منذ العام 1934 ثمة في قصر الفنون الجميلة في مكسيكو سيتي، لوحة جدارية ضخمة لا يقل عرضها عن 11.45 متر، وارتفاعها عما يقرب الخمسة أمتار. هذه اللوحة التي تعتبر ذروة من ذرى فن الجدرانيات الذي برع فيه الرسامون الثوريون المكسيكيون ولا سيما خلال الربع الثاني من القرن العشرين تحمل عنواناً فصيحاً هو"الانسان سيد الكون"مع ان ثمة من يطلق عليها اسماً آخر هو"الإنسان في آلة الزمن". صاحب هذه اللوحة هو الفنان دييغو ريفيرا، الذي يعتبر مع سكويروس وآروزكو، ابرز راسمي الجداريات المكسيكية، علماً ان ريفيرا هو الاشهر، كفنان ولكن كإنسان ايضاً منذ انتشرت حكاية حياة الرسامة فريدا كاهلو، زوجته وملهمته، وتحقق عنها فيلم رسم وجهة نظرها في علاقتهما. في هذا الفيلم ثمة فصل يحكي عن"مغامرة"فنية لريفيرا في الولاياتالمتحدة الاميركية تتعلق بهذه الجدارية نفسها. والأمر عينه يجده المرء في فيلم أميركي عنوانه"سوف يهتز المهد"حققه تيم روبنز عن حكاية يتداخل فيها - في ثلاثينات القرن العشرين - استعراض لأورسون ويلز، مع صعوبات الحياة التقدمية في الولاياتالمتحدة، مع مغامرة ريفيرا المروية نفسها المروية في الفيلم الآخر. والحال ان ما يجدر ذكره، هنا، منذ البداية، ان تلك المغامرة على علاقة مباشرة بواحد من أكبر أثرياء الولاياتالمتحدة: جون روكفلر. ولقد كان من نتيجة تلك المغامرة ان رسم ريفيرا لاحقاً جداريته المكسيكية بديلة عن جدارية أخرى بالمحتوى والشكل نفسيهما كان باشر بتحقيقها لحساب جون روكفلر... وهنا يكمن جوهر هذه الحكاية. عند بداية سنوات الثلاثين تلك، كانت شهرة ريفيرا قد بلغت الذروة، وكان الاميركيون الشماليون قد بدأوا يكنّون اعجاباً كبيراً للفن الجداري من ناحية ولفن ريفيرا من ناحية ثانية. وهكذا، دعي الفنان الى بلاد الجيران الشماليين حيث بدأ هؤلاء يكلفونه تحقيق لوحات جدارية لبعض المراكز الثقافية والصناعية. وكانت واحدة من البدايات تتعلق بجدارية رسمها لمعهد ديترويت للفن عن"الصناعة والانسان"، تخلد الانسان كصانع والصناعة كوسيلة للرقي. صحيح ان هذه الجدارية المؤلفة من قطع عدة هوجمت يميناً ويساراً، اذ اعتبرها اليمنيون إباحية ومسيئة للدين، فيما اعتبرها اليساريون مسيئة في حق العمل مفضلة العمل الصناعي الاستغلالي على العمال انفسهم، غير ان ذلك الهجوم المتنوع لم يمنع لجنة أميركية يرأسها جون روكفلر، مهمتها اقامة صرح لهيئة الاذاعة الاميركية في نيويورك، من ان تعهد الى الفنان الاسباني بتنفيذ جدارية لمدخل المبنى. وكانت هذه اللجنة هي من حدد الموضوع لريفيرا: الانسان على مفترق الطرق ونظرته الملأى بالأمل متجهة نحو مستقبل أفضل. يومها ما إن تم الاتفاق حتى شرع ريفيرا يرسم اللوحة العملاقة في قاعة كبيرة بمركز روكفلر في نيويورك... وهو معتقد بأن لديه كل الحرية الفكرية والسياسية لتفسير ذلك الموضوع. وهكذا ما إن اقتربت اللوحة من الانجاز، اذ اشتغل عليها طوال العام 1933، حتى اكتشفت اللجنة ذات الوصاية ان الفنان الشيوعي الستاليني المكسيكي، انما جعل من لوحته عملاً"يكشف عيوب الرأسمالية"وپ"يمجد حسنات الاشتراكية البولشفية". وعلى الفور ساد الهرج والمرج، حتى وان كانت زوجة روكفلر، اذ زارت الفنان وهو يرسم، استبد بها الاعجاب بجزء من اللوحة يصور احتفالات عيد العمال الأول من أيار/ مايو في موسكو، وبادرت من فورها الى شراء المخططات الأولية لهذا الجزء من اللوحة. والحقيقة انه اذا كانت امور كثيرة في اللوحة قد اثارت غضب اللجنة، فإن الجزء منها الذي حمل القدر الأكبر من الاستفزاز كان ذاك الذي رسم فيه ريفيرا صورة للينين زعيم الثورة البولشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي واقفاً يتفرج بين كبار منظّري الاشتراكية. ولم تكن صورة لينين متوقعة، ذلك ان ريفيرا لم يرسمها في الاسكتشات الأولية. ثارت ثائرة اللجنة اذاً، ومنها انتقل الغضب الى جون روكفلر نفسه وراحت الصحافة الاميركية تنقسم من حول الموضوع، بعضها هاجم الجدارية وصاحبها بضراوة، وبعضها الآخر دافع عنه كما فعلت منظمات راديكالية ويسارية نيويوركية. وهنا تدخل روكفلر طالباً من الفنان ان يمحو صورة لينين من اللوحة، لكن ريفيرا رفض ذلك في شكل قاطع، فما كان من روكفلر إلا أن نقده أجره كاملاً وشكره معلناً نهاية التعاون معه، وإذ اعتبر روكفلر ان الجدارية صارت ملكه، اعطى لنفسه الحق في محوها كلها من اساسها. أما ريفيرا فإنه أعلن يأسه من"هؤلاء البورجوازيين الرأسماليين الذين تخيفهم صورة لينين"، وعاد الى بلاده وقد قرر ألا يتعاون مع"هذا النوع من الناس بعد الآن". ويمكننا ان نفترض هنا ان"ذلك النوع من الناس"لم يأسف كثيراً على القطيعة مع فنان شاء إدخال صورة زعيم البولشفية الى أعظم المراكز الفنية في بلادهم. المهم في الأمر هنا ان ريفيرا، اذ عاد الى المكسيك، وجد الناس متضامنين معه، يميناً ويساراً: اليسار تضامن معه أيديولوجياً، اما اليمين فتضامن معه قومياً، ومن منطلق العداء البدائي لكل ما هو"يانكي". وكان هذا ما أتاح لريفيرا ان يعود ويحقق مشروعه، على الطريقة المكسيكية هذه المرة، ما أوجد الجدارية المعلقة الآن في"قصر الفنون الجميلة". واللافت في هذه الاستعادة للمشروع الاول، ان ريفيرا حافظ على صورة لينين، لكنه جعله محاطاً بعمال وبروليتاريين ينظرون اليه بإعجاب وقد اخفى من حوله منظر الاشتراكية، ليحل محلهم شخص شمالي السمات - واضح انه روكفل نفسه - مرتدياً ثياباً عسكرية وينظر الى الزعيم الثوري بغضب ولوم وكراهية. مهما يكن من الأمر، فإن سمعة ريفيرا تعززت في المكسيك في ذلك الحين بصفته"الفنان الذي قهر الامبريالية والرأسمالية الاميركيتين". وكان تكليفه برسم الجدارية نتيجة لهذه السمعة، اذ ان من كلفه كان الحكومة المكسيكية نفسها، التي اعتبرت انجاز هذه الجدارية، فاتحة لسلسلة من الجداريات كلف برسمها عدد من كبار الفنانين المكسيكيين، في ذلك الحين، ما خلق ذلك التيار الذي انتشر في شتى انحاء المكسيك وكذلك في شتى أنحاء أميركا اللاتينية والعالم، مصوراً مشاهد جماعية على جدران او لوحات عملاقة، في تعبئة غلب عليها الطابع الايديولوجي، ولم تتمكن ابداً من انتاج اعمال حقيقية يتجاور فيها الفن الكبير مع الافكار الشعبية التقدمية. وبهذا تحول ما كان لدى ريفيرا وسيكييروس وآروزكو، فناً ثورياً حقيقياً، يحاول ان يقول كلمة الفن في روايته لتاريخ شعب وصراعاته، الى مجرد دعايات سياسية هدفها التعبئة الديماغوجية لا أكثر. اما بالنسبة الى ريفيرا نفسه، فإن النجاح الكبير لجداريته المكسيكية البديلة عن جدارية روكفلر مكنه من متابعة طريقه في هذا المجال، ليكون اول ما يحققه بعد"الجدارية المكسيكية"تلك، استكمال مشروع مشابه كان بدأه في العام 1929 بعنوان"ملحمة الشعب المكسيكي"، ويتألف من لوحات عدة مترابطة الموضوع، رسمت على جدران"القصر الوطني"المكسيكي، وهذه الجدارية تعتبر حتى اليوم من أعظم انجازات فنان آمن بوطنه ورسم تاريخه معتبراً إياه أولاً وأخيراً تاريخ شعب ووعي. ولد دييغو ريفيرا العام 1886 في عاصمة ولاية غوانا خواتو المكسيكية، ومات العام 1957 في مكسيكو سيتي، وكانت فريدا كاهلو سبقته الى العالم الآخر في العام 1954 فتزوج من بعدها لكنه لم يعمر طويلاً. ولم يكن مستغرباً من ريفيرا ان يتزوج بعد رحيل فريدا، فهو اذا كانت شهرته الفنية تركزت على رسمه الجداريات، والسياسية تركزت على مناصرته لستالين من دون قيد أو شرط، وصولاً - كما قيل - الى مساهمته في اغتيال تروتسكي في المكسيك، فإن شهرته الانسانية تركزت دائماً على إفراطه في الشراب والعلاقات النسائية، الى درجة ان واحداً من كتاب سيرته وصفه يوماً بأنه الخائن الأكبر للحياة الزوجية في المكسيك ذلك الزمن.