أخيراً، "اكتشف" الإسرائيلي المعادلة لتبرير مجازره الكبرى بحق اللبنانيين، والتي أبى إلا ان يصر عليها في الساعات الأخيرة قبل موعد سريان وقف النار:"الأميركيون في العراق والروس في الشيشان... نحن ايضاً نواجه الإرهابيين في لبنان". ولا حاجة بالطبع ل"إحراج"صاحب هذه المعادلة، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز، المعروف كأبرز السياسيين الفاشلين، بسؤاله تبريراً لإبادة عائلات وأطفال في لبنان بالقنابل الغبية، في خضم ما يزعمونه في دولة الإرهاب حرباً على"منظمة إرهابية". ولا تشبه حيرة بيريز في تخبطه وهو يتدرج في الأوصاف لإقناع الإسرائيليين بأن ما تحقق في لبنان يستحق ما تكبدوه، إلا حيرة الإيراني الذي تدرج في تقويم القرار 1701 من اعتباره"خدمة"لمصالح الدولة العبرية، الى وصفه بفشل لها، ثم اخيراً التشديد على سعادة طهران بوقف النار. اما اللبنانيون، فحال معظمهم كانت وهم ينصتون الى الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصر الله يعلن الاستعداد للالتزام بوقف النار"بلا تردد"، مزيجاً من الإحساس بالخلاص في الرمق الأخير، ونصف حيرة. الخلاص إزاء شجاعة نصر الله لأن الالتزام سيعني تسليم حكومة فؤاد السنيورة ورقة السلام جنوب نهر الليطاني، أي إبعاد المقاومة عن"الخط الأزرق"لتطبيق القرار الدولي الجديد"غير المنصف"بحقها... لأن ضربة كف ليست كالذبح. ونصف حيرة أو أكبر، لأن السؤال الذي ما زال معلقاً شمال النهر، هو هل يقبل"حزب الله"بشجاعة ايضاً، نزع سلاحه بموجب القرار 1701، ليس استجابة أو ركوعاً عند رغبات الأميركي والإسرائيلي، بل لمواجهة ما سمي"لحظة الحقيقة"لإنقاذ تجربة التضامن الشعبي والحكومي مع المقاومة والتي صمدت على مدى شهر العدوان والدمار والخراب الشامل. بالأحرى لإنقاذ ما بقي من لبنان، البلد والكيان، واللبنانيين الذين سلِموا من وحشية حرب"حماية اسرائيل". صمد اللبنانيون شهراً إذ ارتقوا فوق جروح"المحاسبة"، وضربة الكف ليست كالذبح، لكن النكبة كبيرة. نجحوا في ترتيب الأولويات، ومن بين ركام الجثث، التقطوا حقيقة اولويات اخرى لدى الإسرائيلي، وثالثة لدى واشنطن التي ترتكب حماقة كبرى بحق اللبنانيين إذ توحي، عمداً أو جهلاً، بأن رغبات بعضهم تتقاطع مع ما تطمح إليه لاستكمال إنجاز"ديموقراطية"البلد. فحين كان السنيورة يطالب الرئيس جورج بوش بالضغط على الإسرائيليين لوقف المجازر, بعد الولادة الصعبة للقرار 1701، كان بوش يرد بمحاولة الضغط على الحكومة اللبنانية ورئيسها ل"تفكيك دولة حزب الله داخل الدولة". يتحدث السنيورة عن أولوية مواجهة الكارثة، فيجيبه بوش من على شرفة"الشرق الأوسط الجديد"المعبّدة طريقه بخراب لبنان، أن لا بد من"بناء ديموقراطيتكم"! ... ونِعم"الحليف"اذا كان البيت الأبيض يجهل مقدار ما دمرت الحرب من ثقة بنيات الأميركي، ومساعيه الحميدة لانتشال البلد من صراع المصالح الإقليمية، فكيف بدعم استقلال وحريات من ذاك النوع الذي لا يُروى إلا بصواريخ على رؤوس المدنيين والأطفال... حتى في الساعات الأخيرة قبل صباح وقف النار. وإذا كان شأن الأميركي ان يرتب أولوياته، ويصنف العدو والصديق ومن يعتبره"إرهابياً"، يبقى شأن اللبنانيين استكمال صمودهم بترتيب اهدافهم بحكمة، ويبقى على المقاومة ان تكمل انتصار صمودها باقتناص اللحظة التاريخية لنزع ألغام عقدة نزع السلاح. هو شأن"داخلي"صحيح، لكنه بات التزاماً دولياً للحكومة بمجرد قبولها القرار 1701، بل بمجرد ولادته. قد يقال في تفسيره انه أسقط شرعية المقاومة جنوب الليطاني، وأن المرحلة الثانية نزع شرعية سلاحها شمال النهر... ومهما يكن الاجتهاد، فالاختبار الكبير ان ترضخ لمظلة الدولة فلا يحار اللبنانيون بين شرعيتين، وإلا خسروا الامتحان الأخير. معه لن يجدي البحث عن هوية العدو اذا كان البعض لا يزال جاهلاً له، ولا التشبث ب"قدسية"البندقية، ولا تذكر"حكمة"الدروس الإيرانية. ومع ذاك الامتحان، لا بأس ايضاً من استخلاص عبر حرب. في اميركا، المسيحيون المتشددون اعتبروا مصيرهم مرتبطاً بمصير اسرائيل في"حرب بين الخير والشر". فمن انتصر؟ الواعظ بات روبرتسون حزين لموت"ابرياء في لبنان"، لكنه مقتنع كالأصوليين المسيحيين بواجب دفع كلفة"محاربة الإرهاب". اما جون هاغي احد رموزهم فلا يرى في مجازر اسرائيل إلا انها"تقوم بعمل الله في حرب بين الخير والشر"! أليست تلك مدرسة بوش؟