يُحاصر عالم النساء محمد خان من دون أن يوقعه في فخ النضالات النسوية الخشبية. يؤرقه بقيود تُكبّل مجتمعات غارقة في ذكوريتها، من دون ان يُعلن الحداد على نون النسوة. نساؤه ضحايا، ولكن مفعمات بالقوة... هذا على الأقل ما يرسمه لنا فيلمه الجديد «فتاة المصنع» من دون أن يغيب عن باله مدّ المشاهد بشحنة أمل ولو من عمق المأساة. فيلم عن الحب هو الذي يقترحه خان على جمهوره في زمن الثورة، ولكن الحب الضائع في خضم تفاوت الطبقات، ليُعلن فيه اتساقه بالواقع هو الذي اعتبر أبا «السينما الواقعية الجديدة». «الحياة» التقت محمد خان قبل ساعات من توزيع الجوائز في مهرجان دبي السينمائي الذي شهد العرض العالمي الاول ل «فتاة المصنع»، وفي هذا اللقاء قال خان إنه سيكون راضياً جداً إن حصدت بطلة فيلمه ياسمين رئيس جائزة أفضل ممثلة. ولكن بدل الجائزة فاز بجائزتين: جائزة أفضل ممثلة وجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما «فيبريسكي» عن فئة الأفلام الروائية العربية. هنا الحوار مع مخرج «أحلام هند وكاميليا» و«زوجة رجل مهم» و«سوبرماركت» و«أيام السادات» بين أفلام أخرى: على رغم ان فيلم «فتاة المصنع» قصة حب ضائعة في متاهات الطبقية، فإن الثورة تطل برأسها أيضاً، ولكن، لا كمحرك للأحداث بل كخلفية. لماذا؟ - الفيلم قصة حب في مدينة متوترة، تعيش تخبطات ثورة مشتعلة. لكنها (الثورة)، كما قلت، خلفية فقط. فأنا من الذين لا يؤمنون بأن الوقت مناسب لتحقيق فيلم عن الثورة لأنها لا تزال في مهدها ولم تتم أو تنضج. وبرأيي لا تزال امامها سنوات طويلة. ولهذا أشعر ان من يصنع فيلماً عن الثورة الآن سيكون سطحياً الى حد ما. كيف تُصنّف الأفلام المصرية التي حُققت عن الثورة؟ - لم تعجبني أبداً. قد يكون فيلم ابراهيم بطوط «الشتا اللي فات» أفضل من سواه، لكنه لم يبتعد عن إطار الكليشيه. ولا أخفي عليك أنني اشتغلت على فكرة لمشروع عن الثورة، لكنني سرعان ما اقتنعت بأن الوقت غير مناسب للدنو منه وبأنه لا يزال يلزمنا وقت لذلك. كانت الفكرة مغرية جداً، وقد خطرت في بالي بعد قراءتي مقالاً حول الملفات التي أحرقوها بعد الثورة، فأحببت ان يكون الخيط الرئيس يتمحور حول رجل متقدم في السن من جيل ثورة 1952، يعثر على ملف لشاب من ثورة يناير. أردت أن يشتغل على الفكرة كاتب السيناريو رؤوف توفيق، ثم قابلنا أحمد حمروش قبل ان يتوفى، وهو من رجال الثورة القدامى، وبدأنا العمل على المشروع الى أن شعرت أنه لا بد من أن يمرّ وقت قبل ان أصنع فيلماً عن الثورة. ألا تعتقد أن للسينمائيين دوراً يجب ان يلعبوه على هذا الصعيد؟ - الفيلم التسجيلي يلعب دوراً قوياً بتوثيق ما يحدث. قد يرى بعضهم أن أفلامك ثورية بمعنى مطالبتها بالعدالة الاجتماعية أكثر من أفلام كثيرة أُنجزت عن الثورة. ما رأيك؟ - جيلي السينمائي كله، من خيري بشارة الى عاطف الطيب رحمه الله ورأفت الميهي، مرّ بالتاريخ ذاته. ثم إن أفلامنا كلها تتكلم عن العدالة الاجتماعية، إن في شكل مباشر أو غير مباشر. من هنا، فإن العدالة الاجتماعية التي يصيحون بها الآن في الشوارع ليست جديدة علينا، بل كنا السباقين في المناداة بها. من الجيد أنها بدأت تُصبح في العلن هكذا. ولا ريب في ان نكون في أفلامنا في صفّ الفقير. شخصياً، لا أحب أن تنظر أعمالي الى الفقير نظرة من فوق. احب ان أتناول الجميع في مستوى واحد. وأذكر، مثلاً، بعد عرض فيلم «أحلام هند وكاميليا»، كان هناك برنامج تلفزيوني يأخذ المخرج الى الأماكن التي صوّر فيها أفلامه. وفي إحدى الحلقات استضافوني، فقصدنا الحيّ الذي صوّرت فيه الفيلم، ولا يمكن ان أصف سعادة الناس بنا، بعدما لمسوا اننا لم نكن نضحك عليهم او نقلل من شأنهم. وفي هذا السياق، لدينا خطة الآن لعرض «فتاة المصنع» في صالات أفراح في الأباجية حيث صورنا الفيلم، ودعوة جميع أهل الحي لمشاهدته. حتى انني وضعت في شارة النهاية أسماء أهل الأباجية تقديراً لتعاونهم معنا. كاتبة في مصنع هل صحيح ان كاتبة السيناريو وسام سليمان، شريكتك في الحياة، التحقت بأحد المصانع لاختبار تجربة الفتيات عن قرب قبل الشروع في كتابة السيناريو؟ - عندما أتتني فكرة تحقيق فيلم عن مصنع تعمل فيه نساء، لم تتحمس وسام كثيراً، خصوصاً انها لا تعرف هذا العالم جيداً. ثم، سرعان ما عدّلت موقفها وقررت الانخراط في هذه التجربة من خلال العمل في احد المصانع. ومن طريق بعض المعارف، وصلنا الى صاحب مصنع، واتفقنا معه على ان تعمل وسام لديه من دون ان تعرف زميلاتها بالغرض الأساسي من عملها معهنّ. وعلى مدى أيام، صارت تقصد المصنع صباحاً، وتضع على رأسها وشاحاً، وتستقل الميكروباص كي لا تثير تساؤلات الفتيات إن أتت بتاكسي. ولا اخفي انها تعبت كثيراً في الأيام الأولى. كما تعبنا في العثور على مصنع للتصوير. فالرجل الذي قصدناه في البداية كانت لديه مخاوف من أهل الحي، فأشار إلينا بالذهاب الى مصنع آخر، لكنّ المشرف عليه صودف انه أخواني فهدد صاحب المصنع من دون ان يقرأ السيناريو بأنه سيجعل فتيات المصنع يجلسنّ في بيوتهنّ إن صوّرنا هناك. وبعد بحث طويل، عثرنا على مصنع في المنطقة الحرة، يملكه سوريون ومصريون، فدفعنا لهم مقابل أيام التصوير وبدأنا العمل. فيلمك عن الحب... - (يقاطعني) إن نظرت الى أفلامي تجدين أنها كلها عن الحب. ربما يعود هذا الامر لتكوين ما في شخصيتي. ففي شبابي كنت مشاكساً وذقت الأمرّين في الحب. ثم ان الحب جزء أساسي في حياتي، ولا أعرف أن أعيش من دونه. ولعل هذا ما يدفعني غالباً الى هذا الموضوع. ولا أنكر انني أحب دوماً أن أصوّر قصة حب على الشاشة. وأحاول جاهداً أن تبدو حقيقية. في «فتاة المصنع» انحياز واضح للمرأة من دون أن تقع في شرك النضالات النسوية الخشبية، شأنه في هذا شأن معظم أفلامك. ما السرّ؟ - المرأة في مجتمعاتنا مظلومة. فمن يضع القوانين رجل. ومن ينفذها رجل. ولا مساواة حقيقية. صحيح انني لا أنظر الى الموضوع من ناحية النضالات النسوية، وهذا واضح سواء في «أحلام هند وكاميليا» أو «سوبرماركت» أو «زوجة رجل مهم». وربما للأمر علاقة بتربيتي. فأنا ابن وحيد. وترعرت وأنا أرى كيف تُعامل امي المربية كما لو انها فرد من الأسرة. ولا انكر أنني كنت انزعج كثيراً حين كنت أعود من المدرسة وأجدها (المربية) تأكل على الطاولة ذاتها مع والدتي. وعندما كنا نذهب في الصيف الى الاسكندرية، كانت دوماً برفقتنا على الشاطئ. أكيد لهذه التربية دور في أفكاري اليوم. ولا عجب في انني أحب معشر النساء. فمثلاً، غالباً ما أنسحب من سهرات في منزلي حين يكون المدعوون من الرجال بعكس إن كانوا نساءً. في «فتاة المصنع»، غالبية النماذج الذكورية سلبية، من المشرف على الفتيات الذي لا يستجيب نداء القلب بسبب الفروق الطبقية الى صاحب السنترال الذي يتحرش بالموظفة عنده، وزوج الأم الذي يستقوي على نساء البيت. لماذا؟ - «فتاة المصنع» عن حب موجوع، ثم ان الشاب المشرف على الفتيات ليس نذلاً حكماً كما قد يشعر المشاهد بل هو أيضاً ضحية طبقته التي فيها نظرة دونية الى الطبقة المسحوقة. في هذا الفيلم نحن امام شخصية قوية («هيام» التي تقع في حب شاب من طبقة اخرى) قادرة أن تحرر روحها، وهذا اساسي. فما يهمني في كل أفلامي هو أن تكون هناك نظرة تفاؤل في النهاية. فمثلاً في «أحلام هند وكاميليا» كان ضرورياً ان يعثروا على الفتاة. وفي «عودة مواطن» لم أستمع الى عاصم توفيق رحمه الله الذي كان يريد ان يركب الطائرة ويسافر، بل جعلته يجلس مكانه مشلولاً، غير عارف إذا كان سيركب الطائرة او يبقى. التفاؤل مهم جداً، خصوصاً في زمننا هذا. ويتوجب علينا كسينمائيين أن نمنح الجمهور أملاً. يكفي ما حدث في مصر خلال السنة التي حكم بها «الإخوان». كنا لا نرى إلا وجوهاً مكتئبة. اخيراً تخلصنا من هذا الشعور وتنفسنا الصعداء حتى وإن لم نكن عارفين ما سنواجه من مآزق. تفاؤل إسمه سعاد حسني بريق الأمل الذي تتحدث عنه، يطل في هذا الفيلم من خلال استعادة أغنيات سعاد حسني وكأن في الأمر هروباً من الواقع الى زمن جميل. - لم اقصد هذا، فسعاد حسني عزيزة جداً عليّ، ومثلما رقصت بطلة فيلم «فتاة المصنع» في زفاف حبيبها إيفاء لنذر، شعرت أن هناك نذراً يجب أن أفيه تجاه سعاد. فهي في وجدان الفتاة المصرية. وكانت أيضاً في وجدان الثورة، حتى ان كثيرين حملوا صورها. ما أردته هو أن يتذكرها الجمهور، وأن يعرفها من لا يعرفها. ولهذا لم اعتمد على أغنياتها مسجلة، بل استعنت بحوار أجرته مع آمال العمدة، وغنّت فيه من دون موسيقى، فاستخدمت هذه المقابلة وكأنها صوت يعلّق على ما يجري. حتى وقوع بطلة الفيلم من الشرفة، ان فكرنا فيه، كان شبيهاً بوقوع سعاد، علماً أنني لم أقصد ذلك. بعض من شاهد الفيلم، رأى أن التركيز على «عفة» البطلة، شكّل سقطة في السيناريو. ما ردّك؟ - نحن أيضاً نندم على هذا. حتى وسام (كاتبة السيناريو) تعترف انه لم يكن هناك داع لإثبات أي شيء، فحلاوة الموقف ان يبقى مبهماً. ولكن فات الأوان. الرقصة الأخيرة في «فتاة المصنع» بمثابة إعلان انتصار على مجتمع ذكوري. فهل هناك بريق أمل فعلاً في مجتمعاتنا؟ - أحب أن يخرج المشاهد من الفيلم ببهجة. ولهذا حرصت على أن تكون الأغنية المرافقة للرقصة معبّرة جداً عن الموقف، واستعنت بيسرا الهواري لهذا الغرض، فأنا أحب ان أستمع إليها وهي معجبة بأفلامي. أطلعتها على نهاية الفيلم، فأضافت الى لحظة التحدي التي تعيشها «هيام» وهي ترقص في زفاف حبيبها لحظة نشوة وهي تنظر الى الأعلى. فيلمي السابق «في شقة مصر الجديدة» من الأفلام التي أخذت زمناً حتى صار لها جمهورها. اما «فتاة المصنع» فيبدو ان تأثيره فوري. اتهمت كثيراً بأنك لا تراعي ما يريده الجمهور في افلامك. هل صرت تفكر في الجمهور؟ - أفكّر أولاً بأفلام أريد ان أحققها. ثم أنا أنجزها للجمهور. فما معنى ان أصنع فيلماً لا يشاهده احد. صحيح اتهمونا اننا نصنع أفلاماً للمهرجانات، لكنّ هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. كيف تردّ على هذه الاتهامات؟ - عندما ألبسونا شماعة ابتعاد الجمهور عن السينما، كان في الأمر افتراء. فإذا قست أفلام جيلي والأفلام التي حققت طوال 10 سنوات، تجدين انها 5 في المئة فقط من مجمل ما أنتج. فكيف يمكن 5 في المئة من الأفلام أن تؤثر في ابتعاد الجمهور عن السينما. مزاج جمهور ما كيف تقوّم المزاج العام للجمهور الآن؟ - يُطعمون الجمهور أكلة واحدة نتيجة الاحتكار. فيلم ابنتي نادين مثلاً «هرج ومرج» ظُلم جداً، إذ لم يصمد أكثر من اسبوع في الصالات على رغم انه فيلم شعبي. اما بالنسبة إلي فربما لأنه لديّ اسمي، فهذا يساعد في إعطاء الفيلم دفعاً. ضروري ان أستغل ذلك. وقد فرحت جداً بإعطاء «فتاة المصنع» للمنتج محمد سمير، فهو شاب جديد في السوق ونشيط ويعرف الى أين يقود الفيلم. واجهت مشاكل في الإنتاج قبل تنفيذ الفيلم. حدثنا عنها؟ - شكّل الإنتاج عائقاً كبيراً أمام خروج الفيلم الى الضوء. حتى دعم وزارة الثقافة المصرية (مليون ونصف مليون جنيه مصري) لم يكن كافياً، بما ان الفيلم كلفنا بين 5 و 6 مليون. ولهذا بدأنا البحث عن مصادر اخرى للتمويل. ساعدتنا مؤسسة ألمانية للمرأة، إضافة الى «فورد فونديشين» الذين لا يحبون ذكر اسمهم. كما حصّلت من الولاياتالمتحدة 10 آلاف دولار... ولا نزال مديونين ولكن بمبالغ ضئيلة، علماً أنني متفائل بأن الفيلم سيسد ديونه. الغليان السياسي انعكس غلياناً اجتماعياً في «فتاة المصنع»، كيف ترى الوضع السياسي في مصر الآن؟ - تعرفين الجملة الشهيرة «مش عارفين رايحين فين». هذا بالضبط ما نعيشه الآن. هناك انقسام كبير في الآراء، حتى داخل البيت الواحد. ابني مثلاً، ضدي في التفكير. هو ضد العسكر مئة في المئة، أما انا وعلى رغم انني لست معهم، إلا انني أرى أننا نحتاج إليهم في هذه الظروف. ولهذا اتمنى ألا يرشح السيسي نفسه للانتخابات، عندها سيحبه الناس اكثر ويحترمونه. الدستور يتضمن أموراً جيدة، فهو يعطي الصلاحيات الكبرى لرئيس الوزراء أكثر من رئيس الجمهورية. الجيش له صلاحيات كثيرة، وهذا مصدر الاعتراضات. ولكن نحن بحاجة الى الجيش، فماذا نفعل من دونه؟ أين تضع «فتاة المصنع» في مسيرتك السينمائية؟ - عندي 71 سنة. شهيتي مسدودة بعض الشيء. هذا الفيلم أعاد فتحها من جديد، خصوصاً أنني املك 3 مشاريع، أشعر بالحزن عليها لأن غياب الإنتاج حال دون تنفيذها حتى الآن. كنت دوماً أطمح أن يكون في مسيرتي 30 فيلماً سينمائياً. الآن صاروا 23، ولو وصلت القائمة الى 25، فأمر جيّد.