غالباً ما يتناول الرأي العام القضاء من باب الحوادث المثيرة والفضائح السياسية. والمالية والمسلسلات المتلفزة تروي وقائع قضائية وبوليسية، من تحقيقات ومحاكمات، على نحو ضعيف الصلة بالحقائق. وبث المسلسلات الأميركية لا يعيد الأمور الى نصابها، طبعاً. وتعمد الصحف التي تنقل بعض القضايا المثيرة الى التبسيط والاختزال، وهي قلما تتكلف تعليل أحكام العادلة تعليلاً قانونياً وحقوقياً، وتؤثر عليه التعليل السياسي والاقتصادي أو الاجتماعي. وأما ضوابط عمل الشرطي، أو المدعي العام، أو قاضي التحقيق، أو هيئة المحكمة، أو المحامي، فمسألة غامضة، وقصارى ما يبقى من الصحافة و"الأدب"القضائيين هو فرق عام بين عالم الشرطة وعالم المحاكم. ونقصر ملاحظاتنا فيما يلي، على قاضي التحقيق. وقاضي التحقيق حلقة من حلقات العمل القضائي. وهو يتوسط النائب العام، من جهة، وهيئة المحكمة، من جهة أخرى. وعلى هذا، فتغيير عمل المحقق يترتب عليه تغيير عميق في جملة العمل القضائي. ويقضي التقليد القضائي الفرنسي بمراقبة القضاة التحقيقات الجنائية، ويضطلع، غالباً، بالمراقبة هذه النائب العام. ويطلع المحققون المباشرون، وهم الشرطة أو الدرك، النائب العام على مجريات التحقيق، ويأتمرون بأمره. وإليه يعود البت في مآل التحقيق ومراحله. فهو قد يحيل التحقيق على قاضي تحقيق، فتنظر في القضية الجنائية محكمة الجنايات، ووحده قاضي التحقيق يحق له ان يحيل قضية الى محكمة الجنايات، أو يطلب متابعة التحريات التي قد تقتضي وسائل إكراه وإجراءات ليست من صلاحيات النائب العام ولا من اختصاصه مثل مدد التوقيف الاحتياطي التي تقتصر على 8 ايام الى 16 يوماً إذا تولى النائب العام التحقيق، أو يقترح توقيف مظنون واحد او اكثر من مظنون في اثناء استكمال التحريات. وفي ختام تقصي قاضي التحقيق يسع القاضي إما الإحالة على المحكمة التي يراها مناسبة جنايات، أحداث، جنح... او إخلاء السبيل. وعلى خلاف النائب العام يتولى قاضي التحقيق التحري والتقصي، وشطر راجح من وقته يقضيه في استجواب الشهود والجهة المدعية، أو في الاستنطاق. وإلى هذا، فقاضي التحقيق مستقل، ولا يؤدي حساباً عن عمله إلا في إطار غرفة التحقيق أو محكمة الاستئناف. وبينما يستعيد النائب العام دوره في جلسات المحكمة، حيث يتولى الدفاع عن مصالح المجتمع، لا يضطلع قاضي التحقيق بأي مهمة في هذه المرحلة القضائية. ويخلف قاضي التحقيق، في التنظيم القضائي الفرنسي، هيئة المحلفين التي أوكل إليها قانون الثورة الفرنسية، نقلاً عن النظام البريطاني، النظر في الاتهام. فحل محل هيئة المحلفين، وكانت في رئاسة قاضي. وتولى، بموجب القانون الجديد في 1808، صوغ مادة التقصي والتحريات صياغة قضائية. فكان يستجوب الشهود والمظنون، ويكتب المحاضر ويحققها، قبل ان يحيل القضية الى محكمة الجنايات او الى محكمة الجنح. وعلى هذا، جمع قاضي التحقيق الوجهين: وجه التحري ووجه القضاء والقانون. وثبت القرن التاسع عشر دور قاضي التحقيق. فهو وحده يسعه التصرف في المقتضيات القضائية والحقوقية التي لا غنى عنها في القضايا المتعاظمة التعقيد. وأدى الاضطلاع بالتحقيق في القضايا المعقدة والمركّبة، وهذه بدورها ثمرة طور جديد من أطوار الجريمة، إلى بروز الوجه الشخصي أو الفردي من متولي الوظيفة. فمعهد القضاء الوطني الفرنسي لا يؤهل الدراسين فيه الى مهمة قاضي تحقيق. ولا يعمل قاضي التحقيق في إطار منظم ومترابط اعتاد العاملون فيه على العمل معاً، وعلى مثال منسق. فإذا برز في سياق قضية تثير الأهواء، وتبعث على المناقشة والانقسام، برز وتألق فرداً، وعلى حدة من معاونيه. ومنذ نحو 15 عاماً، شهد دور قاضي التحقيق طوراً جديداً. فهاذ الدور لم يعد يقتصر على ترتيب ملف قضية او على توجيه تقص، فعليه التحكيم في الاستقصاء، والسهر على احترام حقوق المتقاضين، وعلى توفير الحد الأدنى من المقابلات والمواجهات بين اطراف القضية. وهذا من ثمرات التأثير الأنغلو ? ساكسوني. فالإجراء القضائي لا يدين بجودته الى عمل القاضي وحده، بل يدين بها كذلك الى مبادلات المتقاضين ومواجهاتهم. وكانت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، منذ 1993، السباقة الى استناد هذه السنن وتعميمها. وقاضي التحقيق هو محاور المحامي اليومي. ويقتضي الحوار بين قاضي التحقيق والمحامي تبادل البراهين والحجج في اثناء التقصي والتحري عن القضية، وهذا ما لا يلتزمه محامو الدفاع الفرنسيون. فالغالب على ثقافة المحاماة هو إجراء براهينهم وحججهم وأجوبتهم الى حين مرافعتهم الأخيرة. ويتفوق النظام الفرنسي على نظيره الأميركي في ما يعود الى الاستقصاء. فهو يتحرى القرائن والأدلة على نحو أدق، فيتجنب الأخطاء القضائية التي لا يتجنب النظام الأميركي الوقوع فيها. ويقدم النظام الأميركي الحرية الفردية على جودة الأدلة ومتانتها. فيتولى المتقاضون جمع الأدلة والقرائن، وهذا ما لا يعقل في النظام الفرنسي. ولكن دعوة المتخاصمين او المتقاضين الى مراقبة التحريات التي تتولاها السلطات العامة بواسطة قاض، أو من طريقه، أمر مستحسن. وإقراره يبطل قصر الاختيار على قضاء واحد من قضاءين: اتهامي يتولى فيه المدعي أو الضحية، تقديم أدلته نظير أدلة المدعى عليه، وتقضي المحكمة بقضائها وحكمها في المناظرة، أو استقصائي يتولى فيه القاضي التحقيق في القضية ويحاكم المتهم ويدينه من غير التزام تقديم الأدلة. والحق ان القضاءين هذين، على هذه الشاكلة، لم يعودا قائمين. ولا يبدو توكيل هيئة تحقيق من ثلاثة قضاة، على ما انتهت إليه لجنة العدل في الهيئة الوطنية الفرنسية، إجراء صالحاً. فهو باهظ التكلفة، ويؤدي الى إبطاء العمل من غير جدوى نظير البطء، ويثقل على كاهل النواب العامين ويحل هؤلاء من القيود التي يقيد بها قضاة التحقيق. فالنواب العامون غير ملزمين بما يلزم به قضاة التحقيق من علانية ومواجهة وتأن. وينشأ عن تقسيم العمل هذا نظام مزدوج شديد التفاوت في ما يعود الى الضمانات وإلى الصلاحيات، وتتولى النيابات العامة التحكيم في هذا النظام. والحق أن عمل قاضي التحقيق يتنازعه نازعان: واحد الى توسيع الفرق وتعميقه بين استقصاءات النيابات العامة وبين استقصاءات قاضي التحقيق، والآخر الى تباعد الشقة بين القضايا المعقدة، وتتولى معالجتها هيئات مختصة، وبين القضايا العادية والجارية. وتشبه اجراءات القضاء الجنائي، منذ ابتداء الاصلاحات في 1958 وتسارعها منذ 1993، بهلواناً على حافة السقوط، تتجاذبه قوى متناقضة وتعصى الموازنة. ولا علاج للحال هذه الا باجراءات يتواضع عليها السياسيون والقضاة والمحامون والشرطيون، وترسي نظاماً اجرائياً جنائياً متماسكاً. وأول أسس النظام المرجو استقلال النيابات العامة عن وزير العدل. فالتسلسل الاداري الذي يلحق النيابات العامة بالوزير لا يتأتى منه الا الضرر: فهو يرمي الجهاز القضائي برمته بالشبهة، ويصيب الدولة ورجال السياسة بالهشاشة. ولا تجني النيابات العامة من التحاقها بالوزير تماسكاً وطنياً، على ما يزعم بعضهم. فلا يحول شيء دون استقلال النيابات، من وجه، والتزامها اطار سياسة قضائية تقرها الحكومة وتشهد عليها، من وجه آخر. ولا تعجز الوزارة عن مراقبة هذا الالتزام من طرق كثيرة لا تقيد استقلال القضاة. وعلى قضاة المحاكم والغرف اجازة الاستقصاءات كلها، واجراءتها الاستثنائية والقهرية التفتيش، الاستماع الهاتفي، التوقيف، الاستنابات، التوقيف الاحتياطي.... ويعود اليهم النظر في الطعون الناشئة عن الاستقصاء والتحري. وإناطة دورين، موجب وسالب، بالقضاة هؤلاء ليس أمراً ثانوياً، وإن غلب الدور الثاني النظر في ما يطلب اليه ابداء رأي فيه على الأول طلب التحريات واستجواب المتقاضين. وشرطا استقلال النيابات العامة وتوسيع صلاحيات قضاة المحاكم، يترتب عليهما تقييد يد السياسيين وقبول السياسيين هذا القيد. عن ماثيو دوكلو قاضي تحقيق، "كومونتير" الفرنسية، خريف 2007.