ما هي أنواع اللقاءات التي تُقيّض للمرء حين يسير ليلاً في مدينة مثل بيروت؟ أنواع كثيرة بالتأكيد، ولكن يمكن التوقف عند نوعين منها: لقاء المرء مع الآخرين الآخر عموماً، ولقائه مع نفسه. أما حين يختلط الآخر بالذات، والعكس بالعكس، فإن ما ينتج عن هذا لقاء من النوع الثالث: لقاء مع الحياة. ولنكن أكثر تحديداً: التقاء النظرة بالحياة. ولأن مشاهد الحياة المعنية هنا لا تكون واقعاً مكتملاً مبرراً ومفسراً، يصبح اللقاء بالأحرى: لقاء النظرة بشرائح من الحياة، قد يكون كل منها في حاجة الى تفسير وتوضيح، ما يفرّع الحكايات وينتج روايات من النوع المسمى"الرواية النهر""يوليسيس"جيمس جويس مثلاً، أو"برلين الكسندر بلاتز"ألفرد دوبلن -. لكننا نكون هنا قد ابتعدنا عن السينما. فالسينما، أعني السينما الحقيقية الراغبة في أن تصوّر اللقاء بين النظرة وبين الحياة كما هي، لا يمكنها إلا أن تمر عبوراً بتلك المشاهد، مدركة ان تراكمها، من دون تفسير، أو تبرير ثرثار، هو الذي يشكل الفيلم. والفيلم هذا يكون، في العادة، منتمياً الى نوع سينمائي خاص جداً، ينظر الى نفسه وريث كل إنجازات السينما عموماً، إنما بعد أن يصهر كل تلك الإنجازات السابقة في بوتقة واحدة هي الفيلم الذي يحققه صاحبه انطلاقاً من هذا كله. ومن الواضح ان فيلماً من هذا النوع سيكون من الصعب القول انه ينتمي الى"نوع"محدد. لأن النوع يستدعي التصنيف. والفن الحقيقي، مهما كان ثرياً أو متقشفاً أو بين بين يكون، بالضرورة، خارجاً عن أي تصنيف... وعلى الأقل عندما يظهر كالنيزك في فضاء فن السينما... راسماً في الدرجة الأولى علاقة مبدعه بالحياة. بصورة الحياة وقد ابتعدت عن الأدلجة، وعن الغائية، وعن محاولة التحول الى موعظة أخلاقية أو رسالة نضالية. هذا النوع من تصوير الحياة هو ذاك الذي اختاره ميشال كمون،"اسلوباً"سينمائياً له في فيلمه الروائي الطويل الأول"فلافل"الذي قدم في بيروت قبل أيام في عرضه العالمي الأول. شغف بالسينما منذ البداية لا بد من القول ان هذا الفيلم اللبناني يأتي ليُضاف الى سلسلة قليلة العدد من أفلام لبنانية متميزة تشمل، في ما تشمل، شرائط لزياد الدويري "بيروت الغربية" ودانيال عربيد "معارك حب"، بدأت تظهر خلال سنوات ما بعد الحرب، وريثة شرعية لتلك البدايات اللبنانية التي حملت تواقيع مارون بغدادي وبرهان علوية على وجه الخصوص. غير انه سيكون من الظلم لفيلم كمون الأول اعتباره فقط إرثاً لهذه البدايات. هو بالأحرى وريث ولهٍ بالسينما، السينما الكبيرة والمستقلة، الأوروبية واليابانية، يتملك ميشال كمون منذ يفاعته، وسبق له أن عبر عنه في نصف دزينة من الشرائط القصيرة التي اعتبر معظمها تحفة وجلّها عرض على الشاشات الفرنسية والبريطانية ما يجعل كمون، الثلاثيني، غير معروف للمتفرج اللبناني أو العربي كما ينبغي. ميشال كمون، وهذه ميزته الأولى، يأتي الى السينما من فن السينما نفسه، من شغفه بفيم فندرز وجارموش واوزو وناني موريتي وتوماس بول اندرسون ويمكن للائحة أن تطول، ومن يدقق في ثنايا"فلافل"لن يفوته أن يعثر على"تحيات"لهؤلاء، في لقطة من هنا أو مشهد من هناك. غير ان هذا يظل مسألة ثانوية جداً لأن الأساس في هذا الفيلم الطموح والفائق الجمال، هو الشغف بالحياة. فإذا كان كمون قد تعلم شيئاً من أسلافه، فإن هذا الشيء هو أولاً ان السينما يجب أن تقول الحياة كما هي، لتشكل حياة موازية. ولأن المسألة، هنا، مسألة سينما أي الفن البصري بامتياز -، ولأن الفن البصري غير مخول بالتفسير والتبرير، لا يعود على السينمائي، سوى أن ينقل على الشاشة ما يرى أنه الحياة. ولِنَقْل هذه الحياة يجعل كمون جزءاً أساسياً من فيلمه"فيلم طريق"، رحلة تستغرق ساعات في ليلة واحدة يقوم بها"بطله"، أحياناً بحثاً عن شيء ما، وأحياناً من دون هدف، هي في نهاية الأمر رحلة في حياة هذا الوطن، هذه المدينة، في طوبوغرافيا المدينة - بالمعنى المادي الخالص -، وفي طوبوغرافيا الوطن، بالمعنى المرتبط بكيف صار هذا الوطن بعد الحرب. للعين دور أول هذا كله، يُروى لنا في الفيلم بصرياً، أكثر مما يروى لنا من طريق أي ثرثرة لفظية. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار ميشال كمون، الى جانب المصري يسري نصرالله في"مرسيدس"فقط، والى جانب ايليا سليمان في أفلامه كلها، واحداً من قلة من مخرجين عرب أدركوا أهمية اللغة السينمائية البصرية في بعدها الحقيقي، كجوهر للسينما. ولعل خير دليل على هذا، في فيلم"فلافل"، هو تلك المشاهد العابقة بالكوميديا السوداء غالباً والتي تبدو منتمية الى زمن السينما الصامتة، حيث يكون للحركة والتعبير وقع المفاجأة التي تعطي المشهد دلالته، وغالباً ما تثير الضحك في الصالة. ولا بأس من أن نفتح هلالين هنا، لنقول ان"فلافل"على رغم كل جدية موضوعه، ومأسويته في بعض الأحيان، فيلم يضحك فيه الجمهور كثيراً، ربما بفضل ما يراه على الشاشة، ربما بفضل ما يحسه من إسقاط وتماهِ بين شخصيات على هذه الشاشة، وبين ذاته. "فلافل"إذاً، فيلم طريق، تستغرق"حوادثه"بضع ساعات. نقول حوادثه ونعرف أن ليس ثمة أموراً كثيرة تجرى في هذا الفيلم. ما يجري فقط هو حكاية توفيق تو، العشريني الهادئ البسيط، الباحث عن حكاية حب مع مراهقة هادئة بسيطة، وسط حفل راقص يجمعهما بأصدقاء ورفاق من النوع الذي يملأ، على تناقضاته، ليل بيروت الصاخب في الداخل، المظلم التعيس في الخارج كما لو كان مستقى من رواية لكارسون ماكلرز أو من لوحات لإدوارد هوبر -. وتوفيق يقوم بتجواله بين الداخل والخارج، بين الرقص واللقاءات العابرة، ما يتيح لنا عبر نظرته غالباً أن"نرى"هذه النوعية أو هذه النوعيات من الحياة -، وان نرى خصوصاً ذلك الهذيان اللبناني، الذي نعرف ان سينمائيين كثراً في لبنان حلموا بتصويره على الشاشة، منذ السنوات الأولى للحرب اللبنانية، لكن أحداً منهم لم يفعل في شكل جدي. غير ان الهذيان لدى ميشال كمون لا يكتمل إلا في أجزاء من الفيلم، وخصوصاً من حول حكاية قرص الفلافل الهارب، وحكاية بائع السلاح الذي يغرق فجأة في البكاء، وحكاية"الرجل المهم"الذي سيهين توفيق، ليندفع هذا خلال النصف الثاني من الفيلم باحثاً عنه ليثأر منه لكرامته. ولكن هنا علينا ألا نفترض ان هذا الاندفاع يشكل حدثاً ما في الفيلم. هو ليس، في نهاية الأمر أكثر من مبرر لتمكين نظرة توفيق من التقاط تلك المشاهد الحياتية التي أشرنا اليها أول هذا الكلام. ولكن ما الذي تلتقطه نظرة توفيق، نظرة المخرج ونظرتنا نحن المتفرجين بالتالي؟ أحداث صغيرة، من التي يمكن أن تحدث في كل يوم. أحداث قد يخيل الى المتفرج أن توفيق، ما ان رآها، حتى شحذ همته وراح متابعاً. لكن الحقيقة ان كل حادث من هذه الحوادث سيتوقف هنا، مع نظرة توفيق اليه. مثلاً، حين يشاهد توفيق سيارة فيها مسلحون يخطفون سائق سيارة أخرى وسيارته، لن يتعدى الأمر في الفيلم هذا البعد. تتوقف علاقة توفيق بالأمر عند هذا الحد. وأم توفيق حين تنتظر ابنها المتأخر ليلاً، بكل قلق وتعود اليها الكاميرا مرات عدة وهي تدخن خائفة... لن يتواصل قلقها، عندما يعود توفيق ستكون قد نامت! وياسمين، غرام توفيق، عندما يختفي هذا الأخير، ستعود الى بيتها على عكس ما يحدث في"السينما"حيث يمكن ان تواصل هي المشاركة في البحث -. وتاجر السلاح الذي يشتري منه توفيق المسدس لقتل"الرجل المهم"سيتركه توفيق غارقاً في نحيبه... تماماً كما يترك الدراجة النارية قرب مخفر الشرطة ويهرب. نهاية ما ولأن لا شيء لدى ميشال كمون يأتي من الصدفة أو يدخل في سياق فيلمه في شكل مجاني، واضح ان كل هذا الترك للأمور معلقة، إنما هو تمهيد لشيء ما... وسنكتشف انه يمهد لنهاية الفيلم. هذه النهاية التي من دون أن نتحدث عنها هنا تفصيلياً، تبدو لنا أقوى نهاية شهدها فيلم عربي أو لبناني منذ وقت طويل. ولئن كان ميشال كمون حرص في طول فيلمه وعرضه، ألا يسبغ عليه أي ابعاد سيرة ذاتية، في استثناء تلك الإطلالة المتواصلة على الحياة، والتي يمكن أن تكون إطلالة توفيق أو إطلالة المخرج أو إطلالتنا، نحن المتفرجين، إذ نتوحد في هذا الفيلم من خلال عملية التماهي بالغة الدلالة والإسقاط، فإن المخرج لم يتمكن من أن ينهي فيلمه من دون ان يدخل فيه، وفي شكل رائع، جزءاً من سيرته الذاتية، المتعلقة بالارتباط الحنون الذي كان يعيشه بوَلَه مع شقيقه الأصغر سناً روي، والذي قضى قبل سنوات في حادث غرق في أحد الأنهر. واضح هنا ان ميشال كمون أهدى هذه النهاية، وليس الفيلم كله كما يشير في كتابة على الشاشة الى ذلك الأخ الغائب. والنهاية تتضمن، لكي لا ندخل في تفاصيلها - أخ توفيق وقد بلل نفسه وجلس منتظراً أخاه عند الفجر مكان أمه، ثم اعتناء توفيق بأخيه وصولاً الى وضعه في سريره هو، أي سرير توفيق. لأن هذا الوضع مكنه من أن يصور أجمل وأقسى لقطات الفيلم: اللقطة البانورامية التي تبدأ بسرير الأخ الخالي منه. ونحن نعرف رمزية السرير الخالي ليلاً من صاحبه. هذه اللقطة التي تصاحبها موسيقى توفيق فروخ الاستثنائية، والحركة المنتمية الى عالم يوسيجورو اوزو الياباني ذي الخصوصية التشكيلية التي باتت واحداً من ضروب شغف بعض أفضل السينمائيين في عالم ما بعد الحداثة، من اندرسون الى ايليا سليمان مروراً بجيم جارموش، تأتي هنا، من ناحية لتذكرنا بمأساة ميشال كمون العائلية الخاصة، وبمدى سينمائية هذا المخرج، الذي يبدو ولمرة نادرة في السينما اللبنانية والعربية محكم السيطرة على فيلمه، أولاً بكتابة متماسكة للسيناريو، ثم بإدارة متمكنة لممثلين جلهم من الهواة، وبعد ذلك باستخدام مدهش لبعض الفنانين الراسخين، وأخيراً باستخدام الصورة والصوت والموسيقى لخدمة عمل، من المؤكد انه، إذا كان يتسلل الى الذاكرة ببطء، يتسلل اليها بفعالية وقوة وتوريط للمتفرج، توريط لا ينجو منه المتفرج بسرعة. ذلك ان"فلافل"بتفاصيله وهو فيلم تفاصيل أولاً وأخيراً، كما يجدر بالسينما الكبيرة ان تكون -، سيبقى في ذاكرة المتفرج سنوات طويلة بعد ان تُنسى أفلام كثيرة أخرى. أما بالنسبة الى مخرجه، فإنه بالتأكيد،"بسذاجة"سينماه المصطنعة، بمكره واشتغاله الخلاق على لعبة التلصص بين المتفرج والفيلم، كما بين شخصيات الفيلم وما حولهم، فتح طريقاً مدهشاً لسينما لبنانية جديدة... لبنانية خالصة من دون لف أو دوران، سينما تنتمي الى السينما أولاً وأخيراً، طريقاً سيسهل عليه خوض مشاريعه المقبلة، في الوقت الذي من المؤكد انه لن يبقي بعض السينما اللبنانية الجديدة على بلادة بدأت تتسم بها. من السيناريو الى الشاشة منذ طفولته يعيش ميشال كمون السينما بكل جوارحه، هو الذي ولد في حقبة العصر الذهبي للسينما العالمية وفتح عينيه واعياً مع البدايات الحقيقية للسينما اللبنانية على أيدي مارون بغدادي وبرهان علوية وجوسلين صعب وجان شمعون. كمون اللبناني الذي عاش سنين كثيرة من حياته في باريس، حيث كانت هوايته ونشاطه الوحيدين، مشاهدة الأفلام مرات ومرات واكتشاف كيف يعبر الفن السابع عن نفسه في العالم، كان في الثالثة والعشرين، العام 1992 حين انهى دراسته السينمائية في العاصمة الفرنسية بعد نيله ديبلوم رياضيات في بيروت. وهو على الفور بدأ يتحرك لتحقيق أفلام قصيرة وطويلة كان يحلم بها، كاتباً عشرات السيناريوات خلال عمل ليلي في أحد الفنادق الباريسية الصغيرة. ولكن اذا كان قيض له باكراً أن يحقق شرائط قصيرة، فإن حلمه بتحقيق أول فيلم طويل له، كان عليه أن ينتظر أكثر من عقد من الزمن. لكن تلك السنوات لم تكن ضائعة في حياته. فهو اضافة الى كتابته لسيناريوات بعضها رائع وينتمي الى انواع سينمائية عدة، حقق لقناة"آرتي"الفرنسية - الألمانية أول افلامه القصيرة"كاتوديك"1993 وهو عمل مميز ينتمي الى الكوميديا المقابرية السوداء التي ستميز معظم افلامه القصيرة التالية: من"ظلال"1995 الذي اهداه الى ذكرى مارون بغدادي وصوره في بيروت ثم"الدوش"تلك التحفة الصغيرة التي حققها في العام 1999، متأثراً فيها بموت شقيقه الصغير والوحيد غرقاً. وخلال العامين 2002 - 2003، حقق كمون فيلمين للتلفزة البريطانية"تهريج في الجوار"و"الارانب المختفية". ومنذ العام 1995، وهو في باريس قبل أن يعود بشكل شبه نهائي الى لبنان، راح كمون يحضر لفيلمه الروائي الطويل الأول، الذي تبدل موضوعه ومنتجوه الممكنون مرات ومرات. لكنه، منذ عاد الى بيروت، وبدأ يواجه الحياة اللبنانية ما بعد الحرب، استقر أمره على"فلافل"، السيناريو الذي كتبه انطلاقاً من رصده الساخر للحياة المحلية، ومن رغبته في تحويل ذلك الرصد الى صور، كعادته في أفلامه القصيرة. ولقد اضطر كمون الى الانتظار نحو عشر سنوات قبل أن يتمكن من تحليق فريق عمل لبناني خالص، كما يقول من حوله، ويبدأ وحيداً والى درجة اليأس أحياناً، في جمع الاموال القليلة نسبياً اللازمة لانجاز الفيلم. واستغرقه انجاز الفيلم نحو ثلاث سنوات كاملة، منها سبعة اسابيع تصوير فقط. واليوم اذ يتحدث كمون عن"فلافل"بارتياح مشوب ببعض القلق، يقول إن الفيلم، على رغم أنه فيلم مؤلف، يدين في وجوده الى افراد الفريق الذي عاونه، ممثلين وتقنيين، ومنهم من لم يسبق له أن وقف وراء الكاميرا أو أمامها. والحقيقة أن النتيجة في المكانين تجعلنا نشكك في صحة هذا القول!