استمع من فترة الى مجموعة من رجال الأعمال من السعودية يتناقشون في أحوال البورصة هناك، وكيف تراجعت من الرقم القياسي الذي وصل حده الأعلى الى 23 ألف نقطة، ثم عاد فتراجع الى دون العشرة آلاف نقطة، وخسر أناس كثيرون أموالاً طائلة، وذكروا أن واحداً من المستثمرين في سوق المال فقد حياته حين أضاع 45 مليون ريال كان ادخرها للزمان ومفاجآته. ومن جملة الحديث الذي جرى، قال أحدهم متسائلاً:"ومن هو هذا الذي كسب الأموال التي خسرها المساكين من صغار المدخرين؟ من هي تلك القلة المتنفذة التي كسبت هذه المبالغ الطائلة على حساب"المغلوبين والبائسين؟". واذا تأملنا في هذه الجملة التي سمعت صَداها وفحواها بأشكال مختلفة في عمان والدوحة ودبي والقاهرة، فإنك تلحظ أنها تقوم على فرضية خاطئة وهي ان الخسائر التي مني بها هؤلاء انقلبت أرباحاً لأناس آخرين. وهذا ليس صحيحاً بالضرورة. ونذكر هنا مثلاً أن من بين الجمل التي شاعت بسبب"نظرية اللعبة"Game Theory هي"معادلة الصفر"، أي أن الخسارة التي يتكبدها فرد أو مجموعة هي بالضرورة أرباح لأحد آخر. وهكذا نرى أن الناس الذين عانوا من تقلبات أسعار الأسهم سارعوا الى الاستنتاج أن ما خسروه، تحول ربحاً الى شخص آخر. لكن آلية العمل في سوق المال والبورصة لا تقود الى هذه النتيجة. وذلك لأن الخسائر التي تكبدها مضاربٌ ما قد تكون إما خسائر متحققة فعلاً، وهي تساوي مقدار الفرق من سعر السهم المُشترى وسعر السهم المباع مضروباً بعدد الأسهم التي بيعت ولكن ماذا اذا لم يبع هذا المضارب كل أسهمه، بل جزءاً منها؟ تكون الحصيلة عندئذ أن خسائره التي تكبدها فعلاً هي قيمة الخسارة الناتجة من بيع بعض أسهمه اضافة الى الخسارة التي نتجت من فقدان أسهمه الباقية بعضاً من قيمتها، وهي لم تتحقق فعلاً. ولذلك، فإن خسارته الكلية هي أكبر بكثير من المبلغ المتحقق، والذي آل الى شخص آخر. أما لهبوط في قيمة الأسهم غير المباعة فهي خسارة تحققت من دون أن يكون هناك كاسب لها. وبالطبع، نسمع بين الفينة والأخرى محللين اقتصاديين يقولون ان مجموع خسائر السوق منذ شهر بلغت نحو مئة مليون دولار. وهم يصلون الى هذا الرقم من طريق ضرب عدد أسهم الشركات المطروحة في الأسواق بمعدل سعر السهم، أو الرقم القياسي للسعر قبل شهر، ثم يكررون العملية نفسها بعد شهر، وهكذا يحسبون الفرق الذي هو مئة مليون دولار. وهذا الرقم تأشيري على قيمة التراجع في أسعار الأسهم، وليست مؤشراً على مدى الخسارة التي تحققت فعلاً وتحولت الى أرباح عند آخرين. وكذلك نحن نعلم ان الخسارة التي يتكبدها الذي يبيع سهماً بأقل مما اشتراه، لا تعني ان الذي اشترى ذلك السهم قد جنى مقدار الخسارة، فربح شاري السهم يتحدد عندما يقوم هو ببيع ذلك السهم، فإن باعه بأقل من سعر الشراء، يكون هو الآخر قد تكبد خسارة ما، أما اذا باعه بربح فربما يكون ذلك الربح مساوياً لخسارة الذي اشتراه منه أصلاً أو لا يكون. ودار بيني وبين الأخوة الحضور نقاش حول هذا الموضوع. ومن الضروري أن نتذكر أن كل علماء الاقتصاد يعتقدون أن العنصر الأهم في المضاربة بالأسهم هو التوقعات، وحتى لو أخذت عالماً مبدعاً في فنّ المضاربة لأنه يستند الى الحقائق الأساسية مثل الربحية والسيولة ودرجة المخاطرة ونسبة السعر الى العوائد وغيرها من المؤشرات، فإن هذا العالم قد يخونه حدسه اذا اعتقد أن المضاربين الآخرين في السوق يستثمرون على الأسس نفسها. ان للمضاربة، كما للمقامرة، مؤثرات شخصية تعتمد على التوقعات، التي تكون أحياناً كالأحلام والأماني قائمة على أسس مستقرة داخل الشخص المضارب، وحتى لو سألته عن السبب الذي دفعه الى ذلك، لأجاب حدسه الذي لا يخيب: هو الذي قاده. لا شك في أن الخسائر الضخمة التي نتجت من المضاربة في أسواق المال كلفت كثيرين مبالغ طائلة، وخسائر فادحة، ولكننا نحن معشر الاقتصاديين نقول ان هنالك خسائر ميتة، أو Dead Waste، بمعنى أن ما يخسره شخص ما لا يربحه بالضرورة شخص آخر. وهذه العملية أسوأ من السرقة، لأن السرقة هي تحويل مال من شخص الى آخر، أما أن نفقد دراهم في رمل الشاطئ، فإن هذه خسائر ميتة لم يستفد منها أحد. ومع الأسف، فإن تراجع أسعار الأسهم السريع، يحدث كثيراً من الخسائر التي تبتلعها الرمال من دون أن يجدها أحد. * خبير اقتصادي،"البصيرة للاستشارات".