تعود أحداث فيلم "فريدا كالو" الجيد الصنع بما فيه من عناصر فنية مشغولة ببراعة ترجمت جودة السيناريو حواراً وحبكة، الى احياء فكرة العلاقة بين السينما والفنون التشكيلية لتقدم مخرجة الفيلم جولي تيمور واحداً من أرقى النماذج في الحركة السينمائية التي تستمد موضوعاتها من التصوير الزيتي في خلق الحركة السينمائية، إضافة الى الأحداث الروائية في حياة واحدة من فنانات القرن العشرين. ومع أن اللوحات الزيتية لكل من الفنانة فريدا وعملاق الفن الجداري المكسيكي دييغو ريفيرا، خضعت لواقع الأصل الفوتوغرافي للتصوير السينمائي المتسم على الدوام بالديناميكية، إلا أن المخرجة استطاعت تحليل كل لوحة من اللوحات المعروضة وتركيبها لتشكل جزءاً أساسياً غير معزول عن سياق أحداث الفيلم الدرامية. حولت المخرجة الصور الزيتية التي أنجزتها الفنانة على مراحل، لتمتلك واقعاً مستقلاً بذاته ذا بعدين، الى صور سينمائية حية متحركة لها ثلاثة أبعاد تمتلك فعلها الزماني، يمكن لمشاهد رؤية الجانب الآخر منها ويعيد في ذهنه بناء مرحلة تاريخية رائعة من حياة هذه الفنانة. وتحضر المكسيك من خلال الفيلم بما قدمته الثورة الديموقراطية 1910 - 1921 حينما فتحت الدولة الأبواب أمام فنانين مثلوا تيارات متعددة من الفن الملحمي الجداري الخارج من حدود ضيق اللوحات المثبتة على الحوامل المخصصة لجمهور الصالات الفنية، للانطلاق نحو تصوير تاريخ الأمة وظروف حياة الناس وأشكال كفاحهم من أجل الحرية، أمثل دييغو ريفيرا وألفارو سيكيروس وخوسيه اوروزكو وغيرهم، ليقوموا برسم العشرات من الجداريات التي تهدف الى تثقيف الشعب بواقعية لن تنحاز عن التقاليد الثرة للفن الحفري المكسيكي. سرير خشب يبدأ الفيلم بمجموعة من الرجال يحملون سريراً خشباً من أحد الدور المكسيكية ليضعوه في حافلة تنتظرهم في الشارع، ونكتشف فجأة أن "فريدا كالو" قامت بالدور سلمى حايك ترقد على السرير، لتقترب عدسة الكاميرا الى وجهها الجميل وشعرها المزين بالزهور الحية، وتظهر الخواتم التقليدية القديمة في كل إصبع من أصابع يديها العشر. هنا نسافر مع ذكرياتها منذ أن كانت طالبة في إحدى المدارس الثانوية في استعراض أحداث الفيلم التي تدور حول علاقتها بالفنان ريفيرا قام بالدور ألفريد مولينا منذ بدايتها وحتى أيامها الأخيرة. البداية تكون مع تصور فريدا طالبة الثانوية وبداية علاقتها بريفيرا الذي تراه وهو يرسم "موديل" إحدى الفتيات العاريات، فتركض بسرعة الى زملائها في المدرسة ليتمتعوا بمشاهد المنظر الذي يصور الفنان وهو يمارس الحب مع "الموديل" بعد أن عنفته زوجته الأولى لمواقفه المبتذلة من النساء. تنتقل المشاهد الى حادثة الاصطدام التي تتعرض لها الحافلة العمومية للركاب في داخل أحياء المدينة والتي كانت تركبها فريدا وحبيبها الأول، لتبدأ رحلة المعاناة الأليمة بسبب دخول قضيب معدني في جسدها عبر فقرتين في الظهر ما أبقاها مكبلة بالجبس شهوراً عدة، اضافة الى انها عندما كانت طفلة في السادسة من عمرها هاجمها مرض شلل الأطفال، وكانت ترسم وهي طريحة الفراش صوراً ذاتية. وبعد أن تتعافى تنقل لوحاتها الى فنان الشعب ريفيرا وهو مشغول برسم واحدة من جدارياته وسط المركز التاريخي للعاصمة المكسيكية، حيث كان الرسم على حوائط المباني الكبرى وواجهاتها، لضمان ألا تتمكن الدولارات الأميركية من اخراج الأعمال الفنية من المكسيك الى قاعات العرض الأميركية فتناديه باسمه بعد أن تعرفه بنفسها طالبة ان يرى لوحاتها لتقويمها، إلا أنه يرد عليها بعد رفضه الأول انها إذا كانت تشعر بأنها فنانة فلا تحتاج الى شهادة من أحد لتزكيتها. تترك فريدا لوحاتها لتغادره، إلا أن الصدفة تجعله ينظر الى واحدة من تلك اللوحات وهي "بورتريه" شخصي للفنانة. فيصاب بالذهول لروعة ما يشاهده، وتبدأ رحلته بتعريفه فريدا الى الجمهور وتبدأ بينهما علاقة حب ستصاحبهما طيلة الحياة من خلال زواجها به وهي في سن الثانية والعشرين من عمرها، وكان والدها يطلق عليهما لقب "الحمامة والفيل" لنحولها ورشاقتها وضخامة ريفيرا. بعد أن تزدهر حركة الفن التشكيلي في الولاياتالمتحدة في الثلاثينات من القرن الماضي بتأثير الفنانين المكسيكيين، وفي فترة الحماسة هذه يكلف نيلسون ابن الثري الأميركي روكفلر ويقوم بدوره الممثل ادوارد نورتون الفنان الماركسي الثائر ريفيرا برسم جدارية في مركز روكفلر لقاء مبلغ 21 ألف دولار تمثل رجلاً عند تقاطع طرق يتطلع بأمل ورؤية عالية ليختار مستقبلاً أفضل. يبدأ ريفيرا برسم رجل كئيب وحوله تدور اضطرابات سياسية، ويضيف اليه وجهي ماركس ولينين. وعندما يعترض روكفلر غاضباً لوجود صورتي زعيمي الشيوعية في مبناه التجاري، يجيبه ريفيرا أن ما من شيء غير ملائم في الفن، ويرفض ريفيرا بإصرار محو صورة ماركس ولينين من جداريته، فتنزل عليها الستارة بحدة ليهدمها الأعداء فيحزن ريفيرا حزناً عميقاً. عاصمة النور ترحل فريدا الى باريس في منتصف الأربعينات لإقامة معرض لها في عاصمة النور فتجد ان شهرتها سبقتها، كان الصحافيون والمصورون يلاحقونها في كل مكان، كما حدث لها في الولاياتالمتحدة وهما البلدان الوحيدا اللذان زارتهما خلال حياتها القصيرة، وفي باريس تقابل الكاتب الوجودي جان بول سارتر، ويعتبرها اندريه بروتون منظّر السريالية واحدة من أتباع مدرسته، كما أن الفنان الإسباني بابلو بيكاسو يبدي اهتماماً كبيراً بها فيهديها قرطاً مميزاً صنعه بنفسه، رسمته في الكثير من أعمالها الفنية التي لم تتجاوز المئة عمل معتمدة في غالبيتها على صورتها الذاتية، إذ صورت نفسها في أكثر من شكل، وكانت تقول ان ذلك هو وسيلة غير واعية لتحدي الموت الذي كان يتربص بها منذ بداية حياتها. الفيلم حافل بالمشاهد التي تبين طبيعة الصراع الداخلي والمعاناة والمواقف الجريئة المتعلقة برغباتها وغرائزها وخبايا روحها هي التي عاشت صراعاً مريراً مع الحياة ومحبتها الدائمة بالظهور كرجل، اضافة الى مواقفها السياسية ما يجعل المشاهد يتعاطف مع فريدا التي تنتقم من زوجها ريفيرا الذي كانت له علاقات جنسية خارجية، وذلك بممارستها الجنس مع القائد الشيوعي ليون تروتسكي الذي تمكن ريفيرا من الحصول على موافقة رئيس الجمهورية المكسيكي على دخوله البلاد بعد أن انشق على نظام ستالين فاستضافاه في بيتهما الأزرق. في المشاهد الأخيرة يأتي السرير الذي حملها وهي مستلقية على ظهرها بعد أن اشتد عليها المرض فيه بناء على وصية الطبيب بعدم مغادرته لتحضر حفلة افتتاح معرضها في المكسيك في العام السابق مباشرة بعد رحيلها، وتموت فريدا بعد أن تخرج نيران لوحتها الرائعة احتراقاً لذلك الجسد. فهي قبل أن تموت بأيام تصر بعنادها المعروف على الخروج للمشاركة وهي على كرسي ذي عجلة حاملة في يديها لافتة تطالب بالسلام في إحدى التظاهرات الاحتجاجية في شوارع العاصمة احتجاجاً على تدخل وكالة الاستخبارات الأميركية في غواتيمللا، وحينما تعود الى بيتها تصاب بالتهاب رئوي حاد وتفارق فريدا الحياة يوم 13 تموز يولوي 1954، ولتتحول الى واحدة من الأساطير ليس من خلال أعمالها الفنية وانما لشخصيتها الفاتنة وسلوكها الساحر الذي اتسم بالغرابة. ويموت بعدها بسنتين ريفيرا بمرض السرطان ليدفن في مقابر العظام، بعد أن احتفظ برماد جثتها في غرفة نومه، ولم تنفذ وصيته بأن يدفنا معاً في بيتهما الأزرق الذي تحول الى متحف يزوره ملايين الناس كل عام.