ثلاثون عاماً مرت منذ وصل مارون بغدادي الى بيروت، عائداً من فرنسا، ليؤسس السينما اللبنانية الجديدة، مع برهان علوية وجان شمعون وآخرين. وعشر سنوات مرت منذ عاد مارون بغدادي مرة أخرى الى بيروت بعد غياب سنوات، ليحقق فيلماً جديداً عنه وعنها فكان الموت له في المرصاد. في مثل هذه الأيام من العام 1993 قتل مارون بغدادي في حادث يبدو لتفاهته عصياً عن التصديق. وحتى اليوم لا يزال ثمة كثر لا يصدقون ان ما حدث قد حدث على النحو الذي استقرت عليه الحكاية. ولكن هل يبدو هذا مهماً اليوم بعد كل هذه السنوات؟ في حسبة بسيطة سنجد ان السينما اللبنانية الجديدة عاشت في "عصر مارون بغدادي ورفاقه الذين صاروا الآن - وبسرعة حركة الزمن! - مخضرمين" عقدين من السنين. وما لا شك فيه أن مارون بغدادي كان طوال ذينك العقدين، الأبرز والأكثر ديناميكية و... اثارة للجدل. فهو، مثل كل الذين يسرعون بالانفصال عن جيلهم، عرف مساراً حياتياً ومهنياً، ميزه، وجعل منه ذات عام "واحداً من آمال السينما المصرية" - بحسب تعبير مجلة "تيلراما" في ذلك الحين، وكان يجعل منه واحداً من مخرجي الموجة الجديدة في هوليوود، في ظل فرانسيس فورد كوبولا، لولا افلاس شركة هذا الأخير في ذلك الحين. فالواقع ان مارون بغدادي الذي كان قصد هوليوود في ذلك الحين، انضم الى جماعة كوبولا وتدرب على يديه في فيلم "واحد من القلب" ما اتاح له الاتصال، مثلاً بالكاتب - المخرج بول شرايد، ليكتب له هذا الأخير سيناريو كان مارون يزمع تحقيقه بعد مشروعه الأخير "زوايا" الذي قتل في بيروت من دون تحقيقه. ولئن كانت حكاية مارون بغدادي مع السينما الأميركية مختصرة الى هذا الحد، فإن حكايته مع السينما الفرنسية كانت أطول وأعمق. فمارون، منذ انتهت مرحلته اللبنانية الأولى، وقصد فرنسا أوائل الثمانينات مع فيلمه الروائي الطويل الثاني "حروب صغيرة"، ارتبط، انتاجاً ثم مواضيع، بالسينما الفرنسية. ارتبط بها أولاً كلبناني يسعى وراء من يمول مشاريعه في فرنسا، ثم كمخرج يهتم بالمواضيع الفرنسية، على الشاشتين الكبيرة والصغيرة. والحال أن تميزه في سينماه اللبنانية، جرّ وراءه تميزاً في السينما الفرنسية، بل حتى تميزاً لافتاً حين حقق فيلمه الوحيد للتلفزة البريطانية "بطيئاً... بطيئاً في الريح" عن قصة لباتريسيا هايسميث. يومها كان هذا الفيلم واحداً من شرائط بوليسية عدة كُلف بها مخرجون من شتى أنحاء العالم، فكان اجماع على ان شريط بغدادي كان الأفضل. ولن نبدو فعالين هنا إن نحن نقلنا عن الفرنسيين أنفسهم أن الشريط الذي حققه بغدادي نفسه للتلفزة الفرنسية عن مقتل الثائر مارا، ضمن اطار سلسلة انتجت في ذكرى الثورة الفرنسية، ان فيلم مارون بغدادي كان هنا، أيضاً، الأفضل. فالحال ان مارون بغدادي كان سينمائياً... ولد كذلك وعاش كذلك. كانت الصورة حياته وهمه وقوته اليومي. ولم يكن مبدعاً في السينما والتلفزة بل كان متفرجاً متميزاً أيضاً. فهل علينا أن نذكِّر بأنه ما كان يمضي يوماً من حياته من دون أن يشاهد فيه أفلاماً عدة؟ ومن دون أن يقرأ عن السينما؟ ومن دون أن يخوض النقاش أثر النقاش من حولها؟ وكل هذا يمكننا اليوم، وفي كل بساطة، أن نشاهده في أفلامه، أو ما تبقى منها. ذلك أن ثمة أعمالاً لبغدادي صارت اليوم كالأشباح: تحس وجودها، تعرف عنها كل شيء، ولكن من الصعب أن تشاهدها. والحال أن سينما مارون بغدادي لم تنتظر موته لتكون هكذا. فهو، نفسه، خلال حياته، كان - لغاية أو لأخرى - يخفي هذا الفيلم أو ذاك، يكره هذا الفيلم أو ذاك. والواقع اننا إذا شاهدنا اليوم بعض أفلام مارون بغدادي - في مرحلته الأولى - يمكننا أن نفهمه ونعذره. فهو، لحبه السينما ولأن السينما بالنسبة اليه كانت فن الكمال، كان يحب الوصول الى الكمال. طبعاً هو لم يصل اليه أبداً، لكنه وصل الى صورته عنه على الأقل... لكن لاحقاً، حين اتيحت له الظروف التقنية التي مكنته من ذلك: في فرنسا تحديداً. في لبنان منذ العامين 1973 - 1974، بدأ مارون بغدادي عمله السينمائي بعدما درس الحقوق والعلوم السياسية في لبنان، ثم السينما في فرنسا. وكان "بيروت يا بيروت" طويله الروائي الأول ثم كان "حروب صغيرة" آخر روائي طويل حققه في لبنان. الفيلمان عن الحرب، أولهما يتنبأ بها 1975 والثاني يعلن افتتان المخرج بها ورغبته، في الآن معاً، في مبارحتها. بينهما حقق شرائط قصيرة عدة، منها ما هو نضالي ومنها ما هو متهكم ومنها ما هو شاعري. وفي الأحوال كافة كان ذلك كله يعلن مجيء مخرج كبير وسينما متميزة تعطي لبنان نكهة سينمائية ما كانت له أبداً في تاريخه. بعد عرض "حروب صغيرة" في "كان"، قرر مارون بغدادي البقاء في فرنسا. وهناك كان من أول أعماله فيلم "الرجل المحجب" الذي - الى تميزه الفني - جاء أشبه بتصفية حساب سياسية مع افتتان مخرجه السابق بالحرب. ومن هنا أثار من السجال ما أثار. بعده تراجعت حميّاً تصفية الحساب لديه فكان "لبنان أرض العسل والبخور" عن فصل من حكايات "أطباء بلا حدود"، في موضوع عاد اليه في "خارج الحياة" - أفضل أفلامه على الاطلاق الى جانب "الرجل المحجب" - الذي أعطاه جائزة لجنة التحكيم في مهرجان "كان" - شراكة مع "أوروبا" لارس فون تراير. والحال ان "خارج الحياة" عاد عليه بشهرة كبيرة وجعله، بالنسبة الى المنتجين الفرنسيين، ورقة رابحة يمكن المراهنة عليها. ومع هذا كان عليه أن ينتظر بعض الشيء قبل أن يخوض تجربة روائية سينمائية أخيرة في فيلم "فتاة الهواء" عن حكاية واقعية فرنسية خالصة. وفي تلك الأثناء كان عملاه التلفزيونيان "مارا" و"بطيئاً بطيئاً... في الريح". وإذا كان "فتاة الهواء" تميز باقتصاد سينمائي مدهش وبلغة بدت في نهاية الأمر منتمية الى السينما الأميركية الجديدة، أكثر من انتمائها الى ثرثرة السينما الفرنسية، فإنه كان يشكل خطوته التي من المفروض أن توصله الى السينما الأميركية - حلم ماضيه الكبير، فنياً لا سياسياً -، ولكن في تلك الأثناء كانت الحرب اللبنانية هدأت، ورأى بغدادي ان عليه، بعد، أن يقوم بتصفية حساب أخيرة مع "الوطن". وهكذا ولد مشروع "زوايا" الذي أحب أن يحققه ليغلق الدائرة التي كان فتحها مع "بيروت يا بيروت" قبل أن يسافر الى هوليوود ويدير تيم روث هذه المرة، بعدما دار ميشال البرتيني وهيبوليث جيراردو وبياتريس دال وعزت العلايلي وريشار بورانجيه وجيمس فوكس وغيرهم. ولكن في لبنان، في مثل هذه الأيام بالذات، قبل عشر سنوات، كان الموت ينتظره في قفص الدرج لبناية تقطنها أمه، في عتمة الليل. وانتهت هكذا حكاية مخرج من هذا البلد ميتاً في وطنه، تثار حول موته أسئلة كثيرة، بعضها أغلق لانتفاء الأدلة... والبعض الآخر، لأن الثمن الذي دفع لاغلاقها كان مقنعاً.