رجعت المدينة إلى أهلها، ورجع زائرو مهرجان"نانت السينمائي"مشبعين بصور وحكايات من القاعات المعتمة، من أفلام شاهدوها وأخرى مروا عليها وباقية تعذرت عليهم رؤيتها. 120 فيلماً، الخيار صعب يطيح أحياناً بالصبر ويحول النظرة عن الشاشة لتبحث عن الضوء الأخضر الصغير الذي يعلو"مخرج"أملاً في الخروج واللحاق بفيلم آخر. مشكلات الأجيال الشابة، البحث عن الحب، العنف، الملل، الضياع في مجتمعات لا ترحم. شخصيات تريد الهرب من اليومي... مواضيع الشباب فرضت نفسها على أفلام المسابقة، التي كانت هذا العام جريئة منوعة لاحتوائها على النتاج الأول لشباب جدد، كالأرجنتيني اليكس دو سانتوس الذي فاز فيلمه"غلو"بجائزة الجمهور الشاب. واللبناني ميشال كمون، والإيراني سامان سالور. نلحظ إذاً في هذه الدورة، أن أفلام أميركا اللاتينية وآسيا هي التي طغت، فأفريقيا نادراً ما تظهر على الشاشة،"هناك، يحتاج الأمر إلى عمل كبير وإلى بناء أسس". كما تزداد الصعوبة في الحصول على أفلام ذات طابع محلي،"الفيلم لم يعد محلياً بما فيه الكفاية"، والحق على العولمة التي تساهم في توزيع أكبر، بيد أنها تسلب الأعمال هذه الخصوصية التي يبحث عنها مديرا مهرجان نانت فيليب وآلان جالادو، ويجداها في عشرة في المئة فقط من الأفلام كما عبرا في حفلة الافتتاح. اكتشاف الآخر محور مهرجان نانت، وپ"المفاجأة الكاملة"كانت في الحضور السعودي، وفي"بضعة كيلوغرامات من التمر من أجل الجنازة"للإيراني سامان سالور، الذي نال المنطاد الذهبي وجائزة الجمهور معاً. فهذا الفيلم الذي تميز بابتكار النظرة، يشرح بلغة سينمائية متينة، وصورة قوية شاعرية وجميلة، حلم الإنسان بالحب وبحثه عن المشاركة والأمل. مفاجآت عدة وشخصيات جاذبة لا يمكن للمرء إلا الشعور بالتعاطف نحوها، وپ"سينما إنسانية تصل للجميع"كما جاء في قرار الجائزة. والسينما الإيرانية التي يتجاوز إنتاجها المئة فيلم في العام حصدت أيضاً الجائزة الخاصة التي تمنحها لجنة التحكيم، فذهبت تلك إلى أصغر فرهادي عن فيلمه"جهار شنبه سوري"أو"احتفالات الأربعاء"لقوة القصة والحبكة والسيناريو ولإنسانية الفيلم وشخصياته المؤثرة. الماليزي"هو يوهانغ"الذي نال جائزة الإخراج عن"رين دوغز"وهو فيلمه الثاني، أعلن وهو يستلم الجائزة أنه كلما ازداد عدد أفلام ساتيا جيت راي التي يراها كلما شعر بنفسه صغيراً. واعترف أنه كان يهرب من المقابلات الصحافية في المدينة لتتسنى له متابعة اكبر قدر ممكن من أفلام هذا المخرج العظيم، الذي عرض المهرجان كامل أعماله وهو ما يحدث للمرة الأولى عالمياً. بعض الأفلام المشاركة عانى من التطويل، كأن المخرج كان يود اختبار مدى قوة تحمّل المتفرج وصبره، أو أراد له الشعور بالملل الذي أحسه أبطاله المراهقون كما حدث في فيلم"بيتل نات"أو"بزرة الفوفل"للصيني يانغ هينغ الذي نال جائزة نظرة جديدة بسبب"مفهومه الخاص"ولأنه"يدهشنا بمرحه"!. وقد تجلى هذا المرح للمشاهد، الذي يحسد على صبره ساعتين مدة الفيلم، في مشهد ركز لدقائق طالت على شاب يمارس الرياضة على عوارض، فيما صديقته جالسة على دراجة نارية تراقبه وهي تدخن وتلوح بساقيها نحو الأمام والخلف. وبعد فترة طويلة من الصمت، طرحت وبلا مبالاة عليه السؤال:"أنت تستمتع؟"فرد بالإيجاب. ثم عاد كل منهما إلى صمته... وهنا، ضجت الصالة بالضحك ما أيقظ، وربما أزعج، بعض الذين ارتفع شخيرهم. أما المشاركة العربية في المسابقة فقد اقتصرت على"فلافل"لميشال كمون. الفيلم الذي لقى إقبالاً وإعجاباً من الحاضرين حيث افترش بعضهم الأرض بعد تعذر الحصول على الأمكنة لامتلاء الصالة الكبيرة على وسعها. أحداث الفيلم تجري في يوم واحد. ليلة من ليالي التيه في حكايات بيروت وفي أماكنها، مع أهلها في لقاءاتهم الحميمة تارة والعنيفة تارة أخرى. يعبر"توفيق"الشاب المدينة على دراجته النارية في رحلة تنقل أجواء المكان، خفاياه، وشخصياته... ما في الفيلم هو من الحقيقة، من المجتمع"الآن"، يؤكد لنا ميشال كمون، إنه"الآني"الذي تلى الحرب. الحرب، لا يريد التحدث عنها فقد مل الناس هذا الحديث. لكنها حاضرة ولها"تأثيراتها الجانبية على كل شيء لأن كل شيء هو نتيجة لما مضى". إنها فترة غريبة يراها المخرج ملأى بالتناقضات. فصحيح أن الحرب ليست هنا، لكن"مشكلاتها لم تهضم ولم تحل بعد". والناس يتعايشون مع هذا الوضع، وتملأهم الرغبة في الحياة. يتوجه اهتمام المخرج نحو الشباب بوجه خاص، نحو هذا الجيل الذي"يريد أن يعيش حياته، وأن يحقق تطلعاته الإنسانية وأحلامه وطموحاته كأي جيل في أي مكان". ولكن هل هذا ممكن؟ يبدو من الأحداث أن"حتى هذا الشيء البسيط ليس سهلاً"كما يقول مخرج العمل. في"فلافل"يتحرك الرجال لكن بلا نتيجة، والنساء ينتظرن عودة، نظرة... قد يرى فيه البعض نظرة سوداوية بالنسبة الى المستقبل، لكن ليس هذا ما يراه كمون، أردت التفاؤل والنهاية هي المؤشر. فتوفيق ينفصل جسدياً عن السلاح. النهاية متفائلة، مع ما فيها من مرارة وفشل. ثمة رغبة في التغيير، في العمل. وإن انتهت تلك إلى طريق مسدود. فأحياناً يكون الفشل في الحياة، ايجابياً، حلواً".