لعل أول ما يمكن المرء قوله إذ يستعرض الموضوعات الأساسية التي تمر على شاشات نحو ثلاث دزينات من أفلام مميّزة وجديدة وتجديدية، تعرض في التظاهرات الأساسية والثانوية للمهرجان، بما فيها المسابقة الرسمية التي تسمو بالتأكيد على كل تظاهرة أخرى، أن ما يلاحظ هذا العام هو تنوع الموضوعات بتنوع الأفلام. هناك موضوعات على عدد الأفلام وأكثر، وهي في الغالبية العظمى منها، من ذلك الصنف الإنساني والعميق الذي يقول أن السينما لا تزال في خير، ولا تزال أيضاً – كما نقول ونكرر دائماً – الفن الأكثر قدرة على التقاط حساسيات المجتمعات ومن ثم إسقاطها على أحوال الإنسانية جمعاء في لعبة التماهي والإحالة التي ندر أن أتقنها فن بقدر ما أتقنتها السينما ولا تزال تفعل، بقوة على رغم كل ذلك النعي الذي لا يتوقف إعلانه لفن السينما. هذا العام سيبدو من الصعب استخلاص عدد قليل من الموضوعات المهيمنة والتوقف عندها، بخاصة أن هذا قد يسفر عن نوع من التعميم يحوّل الفن الى علم اجتماع، ولا سيما أن المجتمع وأحواله هي الحاضر الأكبر في أفلام تأتي من القارات الخمس لتصب في تلك العروض المزدحمة، والتي يزيد من عبء ازدحامها الحضور المبالغ فيه لرجال الأمن سادّين الطرقات جاعلين من الوصول الى أي عرض في أية صالة مغامرة بالغة الصعوبة وربما الخطورة أيضاً. فإن احتج المرء غاضباً لتفويته فيلماً ينتظر مشاهدته منذ أيام، جوبه بنظرة غاضبة كأنها تقول إذ حدس صاحبها بأن المحتج عربي: «الحق عليكم... أليس كذلك؟». أجل الحق علينا... ولكن هل يمكن لرجل أمن من الطراز المنتشر هنا في كل مكان في «كان» يحصي أنفاسنا ويراقب حركاتنا وسكناتنا أن يفهم حقاً من نحن؟ هل يمكنه أن يحدس أننا فقط مواطنون في ملكوت السينما؟ وأننا هنا لنشاهد ما الذي تطور عاماً بعد عام في ملكوت الفن كما في أحوال المجتمعات وحساسيات الأفراد؟ لا بأس، سنتجاوز هذه الأسئلة التي باتت مضجرة، وسنقفز مباشرة الى عوالم السحر التي لم نأت الى هنا إلا من أجلها... كذلك سنحاول تجاوز العديد من الموضوعات التي تجمع بينها الأفلام التي أحببنا حتى الآن – ولكن ليس دائماً بالقدر نفسه، وليس دائماً للأسباب ذاتها – لنتوقف عند بعض الملامح التي يمكن رصدها حتى الآن والمهرجان يكاد يصل إلى أيامه الأخيرة دون أن يعطينا، على الأقل حتى كتابة هذه السطور صبيحة اليوم السابع للعروض، تلك التحف التي كان من حقنا توقعها لدى إعلان المهرجان عن برنامجه ولوائح الأسماء الكبيرة التي ستعرض فيه جديدها. الشعراء يتبعهم... السينمائيون لسنا ندري ما إذا كان ثمة ودّ كبير بين السينما والشعراء، فنحن، في عالمنا العربي، نعرف شعراء يعترفون بعدم حبهم للفن السينمائي، بقدر ما نعرف شعراء يقبلون على هذا الفن باندفاع وحب – الراحل محمود درويش كان من «زبائننا» الدائمين في «النادي السينمائي العربي» وسليم بركات كنا لا نلتقيه إلا مغرداً ضاحكاً في صالات شارع الحمرا في بيروت أيام العز، أما صديقنا حسن عبدالله فلا نلتقيه إلا ويسألنا عن هذا الفيلم أو ذاك دون أن ننسى قصيدة كتبها الراحل فؤاد حداد عن هتشكوك ذات يوم ويحلو لصديقنا الفنان المثقف محمود حميدة أن يتلوها غيباً أمام من يحب! غير أن ما يمكن قوله اليوم هو أن الشعر بات جزءاً أساسياً من السينما، وعلى الأقل على يد مبدعين كبار في الفن السابع من أمثال ستانلي كوبريك وآندريه تاركوفسكي وعشرات غيرهم. كما أن السينما قدمت حتى الآن مئات الأفلام عن حياة الشعراء. ومن بينها ما هو عن شكسبير وكيتس، ونيرودا وفكتور هوغو وغيرهم... هذه المرة، في هذه الدورة من «كان» لدينا ما لا يقل عن ثلاثة شعراء دفعة واحدة: شعراء حقيقيون، تدور أفلام من حولهم. صحيح أن هذه الأفلام ليست متشابهة أو متكافئة، ولكن لكل منها بالتأكيد عوالمه الخاصة... لكنها تقدم معاً ما له علاقة بالشعر مباشرة بالنسبة الى اثنين منها، وفي شكل موارب في الفيلم الثالث. الفيلم الأول هو «شعر بلا نهاية» للمخرج الشيلي اليخاندرو خودوروفسكي، الذي يعتبر عادة من كبار المبدعين السورياليين في فن السينما، وهو هنا في هذا الفيلم الطويل الجديد والذي نجح في اكتساب جمهور نخبوي عريض من المعجبين، يتابع حديثه الذي بدأه في فيلمه السابق «رقصة الواقع» عن شبابه والشعر وعلاقته به. الشاعر هنا في هذا الفيلم هو المخرج والكاتب نفسه، والذي يقوم ابنه بلعب دوره فيه. المرحلة التي تطالعنا هنا هي أربعينات وخمسينات القرن العشرين حين بدأ الشاعر، السينمائي لاحقاً، مساره في حانات سانتياغو الشيلية وأزقتها في صحبة تلك التيارات الشعرية اليسارية المستقبلية الصاخبة ضجيجاً بالشعر والحياة. ولئن كان لدينا هنا شاعر أضحى سينمائياً كبيراً يعود الآن بنفسه الى سنوات شبابه وتكوينه مقدّماً للشعر وحب الحياة والرغبات التغييرية واحدة من أجمل التحيات، فإن الفيلم الآخر «نيرودا» يتحدث عن شاعر شيلي هو الآخر، فيحكي لنا فصلاً من حياة هذا الأخير الذي هو بالطبع شاعر الشيلي الأكبر بابلو نيرودا. وكما الحال في فيلم «ساعي البريد» الذي قدم قبل عقود فصلاً آخر من حياة الشاعر نفسه، يوم كان منفياً في إحدى الجزر الإيطالية، ها نحن هنا أمام أيام محددة من حياة الشاعر، تجمعت فيها ثلاثة أو أربعة ظروف محددة لتجعل المرحلة مفصلية في مساره: كان ذلك أواخر سنوات الثلاثين من القرن العشرين يوم عاش نيرودا هبوطه من ذروة العمل السياسي بعد أن كان عضواً في مجلس الشيوخ في بلده عن الحزب الشيوعي، فإذا بانقلاب يميني يطيح به وحزبه فيضطره الى سلوك درب المنفى لسنوات كانت على أية حال، خيّرة عليه فنياً، إذ كتب خلالها رائعته «النشيد الشامل». قد لا تكون لهذا الفيلم قوة «ساعي البريد» وظرفه، وهو لا يضاهي بالتأكيد قوة تعبير خودوروفسكي عن شبابه الشاعري واحتفائه به، لكنه يكفي على الأقل لاستعادة شاعر وقصيدة ملآ عالم الشعر والسياسة طوال أكثر من قرن، كما يكفي للقول أن السينما قادرة على كل شيء... ولو بأساليب ولغات تبسيطية. بسيطة لا تبسيطية هي في المقابل الصفة التي يمكن إطلاقها على الفيلم «الشعري» الثالث الذي شوهد في المهرجان – ويمكن المراهنة منذ الآن على أنه لن يخرج دون جائزة، إن أدركت لجنة التحكيم التي يقودها مخرج «ماد ماكس»، جورج ميلر روح الفيلم -، ونتحدث هنا عن «باترسون» لجيم جارموش. غريب وأنيق هو أيضاً هذا الفيلم الذي يعيدنا مرة أخرى إلى أسلوب ولغة جارموش التكراريين اللذين صنعا جمال وقوة بعض من أجمل أفلامه، مثل «أغرب من الجنة» و «زهور ممزقة» و «الرجل الميت» بخاصة «شبح كلب... طريق الساموراي». هنا في «باترسون» لدينا شاعر يدعى باترسون يعمل سائق باص في مدينة باترسون، التي هي كما سنفهم، مدينة الشاعر وليام كارلوس ويليامز الذي اشتهر بكونه شاعر بساطة الحياة اليومية. لا يحدث شيء في الفيلم. كل شيء هنا بسيط ويومي يتكرر يومياً بما في ذلك حياة السائق مع زوجته الرسامة (تقوم بالدور بلكنتها الإيرانية المحببة الممثلة الحسناء غولشيفتي فرهاني)، على أقمشة المنزل بخاصة... الشيء الوحيد الذي يتطور في الفيلم، هو القصيدة التي يكتبها باترسون ليكتشف لاحقاً أنه ليس الشاعر الوحيد في المكان... وليلتقي بعد ذلك «سائحاً» يابانياً أتى الى هنا لمجرد متابعته فصول حياة ويليامز. على هذه الأشياء البسيطة، بنى جارموش عملاً شعرياً حدد فيه الفارق بين السينما الشاعرية، وسينما الشعر. فلئن كان كثر من سينمائيي العالم يقدمون سينما شاعرية، مدخلين لغة الشعر الخاصة في ثنايا أفلامهم، ها هو جارموش هنا يصنع سينما الشعر نفسها، يصنع الفيلم كقصيدة عذبة تنتمي الى الحياة وما وراء جمال الحياة. رهان شعري يبدو أن هذا السينمائي الفذ نجح في استيعابه. نساء... نساء... نساء رهان كبير آخر في دورة هذا العام نجح في فرض حضوره، هو رهان نسائي. فلئن كان من المعروف أن المرأة شكلت وتشكل دائماً «زينة» المهرجان، نجمة كبيرة كانت أو مجرد فتاة جميلة تتبرج وترتدي أجمل الأثواب مساء لتحضر سهرة صاخبة بعد يوم عمل شاق، فإن ما نتحدث عنه هنا شيء آخر: المرأة الحاضرة على الشاشة. لقد اشتكت نجمات السينما طويلاً، من أن السينما في شكل عام والسينما الأميركية في شكل خاص، لا تعطي المرأة الكثير من الأدوار القوية على الشاشة. لكن دورة هذا العام قلبت الآية: ليس فقط من خلال النسبة المرتفعة الى حد ما في عدد الأفلام التي أخرجتها نساء، بل أيضاً من خلال حضور المرأة على الشاشة. فأبداً قبل الآن لم نر في مهرجان غير مخصص لسينما المرأة تحديداً، نساء قويات ومستقلات في أدوار قوية في أفلام يكاد الرجل يجد نفسه مهمشاً فيها. طبعاً ليس المجال كافياً هنا لوضع لائحة تؤكد الصورة التي نتوخى نقلها، لكن حفنة من أمثلة تبدو كافية للغرض. فمن الموظفة «العولمية» الكبيرة في فيلم «طوني إردمان» للألمانية مارين آدي والتي تريد أن تعيش حياتها ونجاحها الاجتماعي دون أن يعرقلهما أبوها الملاحق لها بفوضويته وخرقه وظرفه، الى ممثلة الدور الرئيس في فيلم «ما روزا» للفيليبيني بريانتي مندوزا، مروراً بالدور الرائع الذي تلعبه آلكساندرا ستيوارت في فيلم أوليفييه السايس «مشتريات خاصة»، وشخصية الفتاة الهاربة مع مجموعة من باعة اشتراكات المجلات في «أميركان هاني» لآندريا آرنولد، والزوجة السوداء في «لافنغ» لجيف دانيلز، وامرأة الفيلم البرازيلي «أكواريوس» – هنا على ذمة أحد النقاد الأصدقاء! -، وصولاً الى الامرأتين الاستثنائيتين في تأزم حياتيهما: الشخصية المحورة اي الدكتورة التي تعاني ندماً وحزناً، إذ استنكفت عن مدّ يد العون الى فتاة مجهولة ستجدها ميتة صباح اليوم التالي، في «الفتاة المجهولة» للأخوين داردان، و «خوليينا» في جديد بدرو المودوفار غير المقنع هذه المرة،... كلهن هنا نساء قويات أو ضعيفات، وحيدات أو محاطات، بائسات أو ميسورات... لكنهن لسن، سينمائياً على الأقل، على الهامش كما اعتدن أن يكنّ، أو يزعمن أن ذلك هو مصيرهن السينائي... أميركا... أميركا قد لا يكون فيلم «آميركان هاني» للبريطانية آندريا آرنولد فيلماً كبيراً، على الأقل مقارنة بفيلمين سابقين لها، أهمهما «الطريق الأحمر» الذي أطلقها عالمياً. فبصراحة شكّل فيلم آرنولد الجديد نوعاً من الخيبة إذ كان منتظراً منها ما هو أفضل ولا سيما إذ تخوض هنا تجربتها الأميركية الأولى... إذاً قد لا نكون هنا أمام فيلم كبير من الناحية الفنية، ومع هذا سنجرؤ على أن نقول أننا أمام فيلم كبير من ناحية دلالته وعلاقته بأميركا، أو حتى، من ناحية العلاقة التي يبنيها بيننا نحن المتفرجين وبين النظرة الى أميركا. ولنوضح: بين الحين والآخر يحدث في السينما أن يأتي مبدع، من خارج أميركا خصوصاً، ليلقي نظرة جذرية على ما تؤول اليه بين الحين والآخر أحوال هذه القارة/ العالم – كي نستعير تعبيراً من المؤرخ الفرنسي الكبير فرنان بروديل -. ولعل كون النظرة تُلقى على «أميركا» من خارجها هو أهم ما في الأمر. وحسبنا هنا أن نذكر حالتين متباعدتين زمنياً، مع حالة أخرى مزدوجة تتمايز عنهما: حالة الفيلم المَعْلم «زابريسكي بوينت» للإيطالي ميكال آنجلو آنطونيوني، في السبعينات أيام ثورة الشبيبة وعوالم البسيكاديليك واكتشاف حرية الحب والتفنن في هومشة الحياة والثياب إنما في شكل منمق، وحالة « لا تأتي قارعاً بابي» للألماني فيم فندرز في بدايات الألفية الجديدة حيث صوّر التفكك العائلي الذي افترض أن أميركا صارت عليه. ثم حالة فيلمَي الدنماركي لارس فون تراير، «دوغفيل» و «ماندرلاي» -اللذين كان من المفترض أن يشكلا الجزءين الأولين من ثلاثية لم تكتمل حتى الآن - بالارتباط هذه المرة مع جذور للتاريخ الأميركي أراد مخرج الفيلمين أن يسقطها على الحاضر في لعبة تركيبية فذة. في كل هذه الحالات، كانت المسألة صورة لأميركا وتساؤلاً عن مآل حلمها. اليوم ها هي آندريا آرنولد تأتي لتدلي هي الأخرى بدلوها الأميركي... لتتساءل أين صارت الأحلام الكبيرة؟ أين صارت الشبيبة الأميركية التي صنعت ذات يوم أمجاد الاحتجاج على حرب فييتنام وفضيحة ووترغيت. في اللامكان صار هذا كله، تقول لنا آرنولد في عملية رصد دقيق وسوسيولوجي لمجتمع أميركي صار شعاره «المال... كل شيء من أجل المال» واقعاً يومياً. والمال لا لشيء إلا لذاته. وليس صدفة أن يقول لنا الفيلم أن المهنة التي تدر الآن المال على أنواع معينة من الشبيبة هي بيع الاشتركات عبر الولايات، الى من يريد بعد أن يقرأ ولكن عن القوارب والعقارات وأشياء أخرى تتعلق بالاستهلاك من أجل الاستهلاك. إنهم شبان لا يتعبون في إتقان مهنة البيع. ولا يعرفون شيئاً خارج عوالمهم. لهم موسيقاهم الراقصة الخاصة بهم ولهم ثيابهم الخاصة بهم ولغتهم التي باتت حتى عسيرة على الترجمة. هو عالم خاص من بين أسسه غياب القيم وحضور الكذب كجزء أساسي من اللعبة، لكن فتاتنا بطلة الفيلم ستعتاده وتتبناه بالتدريج... كما أنها ستعتاد كالبديهة أن تبيع جسدها مقابل اشتراك في مجلة أو أكثر. أما حين يسأل الشبان الغارقون في هذه المهنة الجوالة بعضهم عما هي أحلامهم، فيدهشون لأنه لم يسبق لأحد أن طرح عليهم مثل هذا السؤال. «ما هو حلمي؟ لست أدري، ربما أن أشتري بيتاً». لقد صارت وراءنا، يقول لنا «آميركان هاني» كل تلك الأحلام ودرامات الحياة الكبرى بموسيقاها وخيباتها. لم يبق من تلك الأميركا، اليوم سوى الحياة... الحياة كيفما اتفق وكيفما كان الأمر، بخاصة الحياة من دون قيم. بعيدة جداً إذا صارت تلك الأميركا الأخرى التي رصدها متحمسون كأنطونيوي ولارس فون ترتير وفيم فندرز ذات يوم... وها هي ترصدها مخرجة امرأة من سكوتلندا تأتي اليوم لتقول لنا أن كل شيء بات على خير ما يرام، طالما طلقنا الأحلام والخيبات وعانقنا الحياة... الحياة كما نلتقيها دون طموحات كبيرة!