متغيرات جمّة في الحياة اليومية للبلدة التاريخية، خصوصاً حياة الليل فيها. ويبرز متغيّر تكنولوجي لافت: الانتشار الواسع لمقاهي الإنترنت فيها. وفي دهاليز تلك الأحياء، يبدو كأن تلك المقاهي تتبع نمطاً محدّداً، إذ تستقر في الطبقات السفلى من المباني القديمة، على مستوى الشارع. بل أدنى منه في كثير من الأحيان. وتستقر أجهزة الكومبيوتر على خطوط خشبية متوازية، ترسم زوايا متعرجة. ويعمد القائمون عليها إلى تقطيعها إلى «مكعبات»، بحيث يضمن اللاعب ألا يراه أحد، بما في ذلك المارة في الأحياء. وفي البلدة القديمة، تتناقل العائلات أحاديث شتى عن تلك المقاهي. إذ باتت لبعضها سمعة سيئة فعلاً. فعلى رغم كثافة تواجد التنظيمات الدينية (خصوصاً المتشدّدة) وقوة نفوذ مشايخ المساجد، إلا أنهم فشلوا في منع أصحاب تلك المقاهي من «إغواء» المراهقين بإتاحة وصولهم إلى المواقع الجنسية الإباحية على الإنترنت. كما عمد بعضهم إلى وضع ألعاب إلكترونية جنسية على بعض الكومبيوترات في دواخل المقاهي. حيث ثقافة الأجيال الشابة تُعدّ يبدو بعض من الخطاب الديني المتشدّد مهجوساً بالجنس إلى حدّ كبير. ولذا، فمن المهم القول إن أثر الألعاب الإلكترونية يمتد أبعد من هذا البعد المتّصل بالمكبوت والمقموع في الدين. وبقول آخر، فإن ألعاب الكومبيوتر تتضمن مجموعة هائلة من القيم والنماذج وأنماط الحياة، ما يجعلها «مضخّة» للثقافة وصورها وخيالاتها وأهوائها وذائقاتها. وفي ظل الصعود القوي للثقافة البصرية راهناً، يدعمها عربياً الانفجار الهائل للظاهرة المرئيّة - المسموعة على الفضائيات، يصبح نقاش الألعاب الإلكترونية مساحة ثقافية وسياسية واجتماعية، تتجاوز المعطى الديني. ومثلاً، تصادف حلول شهر رمضان المبارك في العام 2008، مع إطلاق لعبة الإنترنت «سبور» Spore التي أصدرتها شركة «إلكترونيك آرتس» Electronic Arts ، بعد تأخير دام 6 سنوات. وتشمل مواضيع تتضمن ولادة الحياة على الأرض وتطوّرها وارتقاءها (بالمفهوم الدارويني تقريباً) و»الانفجار العظيم» («بيغ- بانغ» Big Bang) الذي يفترض أن الكون تشكّل على إثره، إضافة إلى مواضيع شتى من الحياة اليومية. وتذكيراً، فإن الشركة نفسها صنعت اللعبة الإلكترونية الذائعة الصيت «سيمز» Sims، التي يتخذ فيها اللاعب لنفسه شخصية افتراضية في اللعبة. وتتفاعل تلك الشخصية مع نظائرها في مواضيع تتناول العلاقات اليومية، مثل الحب والجنس والعمل والصداقة والتنافس والرياضة وغيرها. وحقّقت أرباحاً ببلايين الدولارات. ولفتت «سيمز» انتباه علماء الاجتماع في أميركا الذين لاحظوا أنها ترسم «شخصيات مُنَمذَجّة» (ستيريوتايب Stereotype) للبشر، إذ يفكّر كل شخص في الآخر باعتباره «نموذجاً» وليس باعتباره فرداً مستقلاً. واستطراداً، قيل في لعبة «سيمز» تكراراً أنها تعزّز الميول العنصريّة والذكوريّة، إضافة إلى تدعيمها التعالي الاجتماعي، وكذلك فإنها ترفع المال بوصفه قيمة تعلو على الأخلاق ما يبرّر فعل أي شيء للحصول عليها. ولذا، انتظر الجمهور والشركات وعلماء الاجتماع والنفس لعبة «سبور»، التي أُعلن سلفاً أنها ستشمل مروحة أوسع من المجالات، بحيث أن صانعها ويل رايت لم يتردّد في وصفها بأنها «الكون في علبة». ومثلاً، ترسم لعبة «سبور» مساراً لكائنات حيّة تبدأ من تراكيب بيولوجية بسيطة (أقل من خليّة) تتطوّر تدريجاً لتصبح خلايا ثم كائنات صغيرة ثم أشكالاً حيوانية بسيطة ثم أشكالاً أكثر تعقيداً ورقياً. وتدريجاً، تكتسب تلك الكائنات ذكاء يمكنها من التطور وبناء مجتمعات واختراع تكنولوجيات ثم السفر في الفضاء. وعلى هذه الخلفية، يستعمل اللاعب مجموعة كبيرة من الأدوات لكي يرسم مسار تلك الكائنات، وفق ما تفيض به مخيلته وتفاعلها مع المسار العام الذي تفرضه اللعبة وتركيبتها. ولم يتردد فرانك غيبو، من شركة «إلكترونيك آرتس» نفسها في القول: «... أعتقد أن تلك اللعبة ستلازم الناس سنوات طويلة». ويُذكر أن الشركة أطلقت أيضاً نُسخاً من تلك اللعبة معدّة لهواتف «أي فون»، إضافة إلى مُشغل الألعاب الإلكترونيّة «نينتاندو» Nintendo من نوعي «وي» Wii و»دي سي» DC. الحياة بوصفها افتراضاً لا يتسع المقال لمناقشة مسألة مهمة وهي ألعاب الإنترنت التي يتشارك فيها لاعبون من شتى الدول، (فاقت أعدادهم الملايين في اللعبة الحربية «ورلد ور كرافت» World War Craft) وأثرها في فكرة الناشئة عن العالم وشعوبه وشبيبته وأحواله. وكذلك يحتاج الأمر إلى نقاشات منفصلة عن ألعاب العيش الافتراضي التي يُعطي موقع «الحياة الثانية» («سكوند لايف» Second Life) نموذجاً منها. وفي مرحلة معيّنة، وصل من ذيوع ذلك الموقع أنه أضحى موضعاً لجهود علماء الاجتماع في أميركا إلى حدّ ولادة نوع جديد من الدراسات الاجتماعية استناداً إلى حركية الأفراد في مواقع المجتمعات الافتراضية. وثمة جهود مماثلة تبذل حاضراً في دراسة موقع «فايسبوك» ومجمل الشبكات الاجتماعيّة، من النواحي السوسيولوجية والنفسية، إضافة إلى دراسة أبعادها استراتيجياً وسياسياً. وكي لا يبدو الكلام إنذاراً وتهويلاً، وهما ليسا قصد هذا المقال، يمكن الإشارة إلى أن تقريراً صدر قبل أعوام قليلة، عن بحث أُعِد بإشراف البروفسور ديفيد جوانتليت وليزي جاكسون من جامعة «وستمنستر» البريطانية. ووفق موقع «بي بي سي»، ورد في التقرير أن العوالم الافتراضية ربما كانت مفيدة في مساعدة الأطفال للتمرّن على ما يتعلمونه في الحياة فعليّاً. وقال إن الحيوات الافتراضية أقوى تأثيراً في الأطفال الناشئة من الكتب وحتى من التلفزيون. وشمل البحث أطفالاً يتابعون برنامجاً بريطانياً يعرف باسم «أدفنجر روك». وأعطى البحث تقويماً عن الكيفية التي ينظر بها الأطفال إلى الحياة عبر تعاملهم مع العالم الافتراضي التفاعلي، وكذلك الكيفية التي يستنتجون عبرها الخير والشر والخطأ والصواب، وهذه مسائل تقع في قلب قيم النظام الأخلاقي للناس والمجتمعات كافة. وكذلك بيّن البحث أن الأطفال تعلموا من نشاطهم التفاعلي مجموعة من مهارات التواصل الاجتماعي المفيدة. ولاحظ البحث نفسه أيضاً أن العوالم الافتراضية تفتح المجال واسعاً أمام الأطفال لتعلّم كثير من جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، من دون الخشية من التعرض إلى عواقب أو الخوف من الوقوع في الخطأ أو العقاب، كما هي الحال في العالم الواقعي. وخلص البحث أيضاً إلى دعوة المربّين والأهالي والمؤسسات الإعلامية والترفيهية إلى إنتاج فضاءات افتراضية مخصّصة للأطفال، وكذلك لجذب أطفال أصغر سناً إلى التعلم والاستفادة من هذه الحيوات الافتراضية وألعابها. وعلى رغم وجود عربي واسع للألعاب الإلكترونيّة، إلا أن علماء الاجتماع العرب ما زالوا بعيدين من الدراسات التي تتناولها في العمق. ماذا عن السياسة والساسة؟ حسناً، يبدو السؤال أقرب إلى نكتة مرحة، لأنها لا تشير إلا إلى خواء هائل!