تتناثر الأوراق البيضاء في الفضاء كأجنحة يمائم، كحبّات من البرَد في شتاء الجنوب، كرذاذ يتطاير فوق زرقة البحر. يا له من منظر جميل. ولكن ما ان تسقط الأوراق على الأرض حتى تصبح سوداء. انها مناشير تطلقها الطائرات المعادية في سمائنا، حاملة الى المواطنين المزيد من الخوف والرعب... مناشير تحذّر الناس وتدعوهم الى هجر منازلهم والنزوح عن احيائهم، لأن المنازل والاحياء ستقصف. لا تقوم اسرائيل بمثل هذه المبادرة رحمة بالناس الابرياء والعزل ولا محبّة بهم، بل ترهيباً لهم ونشراً للخوف والأسى. ولو فطنت اسرائيل لجمالية المنظر الذي تتساقط فيه الأوراق البيض، لما نثرتها من فوق. لكنها تدرك جيداً ان هذه الاوراق محبّرة بالاسود، بالاسود الذي تريد أن تغدقه على قرى لبنان ومدنه وغاباته. إنها مناشير مضمّخة بالحقد والكراهية، تحملها بأطراف أصابعك لئلا تتلوث اليد بحبرها السام. -2- ما أرخص الانسان ازاء الآلة الاسرائيلية الحاقدة، تقتل الطائرات أعداداً من النازحين ثم تعتذر الدولة العدوة لأنها اخطأت. وما أكثر الاخطاء التي تبيد وتدمّر وتحرق... أخطاء تقنية لا ترحم. أخطاء ترتكب مجزرة في قانا وتقتل الموتى في الجنازات وتدمّر أبنية مأهولة في الشياح... أخطاء التكنولوجيا باهظة الثمن ولكن ما من أحد يرى أو يسمع. الانسان رخيص جداً في عين القتلة الاسرائيليين. هؤلاء لا يخوضون حرباً بل مجازر. انهم"يرتكبون"الحروب. -3- لم استطع أن استوعب كيف يفتح العسكري الاسرائيلي كتاب"التوراة"أو ربما"التلمود"ويصلّي قبل أن يطلق الصاروخ على القرى والاحياء. إنها الصلاة قبل القتل، الصلاة التي لا بدّ منها كي تحصد القذيفة الكثير من الأطفال والنسوة، كي تهدم وتحرق وتدمّر. مَن يستطيع أن يفهم مثل هذا المشهد؟ -4- فتيات صغيرات جاء بهن الجيش الاسرائيلي وطلب منهن أن يكتبن رسائل الى أطفال لبنان على القذائف والصواريخ قبل أن تطلقها المدافع نحو ربوعنا. لا يقتل الجنود أطفالنا فقط، الذين يتساقطون ببراءتهم تحت وابل نيرانهم بل هم يقتلون أطفالهم أيضاً ولكن رمزياً أو نفسياً. يقتلون طفولة أطفالهم جاعلين منهم قتلة المستقبل. لعلّه القتل الأعنف والأشنع. قتل البراءة في أول تجليها، قتل السلام في مهده. -5- تحت الخيمة، في حديقة الصنائع لم تستطع الطفلة أن تبصر القمر في الليل. تلك الليلة لم يطلع القمر بضوئه الفضي. والخيمة لم تكن سوى خرقة قماش نصبت في احدى الزوايا. النازحون من الجنوب الى هذه الحديقة القديمة لم يعتادوا النوم في الهواء الطلق. والخيمة التي كانوا ينصبونها على سطوح منازلهم تختلف عن هذه الخرق البيضاء التي تردّ عنهم رذاذ الليل واشعة الشمس في النهار. الخيم فوق السطوح كانت أشبه بالغرف المفتوحة التي يحلو النوم تحتها والسهر والسمر. هنا في الحديقة لا يحلو النوم ولا السهر. والعراء الواسع الذي تحرسه الاشجار يُشعر الانسان بأنه أشبه بالحشرة أو بالعصفور الذي لا غصن له، يبيت فيه. إنهم النازحون، يتوزعون تحت الشجر، في زوايا الحديقة، على المقاعد، أو يقفون ويمشون داخل الاسوار الحديد. لا شيء لديهم ليعملوا. يتمددون على الارض، يحلمون بالعودة ويفكرون بأمور شتى. ويخشون أكثر ما يخشون، أن يغدرهم الشتاء وهم هنا، بلا بيوت ولا سقوف ولا أسرّة. الشتاء قاسٍ في بيروت ولو لم يكن بارداً. وحدهم الأطفال يبتسمون ويلعبون، متناسين ما حصل ويحصل. لكنهم في أعماق قلوبهم يدركون أن المأساة كبيرة، أكبر من البحر. كنا نقول سابقاً:"المهجرون"، اليوم نقول:"النازحون"، المعنى هو نفسه تقريباً. لكن المهجرين في معجمنا اللبناني هم الذين هجّروا"أهلياً"من بيوتهم وقراهم. أما النازحون فهم الذين هجرتهم اسرائيل. إلا أن المشهد هو نفسه والضحايا هم أنفسهم والآلام هي نفسها. يكفي أن تنظر من وراء قضبان حديقة الصنائع لتدرك كم أن المشهد أليم وأليم جداً. -6- كم يلزمنا من الوقت لننسى صوَر الاطفال الذين سقطوا تحت الغارات الاسرائيلية؟ هل سنتمكن يوماً من نسيان تلك الاشلاء البريئة التي حفرتها الصور في عيوننا وقلوبنا؟ هل ننسى تلك النظرات الصامتة والخفيضة التي تحمل من المأساة ما تحمل؟ هل ننسى تلك الأمهات اللواتي يندبن مَن يندبن من أبناء وأخوة بأصوات مجروحة أو مخنوقة؟ هل ننسى مشهد الموتى الذين قتلوا مرّتين وأكثر؟ هل ننسى تلك الأجساد التي تحولت أكياساً كتب عليها الاسم، الاسم فقط؟ إنها من أبشع الحروب، هذه الحرب التي"ترتكبها"اسرائيل. حرب المجازر، حرب الابادة، حرب ضدّ الاطفال، ضد الامهات، ضد الحياة، ضد الموت. هل ما زال مسموحاً بها هذه الحرب في مطلع القرن الحادي والعشرين؟ حرب القتل السافر أمام أعين العالم الأول والثاني... الحرب المفضوحة، الحرب الغادرة، الحرب التي لا سبب لها والتي لها أسباب وأسباب. يلزمنا الكثير من الوقت لا لننسى صَور المجازر بل لنصدّق أنها حصلت، بمثل هذا العنف وهذه الكراهية وهذا الاجرام.