بعد عشر سنوات من رحيله يستقطب الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس 1909-1990 المزيد من الاهتمام سواء في لغته التي كتب بها مجموعاته الشعرية التي تزيد عن المئة، أم في اللغات الكثيرة التي ترجم اليها في شرق العالم وغربه. وبغض النظر عن الاشكال والصيغ الشعرية التي تتوسلها قصائده، سواء أكانت قصائد قصيرة تعنى باليومي والتفاصيل الصغيرة التي تلتقطها عدسته الشعرية أو ملاحم شعرية تعيد تأويل تاريخ اليونان المعاصر على ضوء الأساطير الإغريقية الحاضرة في قصائده القصيرة والطويلة على السواء. فإن ترجمات ريتسوس الى اللغات المختلفة تزداد يوماً بعد يوم، كما ان قصائده تستعاد على الدوام في ترجمات عديدة تحاول اعتصار العالم الريتسوسي الساحر، الواضح - الغامض، اليومي -الأسطوري، الواقعي - السوريالي، وتقديمه للقراء في ثوب جديد من الكلمات والإيماءات. لعل هذا الإغواء الشعري هو ما جعل الزميل عبده وازن يحيي ريتسوس بعد عشر سنوات من الغياب معلقاً على شعره، مترجماً بعض قصائده التي كتبها في الأيام الأخيرة من اقامته على الأرض، ومنبهاً الى عمق تأثير شعره على جيل السبعينات والثمانينات في القصيدة العربية الجديدة أنظر مقالته وترجمته في الحياة، 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2000. وخصني الزميل وازن في مقالته ببعض الملاحظات التي جعلتني أحاول استعادة ردود الفعل المختلفة التي أحدثها كتابي "شعرية التفاصيل: أثر ريتسوس في الشعر العربي المعاصر" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1998، وضم الكتاب اضافة الى الدراسة ترجمة لخمسين قصيدة قصيرة من شعر ريتسوس أنجزت صيغتها العربية عن الترجمة الانكليزية التي قام بها نيكوس ستانجوس عن اليونانية يانيس ريتسوس، قصائد مختارة، بنغوين 1974. وكان اهتمامي بريتسوس قد بدأ في نهاية السبعينات بعد اطلاعي على ترجمة سعدي يوسف لبعض قصائده القصيرة التي ضمها في كتاب نشره بعنوان "ايماءات" دار ابن رشد، بيروت، 1979، ثم عثرت بعد هذا التاريخ بأعوام قليلة على مختاراته المنشورة باللغة الانكليزية، والتي استخدمها سعدي يوسف. وتنبهت بعد مقارنة ترجمة سعدي العربية بالترجمة الانكليزية الى طريقة اختيار سعدي لقصائد ريتسوس، وهي قصائد تقترب من خياراته الشعرية الشخصية وتتلاءم وتوجهاته الشعرية التي تحاول تخليص القصيدة العربية الراهنة من أسر البلاغة التي تثقل روح الشعر العربي المعاصر، وتسعى الى تحويل الشعر الى تعبير يتخفف من الزخرفة اللفظية والبلاغية ويتوسل اليومي والتفصيلي وبلاغة الراهن والتجريبي المباشر. ويبدو أن التقاء تجربة القصائد القصيرة في شعر ريتسوس، مع خيار سعدي يوسف الشعري، وكذلك النظري، جعله يضرب صفحا عن القصائد الملحمية الطويلة التي تسلك درباً مغايراً للقصائد القصيرة. ومن ثم عرف الشعراء العرب الشبان في بداية الثمانيات بعضاً من تجربة ريتسوس الشعرية عبر خيار سعدي يوسف واختياراته، على رغم ان القليلين من الشعراء العرب وعلى رأسهم عباس بيضون كانوا قد احتكوا بقصائده الطويلة في ترجماتها الى اللغتين الفرنسية والانكليزية. لكن هذا الاحتكاك غير البارز بالشاعر اليوناني الكبير لم يهيئ التربة للتأثيرات العميقة التي خلفتها قصيدة ريتسوس والتي لمسناها في العقدين الأخيرين. تصفى تأثير ريتسوس، في شعر سعدي يوسف وأمجد ناصر ونوري الجراح ولينا الطيبي ووليد خازندار وزكريا محمد وآخرين، عبر تلك القصائد القصيرة التي اطلع الشعراء العرب الشبان عليها من خلال ترجمات سعدي يوسف ورفعت سلام وآخرين، وكذلك عبر ترجمات ريتسوس الى الانكليزية. وقد قمت في "شعرية التفاصيل" برصد هذا الأثر المخصب للقصيدة العربية الجديدة محاولاً تفهم الأسباب التي جعلت هذه القصائد تؤثر بصورة خاصة في عدد من التجارب الشعرية العربية الشابة. واضعاً هذه التأثيرات في سياق بحث القصيدة العربية في نهايات القرن العشرين عن أرض جديدة وأشكال تعبيرية تستجيب للتجربة الراهنة من العيش ورؤية العالم. وسواء وفقت، أم فشلت، في تأويلي لنقاط التطابق أو التماثل بين تجربة ريتسوس، في قصائده القصار، وعدد من التجارب الشعرية العربية فإن ما رغبت في التشديد عليه يتمثل في تهيؤ الشعرية العربية لتقبل ذلك النمط من الكتابة الشعرية التي تحتفل باليومي والتفصيلي المصعد الى حافة الأسطوري. لقد كانت أرض الشعر العربي متعطشة في أواخر السبعينات لمثل هذا التأثير بسبب الإرهاق الذي وصلته جراء النبرة العالية والإيقاع الصاخب وإهمال التفاصيل لصالح الموضوعات الكبرى. لكن هذه الرغبة في تبيان الأفق الذي تتجه اليه القصيدة العربية في السنوات الأخيرة فهمت خطأ، كما اعتقد. وبغض النظر عن هشاشة المشروع الذي قدمته، حول صعود "قصيدة التفاصيل"، أو تماسكه، فإن تأويل دراسة تأثيرات قصيدة ريتسوس استناداً الى تراث الانتحال والسرقة في النقد العربي القديم ينحرف بما كتبته عن قصده الأساسي وغايته في تبيان كيفية ارتحال شعر معين في لغة أخرى عبر الاحتكاك المباشر أو الترجمة. انني لا أرغب في فضح المتأثر والكشف عن مصادره الشعرية بل أسعى الى تبيان مواطن التلاقح الابداعي بين اللغات والتجارب الشعرية، وما يولده الاحتكاك والتناص من عميق الأثر على اللغات الشعرية وتجارب الشعراء وأشكال التلقي وبروز تيارات شعرية بعينها في لحظات محددة من الزمن. لم يكن هدفي من القراءة المقارنة تقديم رصيد حساب للمؤثرات الخارجية على الشعر العربي الجديد بل النظر الى شروط اللقاء بين بعض شعر ريتسوس وشعر عدد من الشعراء العرب في اللحظة الراهنة. ومع ذلك لا يبدو حضور ريتسوس عربياً مكتملاً من دون الاطلاع على العالم الشعري المترامي الأطراف والمتعدد المشاغل لهذا الشاعر اليوناني الكبير. و"التجربة الشاملة" لريتسوس التي يتحدث عنها وازن في مقالته بدأت تتكشف للشاعر والقارئ العربيين في السنوات الأخيرة بعد أن بدأت ترجمات قصائده الملحمية الطويلة تتوالي الى العربية، عن اليونانية مباشرة في ترجمات قليلة محدودة، أو عن لغات وسيطة مثل الفرنسية والانكليزية. فقد صدرت في السنوات العشر الأخيرة كتب تضم مختارات من ريتسوس 1 وتعمل على تقديم قصائده القصيرة وكذلك ملاحمه الشعرية حتى يتعرف القارئ العربي على التنوع المدهش لعالم ريتسوس الشعري الذي يضم الى جانب القصائد القصيرة، التي تتسم بالانشغال بالتفاصيل اليومية وجدل هذه العاديات وقيامها على تاريخ اليونان وحكاياته الرمزية، قصائد ملحمية طويلة وقصائد درامية تقيم حبكتها على الأساطير اليونانية لتكشف، من ثم، عن وجه اليونان المعاصرة التي كانت تنوء تحت حكم الجنرالات طيلة ثلاثة عقود من الزمن بعد نهاية الحرب الثانية. في هذا السياق من تأمل أثر احتكاك الشعر العربي في اللحظة الراهنة بتجارب شعرية من لغات أخرى، يبدو نقل أكبر قدر ممكن من قصائد ريتسوس الى العربية، بغض النظر عن اللغة المنقول عنها وان كان مفضلاً اللجوء الى اللغة اليونانية مباشرة، ضرورياً لتوفير تعرف أفضل على شعر هذا الشاعر المدهش في قدرته على اكتشاف الشعر في الأشياء والمشاهد اليومية المعتادة. 1 أشير هنا الى ما قام به رفعت سلام من ترجمة قصائد ريتسوس عن الانكليزية في: "اللذة الأولى" الملحقية الثقافية اليونانية، القاهرة، 1982، و"البعيد: مختارات شعرية شاملة" الهيئة المصرية العامية للكتاب، القاهرة، 1997: وكذلك الى ترجمة فاروق فريد لمختارات بعنوان "قصائد للحرية والحياة" عن اليونانية مباشرة دار الساقي، لندن، 1994، وذلك من بين ترجمات متفرقة أخرى كثيرة.