} ايليا سليمان المخرج الفلسطيني الذي قدّم قبل سنوات واحداً من أهم الأفلام الفلسطينية "سجل اختفاء" وأثار سجالات كثيرة في شأنه وفي شأن عدد من الشؤون الأخرى التي تتعلق بسينماه الاستفزازية وبهويته الاسرائيلية كونه من عرب 1948 ومواليد الناصرة، يصور منذ أسابيع، أو يحاول أن يصور، فيلمه الروائي الطويل الثاني، في الضفة الغربية. خلال مراحل الاعداد للتصوير فاجأت الانتفاضة وأحداثها ايليا سليمان، وأخرت تصوير فيلمه. وفي الوقت نفسه اتصلت به مجلة "كراسات لاسينما" الفرنسية الشهيرة وطلبت منه أن يكتب شهادته، أو يومياته عن الأحداث التي يعيشها هناك ومشاهداته. وهو فعل وكتب النص الذي ننشر هنا، بالاتفاق مع ايليا سليمان الذي كان أذن لنا قبل مدة بنشر نصوصه كلها بالعربية، ترجمته العربية. والنص كتب أصلاً بالانكليزية و"كراسات السينما" نقلته الى الفرنسية. وايليا سليمان الذي درس السينما في الولاياتالمتحدة، سبق ان حقق، الى "سجل اختفاء" عدداً من الأفلام القصيرة والمتوسطة الطول، ومن أهمها "سيبر فلسطين" 2000 الذي يعرض خلال الأسابيع المقبلة ضمن تظاهرة السينما العربية التي تنطلق من مدينة بولونيا الايطالية، ثم "الحلم العربي" 1998، و"تكريم عن طريق القتل" 1992 الذي يشكل الجزء الأخير من الفيلم العربي الجماعي "الخليج وبعد؟". مجلة "كراسات السينما" نشرت نص ايليا سليمان بالفرنسية، وقدمت له كما يأتي: "في تشرين الأول اكتوبر من العام 1996 جاءنا من فلسطين فيلم جميل عنوانه "سجل اختفاء". مؤلفه ايليا سليمان 36 سنة عاش طويلاً منفياً في نيويورك وضائعاً بين القدس والناصرة وباريس ورام الله وتل ابيب، صرح يومها قائلاً: "انني غريب في أي مكان عشت فيه". في تشرين الأول 2000، كان ايليا سليمان يحضّر فيلمه الروائي الطويل الثاني الذي كان عليه أن يبدأ تصويره بعد شهر من ذلك. وكان موجوداً في القدس حيث كانت الأحداث تتلاحق منذ أيام. "سجل اختفاء" كان يتحدث عن امكان ان يكون المرء سينمائياً وسط حرب خفية، بأسلوب فكِهٍ ومحايد بعض الشيء. واليوم يبدو ان الحرب لم تعد مجرد ضجة في الخلفية. إذاً، في ضوء هذا، كيف حال السينما؟ وماذا عن ذلك الحياد؟ للاجابة عن هذين السؤالين اتصلنا بإيليا سليمان. والنص الآتي تلقيناه يوم الجمعة في 13 تشرين الأول اكتوبر، لكنه ليس تحقيقاً. انه، وكما يصفه الكاتب/ المخرج "يوميات حميمة غير مؤرخة". العنف الذي يحمله ايليا سليمان في داخله اليوم، جديد. في العادة لا يعبر سليمان عن نفسه بمثل هذه القسوة. هنا في هذا النص تبدو السينما حدوداً بعيدة، وربما على شكل ملجأ وهمي، "قبو" على نمط سرداب دوستويفسكي، لكنه ملجأ يزداد اشكالية نظراً الى انه الآن منغرز داخل أماكن عملية وتواريخ فعلية. هذه الأماكن على الفتها، باتت بالنسبة الى كثر، عصية المنال، محاصرة ومغلقة. والتواريخ والأشخاص الذين يساندونها بعيدون جداً. وها هو سليمان يروي لنا هذا كله، في وقت أخّر انجاز فيلمه. في المكان كما في الزمان، تسمح المسافة للغة بالحفاظ على تكاملها. أما التفكير في صورة فورية فمعناه الغاء المكان. هذا المكان الذي سميته حيزاً شاعرياً. وحين تعلن اللغة ذاتها بذاتها تصبح حدثاً، محتوى. أنا لست مراسلاً صحافياً ولا أرغب في أن أكونه. وحين سألتموني هل أنا مستعد لكتابة شيء ما عما يحدث من حولي، شعرت في الوقت نفسه انني حائر وواقع في مدار الغواية، لأنني كنت أحس بالحاجة الى الكلام. وأشعر الآن انني وقعت في شرك. أنا، عند كتابة هذه السطور، أتهيأ لتصوير فيلمي المقبل. والزمن يلعب ضدي. كل يوم استيقظ في تمام السادسة، وانصرف مع مدير التصوير الى الانكباب على تقطيع المشاهد، وهو العمل الأكثر أهمية خلال مرحلة ما قبل الانتاج. وبما اننا متأخرون بالنسبة الى خطة العمل، صار يحدث لنا أن نستيقظ أبكر وأبكر يوماً بعد يوم. أما خلال النهار فيجبرنا انفجار الموقف على التوقف عن العمل، وغالباً ساعات وساعات. انني احيا، أو أتعرض إذا شئتم لما يمكن تسميته ب"عارض كوبولا"، مع فارق يكمن في أن العارض يصيبني قبل التصوير، هذا اذا سلمنا جدلاً بوجوده. وأحاول أن أعيد تمثيل ما يحدث في فيلم "حال الأشياء"، ليس بسبب المنتج الذي يدعمني تماماً، بل لأن الجيش الاسرائيلي قرر احتلال الديكورات الطبيعية التي نصور فيها، ليصور شريطاً دعائياً لفيلم رعب جديد. انه يصور "تصوير" فيلم لم ينجز بعد، هو فيلمي. وهذا ما جعلني أعتبر نفسي متنبياً، متنبياً فاشلاً. وهذا أيضاً بسبب سوء تقدير مني لقيمة الزمن. وهاكم كيف حدث هذا كله: قبل خمسة عشر يوماً، أو في شكل أكثر تحديداً قبل بدء الأحداث الراهنة، أخذت موعداً مع مفوض الشرطة في قطاع بيت لحم، وقلت له انني لكي أعيد بناء مخفر المراقبة الاسرائيلي في "الرام" والذي يقطع القدس عن رام الله، وحيث يتوجب أن يدور ثلث احداث الفيلم، ينبغي لنا أن نوقف السير في ثاني أكبر شوارع بيت لحم. كان رد المفوض ايجابياً جداً، ومنحني بركته. وهنا سألته عما يمكن أن يحدث اذا حل شيء ما بمركز المراقبة الحقيقي، القائم في بيت لحم، حين نصور في مركز المراقبة المزيف الذي نقيمه. وسألته أيضاً عما قد يحدث إذا اكتشف أهل بيت لحم، ذات صباح حين يفيقون وينظرون من شرفات منازلهم العالية داخل الأراضي المحررة، وجود مركز مراقبة جديد؟ قد يقولون ان الاسرائيليين عادوا الى هنا من جديد. أجاب الرجل: "لا تهتموا لهذا. عليكم فقط أن تنشروا اعلاناً على شاشة التلفزة المحلية لكي تخبروا الناس بما تفعلون. ولا تهتموا بأي مواجهة قد تحصل عند مركز المراقبة الحقيقي. فهو يبعد ما لا يقل عن كيلومتر كامل عن مركزكم". قنابل مسيلة للدموع بعد ذلك اللقاء، ذهبت لتناول الغداء مع الملحق الثقافي الفرنسي في فندق "انتركونتيننتال" في بيت لحم، ويقع عند مدخل المدينة، غير بعيد من مركز المراقبة. مع الملحق، ومع مدير التصوير وزوج من الأصدقاء، ما الذي كان يمكننا ان نتحدث عنه ان لم يكن عن السينما الفلسطينية؟ من الخارج كانت تصل أصوات اطلاق نار، من بعيد أولاً، ثم من قريب. وشاهدت مدير الفندق يعبر الردهة، جيئة وذهاباً. وشاهدت الخادم وموظف الاستقبال يكفان عن الاهتمام بالطلبات وبحوائج النزلاء لكي ينهمكا في اغلاق منافذ الهواء والنوافذ التي قد يمكن أن يتسلل عبرها الغاز المسيل للدموع أو الرصاص الطائش. وفي النهاية طلب منا المسؤولون في الفندق اخلاء الردهة والبقاء في صالة الطعام الأقل تعرضاً للخطر. وفجأة سمعت صوت سيارة اسعاف تتوقف امام الفندق. وتكاثرت أصوات الانفجارات، فجازفت بالقاء نظرة الى الخارج. وهنا هرع مدير الفندق ليشير الى القناصة الاسرائيليين المتمترسين في المبنى المواجه. الصديقة، الحامل، والموجودة معنا، كانت عادت الى فلسطين قبل اسبوعين من موعد الوضع. فهي، لكي تحتفل بعودتها الى الوطن، قررت أن يكون الوضع في بيت لحم. لكن الغازات المسيلة للدموع ليست، في حقيقة الأمر، طاهرة وبعيدة من حواس امرأة حامل. لذلك قررت صاحبتنا ان تغادر الفندق وتعود الى بيت لحم. وفي الوقت نفسه وصلت "جيبات" تابعة للشرطة الفلسطينية لتقل الملحق الثقافي الفرنسي وتوصله الى مكان أكثر أمناً. أما أنا فبقيت هناك عالقاً أربع ساعات اضافية مع مدير التصوير. في النهاية، هدأت الأمور. واقترحت على رفيقي ان نذهب لنرى هل حصل شيء لمركز المراقبة الوهمي الخاص بنا، بفعل ما حدث لمركز المراقبة الحقيقي، وأيضاً للتيقن هل في وسعنا أن نعمل في مثل هذه الظروف، اذا ساءت الأمور أكثر؟ مركز المراقبة الخاص بنا لم يُبْنَ بعد. ليس للديكور وجود إلا داخل مخيلتنا. عندنا تصور له لا أكثر. كل ما نراه الآن مجرد شارع عادي فيه منحنى. وهكذا إذ تبدت مخيلتنا عاجزة عن موضعة ما يحدث في الفيلم في هذا المكان، كان لا بد لنا من العودة الى ذلك التصور حتى تنطلق المخيلة من جديد. هناك، حيث كنا جالسين في السيارة، رحنا نحاول اعطاء المشهد طابعه البصري حين جاءنا العون من مخفر وحاجز حقيقيين. هناك، كل دقيقتين أو ثلاث، كانت ثمة سيارة اسعاف تمر بسرعة شديدة. وكانت هناك غيمة كثيفة من الدخان الأسود ترتفع غير بعيدة منا. أما الريح فكانت تحمل الينا جرعات من الغاز المسيل للدموع. ولم يعد في استطاعتنا ان نشاهد شيئاً، فرحنا نتخيل. كانت عيوننا امتلأت بالدموع ولم يعد في وسعنا أن نرى شيئاً على الاطلاق: عيون مغمضة على اتساعها، كما قال ستانلي كوبريك. آفي، المنتج، هو واحد من الأشخاص الأكثر سحراً وصدقاً من الذين عرفتهم. لكن آفي اسرائيلي. ولأسباب بديهية كان يشعر انه يرتاح في الناصرة أكثر مما هو مرتاح في الضفة الغربية. في الناصرة ويشعر انه أقل خوفاً. هناك يمكنه أن يتكلم العبرية، والناس يردون عليه بالعبرية. ذات يوم يصل آفي مع اسرائيليين تعاقد معهما للعمل في الفيلم. وحين طلبت منه أن يتفادى الكلام بالعبرية هنا، شعر بالغيظ. وتأفف. رجوت منه ألا ينخدع بالمظاهر وقلت له: "تبدو الناصرة هادئة ظاهرياً، لكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة. هنا، الناس يكرهون اسرائيل وكل ما تمثله، لأسباب عدة، كلها وجيهة. لذلك، من المؤكد ان الوضع سيتدهور بين يوم وآخر. وانت غير مرحب بك هنا في الناصرة، ولو كان ثمة من يؤكد كل العكس". يشتغل على الفيلم معي فلسطينيون وفرنسيون واسرائيليون. وأعلن أنا أن اللغة المتداولة رسمياً خلال التصوير ستكون الانكليزية. للفلسطينيين الحق في أن يتكلموا العربية في ما بينهم. ولكن ليس في مستطاع اليهود أن يتكلموا العبرية ليس في هذه الاجراءات أي ظلم لأحد، ولكن سيكون من الصعب شرح اسبابها هنا. وقلت لآفي: "آفي، ذات يوم سينفجر الموقف هنا، وبطريقة أكثر عنفاً مما يحدث في الضفة الغربية. سترى. ان تحميل الفلسطينيين في اسرائيل ما يتحملونه منذ خمسين سنة ليس امراً مقبولاً". هذا "الذات يوم" حصل بعد ذلك بأيام. كنت أصطحب صديقتي ر. الى رام الله. ووصلنا الى مركز مراقبة اسرائيلي عند تخوم المدينة. قال لنا الجندي: "لا يسمح لأحد بالمرور من هنا. هناك اطلاق نار كثيف، قوما بنصف دورة وعودا من حيث أتيتما". ر. ذات طبيعة استفزازية. وهي تشعر بمقدار كبير من الاحتقار للعسكر. لذلك لم تصدق ما قيل لنا، وردت قائلة: "انني لا أسمع صوت اطلاق نار". قال الجندي وهو يحاول تخويفنا: "عودا من حيث اتيتما وفي سرعة". لم نتحرك. شعرنا ان من حقنا أن نعرف ما الذي يمكن أن يحدث لأصدقائنا في رام الله. راح الجندي يذرع المكان جيئة وذهاباً وقد بدأ صبره بالنفاد. ووجه سلاحه ناحيتنا ملمحاً الى ما يمكن أن يحدث ان نحن لم نرحل. وبدا لي أن علينا فعلاً ان نستدير ونغادر. وبدا لي خصوصاً انني لم يعد في وسعي ان اختبئ خلف أوراق هويتي الاسرائيلية التي كانت، الى وقت من الزمن قريب، تضمن لي ما يشبه الحماية. وبعبارة "ما يشبه الحماية" أعني انني لم أكن أحس انني معرّض للرصاص الطائش أو للضرب. الآن أشعر ان هذا الجندي إذا قرر أن يتفحص أوراق هويتي، وعرف انني من الناصرة، سأجازف بأن أفاجأ في شكل سلبي. إذ من خلال الأيام الأخيرة، وبعد 52 عاماً من الاحتلال، فهم الاسرائيليون، أخيراً، انما من دون ان يقتنعوا بالأمر كثيراً، ان أولئك الذين يطلقون عليهم اسم "العرب الاسرائيليين" تحولوا فلسطينيين. في نظر هذا الجندي، إذاً، سواء أكنت أحمل أو لا أحمل هوية اسرائيلية، صرت الآن شخصاً من الناصرة، جديراً بأن يُقتل. أخيراً، إذاً، ومن جديد، أو مرة أخرى، ها نحن بتنا مساوين للفلسطينيين. ومنذ أيام أيضاً، صرنا حتى أقل انسانية - في نظر الاسرائيليين - من اخوتنا المنزوعة انسانيتهم في الضفة الغربية. نحن، عرب اسرائيل ، عربهم، ها نحن نعتمر الكوفية من جديد، ونرشقهم بالحجارة. خلال 52 سنة خبأ الاسرائيليون رؤوسهم في الرمال وتوقفوا عن التنفس. واليوم، صار في وسعهم ان يتنفسوا من جديد، لكن الهواء لم يعد نقياً تماماً. ففي الناصرة، أولئك الذين يحرقون الاطارات والاعلام الاسرائيلية والمخازن الكبرى هم انفسهم أولئك الذين يشعرون بالغضب مزودجاً: لأنهم من ناحية عوملوا كزنوج موضوعين داخل أحياء وأماكن مغلقة، ومن ناحية ثانية لانهم فلسطينيون ازدادت فلسطينيتهم فلسطينية مع الأيام. التسامح؟ لست أدري ما نفعه غيوم من الدخان الأسود ترتفع في الأعالي. سكان البلاد الاصليون يقفون فوق المرتفعات، وحين يرانا الاسرائيليون واقفين هناك على هذا النحو، كل ما يفهمونه هو اننا انما نريد أن نحصل على فروتي رأس أو ثلاث. انا الآن في القدس. وفي الناصرة ينبغي لأحد ما أن يصطحب أمي الى المستشفى. أمي تعاني داء السكري وأصيبت بالتهاب في الساق. ليس ثمة طبيب هناك للعناية بها، لأن الأطباء كلهم منهمكون في معالجة الجرحى. والمركز الطبي في الناصرة أقفل. ابنة أخي تحاول أن تصل الى منزل امي لكنها تعجز عن عبور خط النار. والالتهاب يصل الى عظم الساق. فإذا حدث لأمي ان عانت ثم ماتت بسبب الرصاص الذي يطلقه الاسرائيليون، فسأعجز عن معرفة ما الذي سيؤول اليه كل ما لدي من تسامح. أنا لم أولد لكي أقتل. لكنني سأفعل من أجل أمي، إذ عجزت عن الوصول الى المستشفى. وفي الوقت نفسه لا يمكنني أن أصل الى خطيبتي. انها تعيش في الضفة الغربية. أطلبها بالهاتف. فأسمع صوت رصاص رشاشات ينطلق في خلفية صوتها في الجانب الآخر من الخط. أقول لها: "اطفئي النور". ثم أضيف: "أطفئي التلفزيون الذي ينقل صوت رصاص أسمعه". وأضيف: "ان قطع التلفزيون لن يوقف صوت الرشاش في الخارج، ولكن على الأقل ستسمعه مونو، وليس بأسلوب دولبي المجسم". أنا عاجز عن مشاهدة خطيبتي. وأنا عجز عن مشاهدة أمي. وأنا عاجز عن القاء رأسي على أكتافهما والاسترخاء على صدريهما. وأنا لا يمكنني أن أعوض غياب احداهما بحضور الأخرى. ولست قادراً على الحصول لا على هذه ولا على تلك. ويتوجب على أحد أن يجيبني عن اسئلتي هذه. من سيجيب: سيغموند فرويد أم الجيش الاسرائيلي؟