يخطئ من يظن، أن هؤلاء الوافدين إلينا، من وعورة الحجر، ومراتع الرتم والكبار والحلزون، غادروا قراهم عن خصاص، أو كانوا جبناء، مترددين عن اللعب هناك، مع صغار السلطات، لعباً ماكراً، يجنبهم حماقات الزج بهم، في الحجوزات المرتجلة، بسبب من قضايا تافهة، من قبيل دجاجة فلان، أكلت من بيدر الجوار، أو جحش علان، شق بحافره أرض الغير، وترك على أديمها أثلاماً، ينظر الشاكي إليها، شزراً، كجراح في مواضع لا تقبل الكي... الذين جاؤوا إلينا، لم يجر عليهم وقت، ولا حرمتهم السماء لعقود، لشحها، من نشاط لا يزاوله الرجال فحسب، بل تحمل تبعاته الحقيقية، نساء ضامرات، وصبية، يغوصون بفرح، في زبل حيواناتهم الهائمة الجرباء، وسخافات أمراضهم البدائية، وعفن ثيابهم وأوانيهم، حيث لا تسمح الندرة الفاحشة للماء، بصب حفنة منه، على وجوههم التي يغطيها، براز الذباب. كل الجائحات، وكل الأشغال المقرفة، ما كانت لتدفع بهم نحونا، كي يعيشوا شعوراً مراً بالتداعيات، حين كنا لا نخجل من أنفسنا، ونحن نتحين الفرص، لتوريطهم بهدوء غريب، في العبث الفاجع، الذي لا يخطر أبداً، ولو على بال معتوه. الذي دفع بهم إلينا شيء آخر... لا علماء الاجتماع، ولا الدارسون المتخصصون في هذه الحالات، جديرون بأن يقولوا فيه قولاً مختلفاً، يغني عن شرف ما عشناه، وما عاشته جوارحنا، وهي تمضي أوقاتاً سعيدة، في الرمي بهم في الورطات... حين كان يحلو لنا فعل ذلك، نحن الأشقياء، الذين سبقناهم بزمن، إلى السكن والاستقرار، في رحابة حينا الهامشي، بعد المجيء من الساحل، أو الأطراف الوعرة الأخرى، على التخوم اللامريحة. نحن من يدري، متى يبدأ العصيان، ومتى تضطر هذه العائلات، إلى حزم متاعها القليل، ووضعه على ظهر أي شيء يسير، باتجاه عالمنا المغري، بضجيجه وعشوائيته، وأدخنة السردين، المرصوف في الشوايات، على مجامر الفحم، أمام الأبواب الواطئة المشرعة. نحن فعلاً من أغواهم، أو على الأقل، كنا تلك الريح، التي جرفتهم إلى البعيد، فلم يعودوا يحركون ساكناً، لحكايا الأمهات الغاضبات، عن مشاعر السخط، التي تملأ الآباء تجاههم، و الوعيد، إذا هم لم يتوبوا ويرعووا. كانت قد ركبتهم عفاريت التمرد، فصاروا يقسمون، أمام الأولياء، بسحناتهم الغليظة، وحركاتهم الطائشة، على عدم العودة إلى قراهم القاحلة الجدذباء. - اذهبوا أنتم... نحن لن نعود إلى تلك القيهرا الكحلة... تفجروا بإحساسهم الغامر، باللعب الجديد، والتسليات المختلفة، والفوضى... والأهم من هذا وذاك، تلك السيركات الشعبية، وصالات السينما، والسيقان المستباحة، للنساء في الشارع، وهم يتعقبونها من بعيد، في كتل تتداخل وتشتبك، ولا تكف عن التنكيت والبحلقة. الكوشي والبشير والفاطمي وعلال، أعرفهم. كلهم كانوا عصاة حقيقيين. استماتوا في الدفع بعائلاتهم، إلى الرضوخ لهم كارهين... حتى اخوتهم الصغار، ما كانوا حزانى حائرين، بعد أن كلموهم بسخاء، مجبرين إياهم، على قتل الحنين داخلهم، إلى فخاخهم في البرية، وإلى فرو جراء الكلبات الناحلة المغبرة، التي كانوا يفركونها بلذة، ويضعون نعومتها بحنان، على بشراتهم المشققة، فصاروا جديرين بالفرح الموعود. بين أن يحصل ذلك المجيء، الذي اعتادوه في الصيف، بعد جمع الغلات والمحاصيل المجدبة، والسكن في الحي، للبحث عن موارد للخريف، وكراء الغرف، في البيوت المشتركة، كانت تحدث الانزلاقات... بيتيرا كان عاشقاً للموج. نزل معنا البحر، من الانحدار الحاد لمقبرة بياضة، باتجاه الشط الصغير. جن للوهلة الأولى، ولم يستطع أن يقاوم ذلك السحر المترامي أمامه. صار يركض، في الحد الفاصل بين الصخر والرمل، بقدميه المفلطحتين، وتبانه الواسع، ناجحاً في صنع تلك الصورة البلهاء، التي كنا نأمل أن تكون له، كي نقيم على شرفه، لحظات معربدة، من التسلية الماجنة المرة... نرميه بقوة في الماء، فيعيده الموج إلينا، ويلقيه عند أقدامنا، عارياً تماماً، معفراً بالرمل، بعد أن يكون التيار الجارف، قد سحب تبانه الى البعيد، فيقوم ضاجاً، ليخبط بنا في أي مكان، ساهياً عن نفسه، وعن عضوه، الذي لا يدرك عريه إلا بعد حين. كان بارعاً في ردود الأفعال الصاعقة. يضرب و يعض، ثم مستدركاً، يلقي بسبابه، في الجهات الخاطئة: - جد أبوك... جد الحمار أبوك... ولد الكلبة... كنا نفعل ذلك هناك، بعيداً عن الكلوب، وعن الأنيقين، ويهوديات المدينة، والفرنسيات الظميات، اللواتي كنا ننظر إليهن بعناية، وهن يسوين أوضاع مايوهاتهن من القطعتين، على أجسادهن المحمرة، التي يدهنها بالزيوت الصيفية، والكريمات. من المساحات المخصصة لنا افتراضاً، في بلاج تافتاست، نحن والأطفال الشعث، من الأحياء المتجاورة، سيدي عبدالكريم، وسيدي بوزيد وجنان كولون، وأشبار. كنا نقول كلاماً جنسياً فاحشاً، بيننا، ونتنهد، وكأننا نرقد سعداء، ونحن نحضن تلك القامات. نتفنن في ذلك، وندفع بعضنا بعضاً، وكأنما في اتجاه شمسياتهن، محترقين باللذة المكبوتة، والجوع الشهوي، لنساء لا نعرف لهن مثيلاً، في أحيائنا المتوارية، خلف الهضاب الصلصالية البيض. كنا بارعين في ذلك، وزادت جرأتنا مع جويكا. كان وقحاً، يقف أسفل منصة السيرك، وهو يلاعب عضوه، ويتلوى بميوعة، ناظراً إلى الراقص الأمرد، في ثوب النساء، مانحاً إياه، ما يكفي من التحرش، والغزل الفج، متذرعاً بلا مبالاته، ومتسلطناً أكثر، حين يقوم ذلك التعيس، ويذرع الأرضية، ببطنه الملساء، وشفتيه المصبوغتين، من أمام صف الصحون. كنا على رغم سخافاتنا، لا نملك مثل جويكا، عقلاً طائشاً، وانفلاتات قصوى... كان لدينا على رغم كل شيء، بعض من شهامة واكثرات.وحين نتعب ونجوع، وتنشوي جلودنا، من الشمس الحارقة، نضع تباناتنا المبللة على رؤوسنا، ونعبر المون، باتجاه المرسى، بحثاً عن شيء نأكله. ولا يهم ساعتها، أن يكون ذلك الشيء تحديداً خبزاً، ولا ما تعودنا على وضعه عليه. كلهم أخذوا على أيدينا، دروساً في السباحة و الصعلكة والحشيش، هؤلاء الوافدين إلينا. وكل صارت له كنيته... بيتيرا، قيمش، فويلة وجويكا. كيف صغنا تلك الأسماء، وألصقناها بهم، فصارت أجزاء من هوياتهم، وتقبلوها بعد أن كانوا في البدء، حريصين على إثارة الزوابع، وقلب الدنيا، بالركل الأهوج، والجري المسعور، بحثاً عن الحجر المسنن، لتصويبه نحونا، نحن المنفطرين من الحماسة والعويل. للأمر علاقة ما، بذعر أو بحيرة أو بجنون.. وبكيفيات دخولهم، في العلاقات معنا، ومع محيطنا الأرعن. جويكا مثلاً، حين جاء، مع إخوته العشرة، كان مملوءاً بالشغب، لا يتحرج من الاقتراب منا، وإلقاء ظله الثقيل، على جلساتنا. نصده، لكنه يظل عنيداً راسياً، غير آبه بنا، منجذباً إلى إغواء أحاديثنا، في المساءات حين يخيم على قعداتنا، ذلك المفعول الساري للكيف. كان يشيح بوجهه عنا، وعن أوصافنا الجارحة الملعونة، ويظل مقرفصاً، مشدوداً بألفة غريبة، إلى وقتنا، ونحن نزجيه في الفكاهة والعبث. أذقناه المعجون. عطفنا عليه، في لحظة شرود إنساني، فلم نمنحه غريبة كاملة، وإلا لتفرجنا عليه، وهو يهلوس، أو يقوم بتلك الأفعال الرخوة الغريبة، التي لا تصدر إلا عن مسطول... لكننا لم نرحمه، ونحن نأخذه معنا، للمرة الأولى إلى السينما، بخدوشه العتيقة، على وجهه وكفيه. كان ذلك في صباح أحد ممطر وبارد. بدا بجبته الصوفية القصيرة، وساقيه الجافتين، وكأنه يمشي خلف محراث. كنا ننزعج من إهمال بعضنا، في التهندم أحياناً، لكن مع جويكا، كان الأمر مختلفاً. صرنا نمسرح احتفاءنا، لحضوره بتلك الصورة، ونحن نهيئ الجو لمقلب قريب. ذهبنا تحديداً إلى سينما أطلس. كانت تعرض فيلماً بوليسياً رهيباً، عند صاحبها حميد البدين، والعابس دوماً، والذي غالباً ما كنا نجده مسمراً بالباب. اشترينا التذاكر... أخذها أحدنا، وأومأنا إلى جويكا بالدخول. ولأنه صلب وسعيد، طأطأ رأسه، وسار عاقدا العزم، مجتازاً صاحب السينما، ومصباح اليهودية راشيل، لكن العجوز حميد لم يمهله. جره إليه، بيد عكازه المعقوفة، وصرخ فيه بحماقة: - يا ابن الجيفة، الى أين أنت ذاهب... عندي الفندق هنا... أين التذكرة!؟؟.. صعق جويكا، ولم يفهم شيئاً مما يجرآ. وحين بدأت تنهال عليه الضربات، كان وجهه المصدوم بالفجيعة والألم، يثير ضحكنا العالي. صار ينادي علينا جميعاً، مستغيثاً بالأسماء: - وا عبدالقادر وا حماااااد وا عبدالهادي وا براهييييم. عز علينا، فتدخلنا لنجدته. لكنه بالصالة، جعلنا ندفع غالياً، ثمن تهورنا، وولدنتنا. من بدء الفيلم إلى نهايته، عجزنا تماماً، عن تجنيبه، ذلك التعليق الأهوج المفتون، وحركات العراك. صار ضاجاً مرتعباً، يصرخ في الاتجاهات كلها: - أعنداااك... أناري... أميمتيي... أواكواك... كان يصارع، ويتجنب اللكمات، ويدمدم ويهدر ويزعق ويسب ويتوارى خلف ذراعيه. أحرجنا أمام الحضور. لم يكن ليسمعنا، أو ينصت لتطميناتنا، أو قرفنا منه. كادت روحه أن تزهق، من الاندماج الكلي والولولة. من يومها، اكتشفنا، أنه يصلح أن يكون رائداً تعيساً للسينما... اكتشفنا أيضاً، أنه لم يكن يهمه، أن يفقد في السكن الجديد المكتظ، كل الطراوات، التي كانت له، في خلاء القرية، وأن يعيش، هو وغيره، مكدسين مع الأسر الذاعنة، في دوخة الروائح الثابتة، للحجرات المعتمة. كانوا جميعاً، من أجل البحر والعفرتة، وريالات الشغل كمياومين، في تصبير السردين، وحلاوة التمتع بالقبل والمداعبات، في الأفلام الرومانسية، التي تنسي الوجود، والشغب الدائب، ومداخيل الأخوات الخادمات، وأحدية ميكا، والإسفلت الأغبر، والماء القريب، وألبسة البال، وبنات الحي غير العذراوات، وجوقة المداهمات للأوكار المشبوهة، والرقص على العربات، في هدايا الأعراس، والكيف والتدخين، واللواط أحياناً، وأشياء أخرى، لا يدعون للأمل، منفذاً ينسل منه، الى نفوس الآباء الحزينة، التي تدري أن قراراتها، ما عادت ملكاً لها، وإنما هو انبثاق أخرق، من أولاد عصاة، يسحبونهم معهم، ليغرقوا جميعاً، في سخاء الربكة، وجولات التيه.. وكذلك كان... الرباط - المغرب