راهنت وكالة الاستخبارات المركزية CIA، على صعيد الفنون التشكيلية منذ بداية الحرب الباردة، على النزعات الفنية الطليعية، بخاصة التعبيرية التجريدية التي كانت صيحة اميركية بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يكن موقفها "الطليعي" هذا منطلقاً من خلفية طليعية في الفن بقدر ما هو مخالف للموقف الشيوعي المتبنى في معسكر اليسار. فلو كان اليسار طليعياً لاتخذ الاميركيون موقفاً آخر. انها حرب في المقام الاول. ففي احدى المقالات المنشورة في مجلة Artforum اطلق على "التعبيرية التجريدية: سلاح الحرب الباردة"، وجاء فيه ان الصلة بين سياسة الحرب الباردة الثقافية ونجاح التعبيرية التجريدية لم تكن عفوية. والتعبيرية التجريدية حركة فنية يفترض انها اميركية، تؤكد على التعبير الكامن في لون ونسيج الاصباغ، والتفاعل بين الفنان والاصباغ واللوحة. ظهرت هذه الحركة في نيويورك في اوائل الاربعينات، ومن بين ابرز ممثليها: آرشيل غوركي، وفرانز كلاين، وجاكسون بولوك، ومارك روتكو. وتعتبر هذه الحركة إرهاصاً لانعتاق الفن الاميركي من التبعية الاوروبية مع ان هناك اصواتاً اوروبية تؤكد على ان اميركا كانت معتمدة حتى في هذه الحركة الفنية على اوروبا. والغريب ان اميركا الرسمية تبنت هذه الحركة باعتبارها ايديولوجيا الفن الحر ربما الحر من اي هدف اجتماعي. لكن هذه الحركة الفنية الطليعية لم تستجب لهوى السياسيين في اميركا في بادئ الامر، اذا تذكرنا ان هاري ترومان الذي كان رئيساً للولايات المتحدة حتى عام 1953 كان محافظاً جداً في آرائه الفنية. ففي 1948 قال بعد ان تملى في لوحات هولباينز ورامبرنت: "انه لمما يُفعم القلب بهجة ان تتأمل في الكمال ثم تفكر في الحداثيين الكسالى المخابيل. انه كالفرق بين المسيح ولينين". ولم يعلم ان هذه المقارنة لن تكون في صالحه بعدما احتضنت وكالة الاستخبارات المركزية هؤلاء الفنانين المخابيل". لكن هذه النظرة المحافظة كانت منسجمة مع "الاصوليين" الثقافيين، او السياسيين، من امثال السناتور اليميني المتطرف جو مكارثي، الذي وُسمت مرحلة الخمسينات باسمه. وتمشياً مع ذوق ترومان الديموقراطي اي من الحزب الديموقراطي، شن السناتور الجمهوري جورج دوندرو حملة عنيفة على الفنون الطليعية، معتبراً اياها جزءاً من مؤامرة عالمية لاضعاف الهيبة الاميركية: "كل الفن الحديث شيوعي". فيالها من مفارقة، ويا له من تقويم، سيتغير بعد بضع سنوات بنسبة مئة وثمانين درجة. ولا بأس في ان ننقل تقويماته للمدارس الفنية الحداثية، فهي لا تخلو من طرافة: "التكعيبية تهدف الى التدمير بتبني الفوضى المبرمجة. المستقبلية تهدف الى التدمير من خلال اسطورة الآلة… الدادائية تهدف الى التدمير من خلال السخرية. التعبيرية تهدف الى التدمير بتقليد البدائية والجنون. التجريدية تهدف الى التدمير في خلق نوبات الجنون العابرة. السوريالية تهدف الى التدمير بالتنكر للعقل". وأيد هذا الموقف المتشنج عدد من الشخصيات المعروفة في الولاياتالمتحدة، مدعين ان "الفنانين المتطرفين في حداثتهم انما هم آلات في يد الكرملين من دون ان يعلموا بذلك"، وان "الفن الحديث هو في حقيقته وسيلة من وسائل التجسس". وللنكتة والمفارقة ايضا، ان هذه التيارات الطليعية وغيرها تم احتضانها، على الصعيدين الرسمي واللارسمي في الولاياتالمتحدة، في معمعة الاحتراب الثقافي والآيديولوجي مع العالم الاشتراكي. وكان فنانو التعبيرية التجريدية في أواخر الاربعينات هدف هذا التشنج الآيديولوجي اليميني. ولعل هذا الحقد الدفين ضدهم لم يكن بلا مبرر. فمعظم الفنانين الحداثيين كانوا في الثلاثينات في جبهة اليسار. وقد اشتغل عدد منهم في مشروع الفنون الفيديرالية في عهد الانفتاح في ايام روزفلت، ومن بين ابرزهم جاكسون بولوك، الذي اشتغل في الثلاثينات في مشغل الفنان الشيوعي المكسيكي المعروف دافيد الفارو سيكيروس الذي اصبح يوماً ما سكرتيراً للحزب الشيوعي المكسيكي. لكن هؤلاء الفنانين واجهوا تصلباً واعراضاً عنهم على الصعيد الرسمي بعد اشتعال الحرب الباردة: "اذا وُجد شخص واحد في مجلس الكونغرس يؤمن بأن هذه التفاهات… تعكس فهماً افضل للحياة الاميركية، فينبغي ان يُرسل الى بيت المجانين نفسه الذي جاء منه هؤلاء الاشخاص الذين رسموا هذه التفاهات". لكن اصواتاً اخرى، اذكى، قاومت هذه المواقف اليمينية المتطرفة واعتبرتها هجمات كليانية على الفنون، تأتي مؤكدة للنظرة الاوروبية والسوفياتية عن اميركا كصحراء ثقافية. واذ رأت هذه الاصوات ان خوض المعركة علناً وجهاراً متعذر بحكم سلطة المتنفذين وقوة المعارضة المحتملة من السياسيين المتطرفين، لجأت الى وكالة الاستخبارات المركزية. وبدأت الصراع من اجل دعم التعبيرية التجريدية ضد الحملات التي تشن ضدها. وهنا قال توم برادِن، احد ابرز رجالات الوكالة المركزية: "كانت هناك مشاكل كثيرة بيننا وبين دوندرو، عضو مجلس الكونغرس. فهو لم يكن يتحمل الفن الحديث. كان يعتقد انه شيء تافه، انه شيء آثم، وانه شيء قبيح… وكان يحض الكونغرس ضد ما كنا نود ان نفعله: عرض فنوننا في الخارج، وسمفونياتنا، ومجلاتنا، الخ. فكان هذا من بين الاسباب التي دعتنا الى العمل بكتمان، كان ينبغي ان يكون عملنا خفياً لأنه كان سيُخذل لو خضع للتصويت الديموقراطي. كان علينا ان نكون كتومين لكي نشجع الانفتاح". ولم يكن بد من اللجوء الى القطاع الخاص. وفي اميركا، كانت معظم المتاحف والمعارض الفنية - ولا تزال - ملكاً لاشخاص، يدعمها القطاع الخاص. من بين ابرز هذه المتاحف الخاصة، متحف الفن الحديث في نيويورك، الذي كان رئيسه معظم الاربعينات والخمسينات نلسون روكفلر، كانت امه آبي روكفلر من بين من أسسوه في 1929 كان نلسون يدعوه متحف مامي. وكان نلسون متحمساً جداً للتعبيرية التجريدية، التي كان يدعوها "فن التعامل الحر". وكان يملك اكثر من 2500 لوحة وعمل فني. وآلاف ما زالت معروضة في صالات وعلى جدران البنايات التابعة لبنك العائلة تشيس مانهاتن. وكان تبني التعبيرية التجريدية يدغدغ المشاعر القومية الاميركية في خلق فن اميركي ريادي يصبح محط أنظار العالم، بما في ذلك اوروبا. ولا بد في هذه الحال من اختيار نموذج اميركي اصيل. وكان جاكسون بولوك خير نموذج لهذا الفنان الاميركي المنشود. فهو "الفنان الاميركي الكبير" كما نعته الرسام Budd Hopkins. "اذا فكرت في شخص كهذا، ففي المقام الاول، ينبغي ان يكون اميركياً حقيقياً، وليس اوروبياً. وينبغي ان يتمتع بالمزايا الاميركية الكبيرة - يجب ان يكون اميركياً عنيفاً، بصورة مثالية "ربما على طراز غاري كوبى، وليس من شرق الولاياتالمتحدة، او متخرجاً من هارفرد، او متأثراً بالاوروبيين. ينبغي ان يكون نابعاً من التراب الاميركي، وليس من بيكاسو وماتيس. وحبذا لو كان من الغرب غرب الولاياتالمتحدة، وله مواصفات الكاوبوي، مع لمسات هندية حمراء او هسبانية ان امكن، وان يتمتع بالرذيلة الاميركية الكبرى، رذيلة همنغواي، في ان يكون سكيراً. تلك هي المواصفات التي كانت منشودة في الفن الذي يراد له ان يؤسس لفن اميركي، يكتب له ان يقود العالم في الفن التشكيلي، ليتكامل مع التوجه الاميركي في قيادة العالم. وكانت هذه المواصفات مطابقة لجاكسون بولوك على رغم انه لم يمتط حصاناً في حياته، ولم يعش في الغرب الاميركي الا فترة قصيرة في طفولته… نعم، انه اصلح فنان اميركي لهذا الدور. ووصفه الفنان دي كوننغ بأنه رآه في الحلم يقتحم باب حانة بهيئة كاوبوبي ويهتف بملء صوته: "استطيع ان ارسم افضل من اي انسان"! ثم انه يتمتع بشجاعة مارلون براندو، وتمرد جيمس دين، ولا يقل فحولة عن ماتيس. وهو الذي جاء بالتقنية التي عرفت بaction painting، التي تقتضي طرح قطعة كبيرة من الخيش هائلة على أرضية غرفة، ويفضل في الهواء الطلق، ورش الاصباع عليها من خلال علبة مثقبة. وكان بولوك يمارس عمله هذا وهو سكران. فأصبحت الحداثة في يد بولوك ضرباً من البُطاح هذيان الحمى الهائل كما تقول مؤلفة الكتاب. ومع ان أحد النقاد وصف أعماله بأنها "بيكاسو ذائباً"، الا ان آخرين هللوا لها باعتبارها "نصراً للفن الأميركي"، الذي يعكس واقع أميركا: قوية، حيوية، حرة، كبيرة. وكات عائلة روكفلر تدعم الفنانين اليساريين قبل الحرب الباردة. وفي الثلاثينات احتضنت آبي روكفلر الفنان الثوري المكسيكي دييغو ريفيرا Diego Rivera الذي هتف ذات يوم: "الموت لليانكي!" خارج السفارة الأميركية. وعندما انتقدت على موقفها قالت ان الحمر سيكفّون عن ان يكونوا حمراً "اذا استطعنا ان نضمن لهم اعترافاً فنياً". وبالفعل تم عرض جميع أعمال ريفيرا في متحف الفن الحديث في نيويورك في احدى المناسبات. وفي 1933 كلف نلسون روكفلر، ريفيرا برسم جدارية لمركز روكفلر. وفيما كان روكفلر يلقي نظرة على عمل ريفيرا ذات يوم، لاحظ ان احدى البورتريهات المرسومة تشي بملامح فلاديمير ايلتش لنين بما لا يدع مجالاً للشك. فطلب منه بلطف ان يمسحها. الا أن ريفيرا اعتذر عن ذلك بلطف أيضاً. وبايعاز من روكفلر، كانت الجدارية محاطة بحرس عندما استلم ريفيرا ثمنها 21 ألف دولار، وأوعز أيضاً بالغاء المشروع. وبالفعل تم تدمير الجدارية بالمطارق في شباط 1934. وفي 1939 نشر الناقد الفني كليمنت غرينبرغ دافع عن التعبيرية التجريدية بحماس مقالة في مجلة Partisan Review لا تزال تعبر عن الموقف الحاسم للنخبة ووجهة النظر الحداثية المعادية للماركسية وأكد ان الطليعية "تخلى عنها الذين تنتمي اليهم بالفعل: طبقتنا الحاكمة". وساغت الفكرة لتوم برادن رجل الاستخبارات في الميادين الثقافية، فآمن، مثل غرينبرغ، بأن الفنانين التقدميين بحاجة الى نخبة تتبناهم، مثل أسلافهم في عصر النهضة: "لا أذكر من هو البابا الذي أوعز بتنفيذ مشروع كنيسة سستينا، بيد أنني اعتقد بأنه لو احيل على الشعب الايطالي للتصويت، لكان هناك العديد، والعديد من الأصوات الرافضة، بحجة: "انها عارية" أو "انها منافية للقداسة"، الخ. اما الآن، بعد قرون، فالناس يقولون: "انظروا! كنيسة سستينا، أروع ابداع على وجه المعمورة". وهكذا، يؤكد فيليب دود على أن رجال الاستخبارات كانوا أفضل النقاد الفنيين في اميركا في الخمسينات، لأنهم كانوا يراهنون على أعمال فنية هي في حقيقتها مقيتة بالنسبة اليهم، لأنها نتاج يساريين قدامى، متحدرين من السوريالية الأوروبية. وقال دونالد جيمسون، من رجال الاستخبارات المركزية ايضاً، في 1994: "بقدر تعلق الأمر بالتعبيرية التجريدية، انني أميل الى القول ان الCIA اخترعتها بالكامل، لمجرد أن ترى غداً ما يحدث في نيويورك وفي سوهو لندن". وأضاف: "كنا ندرك ان هذا هو الفن الذي لا يجمعه جامع مع الواقعية الاشتراكية، ويجعل الواقعية الاشتراكية تبدو أكثر تقليدية وجموداً وضيقاً مما كانت". وهذا يأتي توكيداً لما قاله غور فيدال Gore Vidal، الكاتب الأميركي المعارض: "كل شيء هنا مرتبط بالعديد من الوشائج في جمهوريتنا اليعقوبية الغريبة بحيث انه لم يعد موضع غرابة". ووصف أحد النقاد متحف الفن الحديث في نيويورك بأنه "كارتيل الحداثة المشحون أكثر من اللزوم". ففي الوقت الذي كان دعاة الفن الحديث يصبون جام غضبهم على الفن الأكاديمي، جعلوا من التعبيرية الفنية فناً رسمياً، وبالتالي أكاديمياً. وأصبح أكثر اشكال الفنون حرية يفتقر الى الحرية. وبات المزيد والمزيد من الفنانين ينتجون المزيد والمزيد من اللوحات الكبيرة لكن الفارغة، حتى أوصلوا التعبيرية التجريدية الى عتبة الابتذال. وأصبحت أشبه ببدلة الامبراطور، كما قال جيسون ابشتاين. وتتساءل فرانسيز ستونور سوندرز، مؤلفة الكتاب من دفع القائمة؟: ماذا عن الفنانين أنفسهم؟ ألم يعارضوا خطاب الحرب الباردة - الذي أطلق عليه بيتر فولر: "الغسيل الايديولوجي - ذلك الخطاب الذي غالباً ما كان يرافق المعارض التي تعرض فيها أعمالهم؟". أحد أكثر الأمور مدعاة للاستغراب حول دور الفن التشكيلي الأميركي في الحرب الباردة الثقافية ليس الحقيقة وحدها القائلة انه أصبح جزءاً من الصفقة، بل هو ان حركة كانت تعتبر نفسها لاسياسية أصبحت سياسية بكل معنى الكلمة. اشارة الى كتاب: Who paid the piper? The CIA and the cultural cold war Granla.