يمكن المخرج الأميركي كوينتن تارانتينو ان يروي كما يشاء حكاية ولادة فيلمه الأخير «دجانغو طليقاً»، وكيف ان تلك الولادة انبثقت للمرة الأولى على شكل فكرة واتته وهو في غرفة في فندق ياباني في طوكيو يشتغل على نصّ يكتبه عن المخرج الإيطالي، المنسيّ تقريباً في ايامنا هذه، سرجيو كاربوتشي، مستمعاً الى تسجيلات موسيقية تتعلق بألحان افلام هذا الأخير ولا سيما منها أفلامه التي حققها في سنوات الستين عن رعاة البقر في الغرب الأميركي وأُطلق عليها اسم «وسترن سباغيتي» لكونها ايطالية! ويمكن تارانتينو ان يسهب في تلك الحكاية رابطاً إياها برغبة كانت شديدة القدم لديه في تحقيق فيلم عن تحرير العبيد السود في اميركا النصف الأول من القرن التاسع عشر... كل هذا ممكن ويملك صدقيته بخاصة ان صاحب «بولب فيكشن» و «كيل بيل»، يعتبر هنا اكثر من شاهد - ملك طالما ان الحكي يتعلق به وبسينماه. ومع هذا، إن حاول المرء ان يعود بذاكرته الى واحدة من أولى لقطات فيلم تارانتينو السابق «أوغاد سيئون» ربما سيسأل نفسه كيف لم يخمّن منذ ذلك الحين ان فيلماً مقبلاً لهذا المخرج سيكون بالتحديد فيلم رعاة بقر تدور احداثه في «الغرب» الأميركي، ويشتغل عليه على الطريقة الإيطالية؟ في تلك اللقطة التي شبهها كثر يومها بأسلوب سيرجيو ليوني – الإيطالي الآخر الذي ابدع في صناعة افلام «الويسترن سباغيتي» – الذي بنى جزءاً من أمجاده الأولى على هذا النوع السينمائي الذي كانت نقاوته الأميركية اشبه بالبديهة قبل دخول الإيطاليين على الخط، لدينا امتداد في المكان الجبلي السهلي الأخضر وحدّاد يطرق حدوة حصان – او شيئاً من هذا القبيل – قرب كوخه وزحام ما آتٍ من بعيد، وكل هذا على خلفية موسيقية مستقاة مباشرة من لحن لإينيو موريكوني جدير بسينما ليوني. طبعاً، بعد ذلك تبين ان مكان الحدث ليس غرباً أميركياً، بل يوجد في الجنوب الفرنسي ايام الحرب العالمية الثانية وأن الزحام المقبل دورية نازية وما الى ذلك. والحال ان تلك اللقطة بات يصحّ اليوم اعتبارها مؤشراً بل إرهاصاً بالفيلم التالي، وهي عادة يتبعها تارانتينو منذ زمن حيث يرهص في فيلم يحققه بما قد يكون عليه فيلمه التالي. لا أكثر ولا أقل. التاريخ على مزاج المخرج والآن إذا كان لنا ان نوجد تقارباً آخر بين فيلمي تارانتينو اللذين نشير اليهما هنا، فإن التقارب سيكون في كونهما معاً ينتميان الى نوع سينمائي لم يسبق للمخرج ان دنا منه، السينما التي تحاول ان تغوص في حدث تاريخي ما... ولا نتحدث هنا طبعاً عن السينما التاريخية، لأن «التاريخ» في سينما تارانتينو ليس تاريخاً بقدر ما هو «ديستوبيا» او تاريخاً افتراضياً يعيد رواية حدث ما على افتراض انه انما دار في شكل مخالف لما كان عليه التاريخ الحقيقي. وهكذا، مثلاً، في فيلمه السابق «أوغاد سيئون»، يعيد تارانتينو رسم تاريخ الحرب العالمية الثانية بحيث يدبّر عملية اغتيال لهتلر في صالة سينمائية باريسية، وهو ما لم يحدث في الواقع كما نعرف. ومن دون ان نتوغل في هذه العلاقة «الافتراضية» بين سينما تارانتينو والتاريخ، نود هنا ان نستقي مما نشير اليه عبارة نعتقدها اساسية في اي بحث في سينما تارانتينو: العبارة المتعلقة بكون هتلر يتم اغتياله داخل صالة سينما خلال حضوره عرض فيلم. والحقيقة ان في هذه الصورة المفبركة واحداً من المفاتيح الأساس لفهم سينما تارانتينو والتوغّل فيها. فالرجل الذي جعل من كل سينماه – على قلة عدد الأفلام التي حققها حتى اليوم – إعادة نظر في الأنواع السينمائية ومفاهيمها، إنما على طريقته الخاصة التي لا يملك اسرارها سواه، كان لا بد له اخيراً من ان يصل الى سينما تعطي البطولة للسينما نفسها، ومن هنا إذا كنا نراه في «أوغاد سيئون» يقتل هتلر وسط عرض سينمائي يأتي تتويجاً لحكايات عدة مترابطة تملأ ساعتي الفيلم وتبدو كل واحدة منها مستقاة من نوع سينمائي ما، فإننا في الفيلم الجديد نراه يحقق الفيلم كله وكأنه سيرورة عمل سينمائي: كأن الفيلم كله كناية عن تحقيق فيلم، حتى وإن كانت الأحداث التي يرويها تحصل قبل عقود طويلة من اختراع السينما، وسنوضح هذا بعد لحظات. قبل ذلك، لا بد من ان نقول للقارئ شيئاً عما يحدث في الفيلم نفسه... فهنا يعود بنا الفيلم الى ما قبل ظهور الرئيس الأميركي آبراهام لينكولن وعمله على تحرير العبيد... ومع هذا لدينا محرّر لهم هو اميركي من اصل ألماني يدعى دكتور كينغ شولتز. وهذا الرجل يذرع اقاصي الجنوب الأميركي حيث اضطهاد السود والتعامل معهم كبهائم يصل الى ذروته... اما شولتز، فإنه في خضم مساعيه لإطلاق هؤلاء والانتقام لهم، يعمل ايضاً تحت ستار طب الأسنان، صياداً للجوائز. اي انه يلاحق المطلوبين الى العدالة الذين ترصد السلطات القضائية جوائز لمن يقبض على الواحد منهم «حياً او ميتاً»، فيلقي القبض عليهم – وهذا امر نادر – او يقتلهم – وهذا ما يفعله في اغلب الأحيان -. ونحن منذ مفتتح الفيلم، نجدنا في رفقة شولتز وهو يمارس «مهنته» حيث يبادر الى «شراء» عبد هو دجانغو نفسه، تاركاً لرفاق هذا الأخير في العبودية من افراد قافلة يقودها عدد من «الأشرار» البيض، تقرير مصير هؤلاء بعد التغلب عليهم. ومنذ تلك اللحظة لا يعود شولتز وحيداً في عمله، إذ انه سيتخذ من دجانغو رفيقاً ومساعداً وتلميذاً له، بعدما كان يريد منه اول الأمر ان يكتفي بأن يدله إلى ثلاثة من تجار العبيد يريد التخلص منهم. انسانية وسط شلالات الدم على هذا النحو، إذاً، يبدأ الفيلم: فهو من الآن وصاعداً اشبه برحلة بين المناطق المتباعدة والبلدات القذرة والمزارع الظالمة... وخلال الرحلة يقتل الدكتور ومساعده من يريدان قتلهم من الأشرار سواء أكانوا من رجال السلطة او من تجار العبيد او من اللصوص الصغار. ولئن كان هذا السياق سيبدو عشوائياً اول الأمر، فإنه بعد ذلك سيتحول الى سياق محدد الهدف، لا سيما في مرحلته الأخيرة، حيث ان الغاية تصبح هنا تحرير برونهيلده، زوجة دجانغو الحسناء التي ضُمّت الى عبيد اسرة شرير ثري يعيش مَلكاً في مزرعته. وهنا، كعادة تارانتينو في افلامه، نجدنا امام فصول مقسمة في شكل يكاد يكون هندسياً، بحيث يوصلنا الفصل الأخير الى حكاية تخليص دجانغو ومعلمه الدكتور، برونهيلده من أسرها... هنا في هذا الفصل المتشعب تدور اقسى المعارك وكذلك تدور اطول المشاهد المُمَسرحة وتتوالى الأحداث بأسلوب يكاد يكون شكسبيرياً ويعم الشر والخير الجميع، فلا السود طيبون كلياً ولا البيض أشرار في طبعهم. هنا يوصل المخرج/الكاتب «انسانية» خطابه الى حدوده القصوى إنما وسط مقتلة وخيانات وتقلبات مسرحية مدهشة ستنتهي بقتل الثري الأبيض الشرير والدكتور شولتز ولكن كذلك بمقتل رئيس الخدم الأسود في بيت الثري وهو يقدّم الينا اداة اضطهاد وقمع لأبناء جلدته... وإذا كان هذا كله يدور هنا على الشاشة بلغة سينمائية أخّاذة تدين للواقع بقدر ما تدين لأقصى درجات الخيال عبر ذلك المزج الذي يتقنه تارانتينو بين شلالات الكلام وأنهار الدماء وصخب العنف الذي يبدو وكأن لا نهاية له، ولكنه يبدو في الوقت عينه واصلاً الى حدود السخرية والمحاكاة المضحكة لحكايات الأبطال الخارقين وقد تحول دجانغو ولا سيما بعد مقتل استاذه، الى ما يشبه البطل الأسطوري زورو، نجدنا وكأننا قد صرنا وسط واحدة من اوبرات ريتشارد فاغنر. والحال ان هذا القول لا يأتي هنا اعتباطياً، وحسبنا للتدليل على هذا ان نذكر بأن تارانتينو الذي لا يترك لأية صدفة ان تقود خطاه وهو يكتب اي فيلم من افلامه، استعار لزوجة دجانغو اسم حبيبة زيغفريد في اوبرا «بارسيفال»، وجعلها تتقن الألمانية بحيث بدت قادرة على التفاهم مع الدكتور شولتز خفية عن اسيادها. المعلم ونجمه ولئن كانت الأوبرا حاضرة على هذا النحو، كما جوهر المسرح الشكسبيري في بعض اقوى لحظات الفيلم، فإن ما لا يمكن ان يفوت حضورُه احداً انما هو السينما نفسها. بل يمكننا ان نقول من دون اي مواربة، ان «دجانغو طليقاً» هو فيلم عن السينما بقدر ما هو فيلم «تاريخي» عن قضية العبيد السود، وبقدر ما هو فيلم يحاول ان يعيد الاعتبار الى سينما الغرب الأميركي ولو على الطريقة «الإيطالية»... فمنذ البداية يبدو لنا الدكتور شولتز وكأنه مخرج سينمائي يبحث عن موضوعه وشخصيات فيلمه في ذلك المكان «السينمائي بامتياز من العالم»... بل وبالتحديد قد لا يكون من الغريب ان نقارب هنا بين بحث شولتز عن فيلمه وبطله، بين شيء مماثل يحدث في فيلم «رحلات ساليفان» لبريستون ستارغز وإن كانت الأمور في هذا الفيلم الهوليوودي القديم اكثر وضوحاً وأقل دموية وعنفاً ولؤماً. وانطلاقاً من هنا، قد يكون ممكناً القول في هذا السياق، ان كل ما يلي مشاهد البداية في «دجانغو طليقاً» انما يبدو وكأنه رحلة سينمائية... وكأنه ممارسة إخراجية يقوم بها الدكتور شولتز في فيلم افتراضي يشمل دوره فيه العثور على الممثل وتحويله الى نجم (بما في ذلك تحديد ملابسه في كل مشهد ومرحلة، وتعليمه فنّ إلقاء حواراته، والعثور له على حبيبته) وبعد ذلك شدّ أزره كلما ابدى تراجعاً او يأساً، حتى لحظات الانتصار الأخيرة... الانتصار الذي يمكن ان يعاش من دون المعلم الذي لن يعود له دور بعد أن يقوم بمهمته ويخلق بطله انطلاقاً مما قد يشبه العدم. طبعاً لا يمكننا هنا ان نقول ان هذه القراءة للفيلم هي اوضح ما فيه، ولكن من المؤكد انها قراءة ممكنة سيكون من شأنها ان تضع فيلم تارانتينو الجديد هذا في سياق سينمائيّته الطاغية وهو المعروف بأن ما يحركه دائماً انما هو هواه السينمائي الذي يجعله لا يتوقف عن زيارة الأنواع (البوليسي والفساد البوليسي، كما في «ريزرفار دوغ»، افلام العصابات، كما في «بولب فيكشن» و «جاكي براون»، افلام فنون القتال الصينية، كما في ثنائي «كيل بيل»، وسينما الحرب والتاريخ، كما في «اوغاد سيئون» وسينما العنف الخالص والطريق وسباقات السيارات في «عصي على القتل» وسينما الغرب الأميركي اخيراً في «دجانغو طليقاً»)... وفي الأحوال كافة، قد يكفي ان نراجع ما يقوله تارانتينو عن فيلمه الأخير منذ بدء عروضه قبل شهور، لندرك اننا حقاً امام ما يشبه تاريخ السينما في فيلم لا يخاف من غزو التاريخ نفسه على هواه.