ثمة كلمات تقتل وأخرى تشهد وتعبِّر وتُنقذ. والرهان على الكلمة التي تنطلق من دوافع إنسانية وجمالية هو ما دفع بالقيّمين على دار "توركواز" الباريسية إلى إصدار كتاب كبير وفخم بعنوان Non ˆ la guerre"لا للحرب"، ويحمل توقيع كل من الشاعر ليونيل راي وأولاف مولير وفرنشيسكا فابري تحت إشراف ايرهان تورغوت، ونزل إلى المكتبات الفرنسية أخيراً كأنما يواكب حلول عام جديد في عالم يزداد تخبّطاً في نزاعاته وحروبه وخوفه. من هنا جاء الكتاب مثابة صرخة رفض لدورة الحرب والعنف ودعوة الى السلام كبديل أوحد للإنسانية. يغطّي الكتاب قرناً ونصف القرن من الصراعات المسلحة والحروب التي شهدتها مناطق كثيرة في العالم، من الحربين العالميتين إلى فيتناموالجزائر، ومن الصراع العربي - الإسرائيلي إلى الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضدّ لبنان، مروراً بالعراق وأفغانستان والبلقان وأسبانيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. وهذا الكتاب الذي يرسم خريطة العذاب البشري منذ عقود حتى اليوم، ليس مجرّد كتاب يؤرّخ الحروب وحركات السلام التي كانت تناهضها في كل مرة، بل يذهب أبعد من ذلك لأنّه يعطي الكلمة للشعر والصورة الفوتوغرافية. يُقسَم الكتاب إلى ثلاثة أقسام أساسية يأتي في مقدمها الشعر، يليه قسم يتناول حركات السلام في العالم والثالث تمّ تخصيصه للصورة الفوتوغرافية التي نقلت الحروب منذ لحظة ابتكارها في منتصف القرن التاسع عشر. إلا أنّ الصورة الفوتوغرافية ترافق الكتاب من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة. وهناك صور نادرة تُنشَر للمرّة الأولى، وتعبّر عن همجية الحروب والعذابات التي تولّدها، وقد جيء بها من محفوظات مؤسسات ووكالات الصور الفوتوغرافية في أوروبا، ومنها وكالة"روجيه فيوليه"الشهيرة في باريس. أقدمها يعود إلى الخمسينات من القرن التاسع عشر وأحدثها التي التقطت أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان في تموز يوليو 2006، وتمثل رجلاً يسير فوق الأنقاض حاملً بين ذراعيه طفلة ميتة، هي إحدى ضحايا مجزرة"قانا"في جنوبلبنان. أما الشعر الذي يغطي القسم الأكبر من الكتاب فيحتوي على عشرات القصائد والنصوص التي كتبت من وحي الحروب ودفاعاً عن السلام وتحمل تواقيع حوالي مئة شاعر وأديب ينتمون إلى أكثر من خمسين دولة وإلى حقبات تاريخية مختلفة، واللافت أن هناك نسبة كبيرة من الشعراء الفرنسيين في المجموعة من القرنين التاسع عشر والعشرين منهم رامبو، فيكتور هيغو، ابولينار، اراغون، روني شار، بول أيلوار، جاك بريفير، روبير دسنوس، أوجان غيفيك، ومارغريت يورسينار. ومن أسبانيا أنطونيو ماتشادو. من البرتغال فرناندو بيسوا. من ألبانيا إسماعيل كدري. من إيطاليا بريمو ليفي وجيوسيبي أونغاريتي. من ألمانيا برتولد بريخت وغونتر غراس. من تركيا ناظم حكمت. من اليونان يانيس ريتسوس. من روسيا فلاديمير ماياكوفسكي ومارينا تسفتاييفا. ومن أميركا اللاتينية بورخس، بابلو نيرودا، خوليو كورتازار، نيكولاس غيان. من الولاياتالمتحدة الأميركية والت ويتمن، ستينغ بول. من الصين باداو. من اليابان اكيكو يوزانو. ومن الفيتنام نجويان دين تي. ومن أفغانستان سيد بهاء الدين مجروح. ومن السنغال ليوبولد سيدار سنغور، إضافة إلى أسماء من الشيشان وصربيا وروسيا وإيران والهند وغيرها من دول العالم. ولم يغب العالم العربي عن الكتاب لا سيما أن بعض دوله تشكل مسرحاً لأكثر الحروب الساخنة في هذه المرحلة الزمنية لذا يحضر من فلسطين محمود درويش. ومن العراق نبيل ياسين ودنيا ميخائيل. من لبنان عيسى مخلوف وفينوس خوري غاتا. من مصر عبدالمنعم رمضان. من الجزائر محمد ديب. ومن المغرب عبداللطيف اللعبي. انطولوجيا شعرية تؤلّف النصوص المجموعة في الكتاب انطولوجيا شعرية حول الحرب، شاملة وذات طابع عالمي، ويشكل نشرها في هذا السياق علامة مميزة في مجال النشر الفرنسي، وهي تبرز الدور الذي يمكن الكلمة والصورة أن تلعباه لا بوصفهما وسيلة للقتل والموت بل كجسر للحياة والفرح. في تقديمه للكتاب يركز الشاعر الفرنسي ليونيل راي الذي أشرف على المختارات الشعرية، على فكرة السلام ويضعها في إطارها التاريخي والجغرافي. ويقول:"منذ الأشعار الأولى للحضارات التي نعتبر نحن ورثتها، غالباً ما ركّز الشعراء، من هوميروس إلى أبولينير، على الحروب. ونادراً ما التفت الشعراء إلى موضوع السلام الذي يطالعنا عند قلة من الشعراء ومنهم يانيس ريتسوس ومحمود درويش. ومن هنا نفهم لماذا وقع الاختيار على قصيدة"ونحن نحب الحياة"لدرويش. ويضيف ليونيل راي:"لقد مجّد الشعراء البطولات والانتصارات الحربية أكثر من إنشادهم ودفاعهم عن السلام. وهنا نلمس صعوبة لديهم في تناول موضوع السلام وجعله موضوع تأمل وإنشاد قائم بذاته". أما الصور الفوتوغرافية التي أتينا على ذكرها فهي لا تزين القصائد والنصوص، بل تأتي مواكبة لها في شحنتها التعبيرية البليغة. وإذا كان بعض تلك الصور قد بات أليفاً لعين المشاهد من فلسطين إلى ناغازاكي إلى العراقولبنان، فإن بعضها يقدم جديداً من خلال تصويره أجواء الحرب. من الصورة التي تفتتح بها المختارات الشعرية وتمثل جدار الفصل وما يمثل من حقد وإقصاء وقد كتبت عليه"لتتوقف الحرب العنصرية"، وأمام الجدار شجرة زيتون ترمز إلى الأمل، إلى صور الإعدام شنقاً في تركيا، إلى انسحاب الجيوش العثمانية بعد اندحارها إبان الحرب العالمية الأولى، إلى صورة تمثل أسيراً عراقياً ملثماً يحتضن ابنه البالغ من العمر أربع سنوات، إلى صورة الحمامة الواقفة إلى جانب جندي يحمل بندقيته وقد التقطها مصور وكالة الأنباء الفرنسية يان جونس، وجاء في النص المرافق لها أن الحمامة دخلت بالمصادفة ضمن حملهُ عسكرية من الولاياتالمتحدة إلى العراق في آذار مارس 2003، وقام الجنود بإطلاق سراحها بعد أن أطلقوا عليها اسم"هاري"... تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الكتاب أفرد حيزاً للحديث عن الحركات المناهضة للحروب في العالم، كما أتى على ذكر أسماء الشخصيات الحائزة جائزة نوبل للسلام منذ تأسيسها عام 1901 حتى اليوم. وإذا كان الكتاب لا يقع في التنظير السياسي ولا يقدم أطروحات محددة فإنه يكشف من القصائد والنصوص المختارة، وخصوصاً من الصور التي تغطي حروب السنوات الأخيرة، موقفاً مضمراً من الولايات الأميركية ومسؤوليتها المباشرة عما يحدث في عالمنا اليوم.