ذات يوم من شتاء العام 2005، لملمت رندا شعث كاميراتها على عجل، استقالت من وظيفتها في"الأهرام ويكلي"، جمعت بعض الملابس والدفاتر في حقيبة قديمة، أغلقت أبواب شقّتها القاهريّة، وركبت الطائرة إلى الجزائر... هذه الجملة كأنّها مأخوذة من فيلم أكرم الزعتري الشهير عن المصوّر الايطالي المصري"فان ليو". والفرق ليس كبيراً بين التجربتين: فنّان الفيديو والمصوّر اللبناني اكتشف قبل سنوات صور فان ليو في بيروت، وسافر إلى القاهرة لملاقاة"مصوّر"من زمن آخر، شاهدٌ على انهيار انظمة وقيام أخرى، رافق الباشوات والثوّار في مدينة كوسموبوليتيّة هي القاهرة، أم الدنيا، وكانت نتيجة اللقاء فيلم مرجعي يروي مواجهة بين زمنين وجيلين ووسيطي تعبير الصورة والفيديو... أما الفنّانة الفلسطينيّة المقيمة في القاهرة، فحملتها مصادفات الحياة إلى اكتشاف مدينة جميلة بوحريد التي كانت تعرفها في الأفلام والقصائد، مدينة ثورة التحرير التي حلم جيل عربي كامل على ايقاعها، قبل أن تنقلب حروباً أهليّة أدمت ذاكرتنا الراهنة. وكانت نتيجة اللقاء - الصدمة مجموعة صور فوتوغرافيّة، لا تشبه أعمال هذه الفنّانة التي اعتدنا عليها، على مستوى الشكل والتقطيع واللغة البصريّة والأسلوب والأدوات والعدسات المستعملة... وهذه الصور تعرض للمرّة الأولى في بيروت هذه الأيّام، في"مسرح المدينة""قاعة نهى الراضي". والمعرض الذي يحمل عنواناً معبّراً وطريفاً:"الجزائر... بالزاف"، يقام بمبادرة من جمعيّة"أشكال ألوان"وكريستين طعمة، بالاشتراك مع"مؤسسة هاينريش بُل"الالمانيّة، ضمن اطار تظاهرة شاملة عن"التنوّع الثقافي". من ذاكرة إلى أخرى وإذا كان لا بدّ من فنّان يختصر بمسيرته وانتاجه فكرة"التنوّع الثقافي"، فإن رندا شعث هي هذا الشخص بامتياز. إنّها الفلسطينيّة التائهة، المولودة في الولاياتالمتحدة، من أب فلسطيني الوزير السابق نبيل شعث، لبنانيّ الأم، ومن أم سكندريّة إسكندرانيّة، التي أمضت جزءاً من طفولتها في لبنان، قبل أن تنتقل للاستقرار في القاهرة، حيث تزوّجت من فنّان أميركي... وتذهب لإقامة موقتة في الجزائر، ستعود منها ب"صيد فوتوغرافي ثمين". حين لحقت رندا شعث بزوجها توم هارتويل، المصوّر الأميركي العربيّ الهوى والإقامة واللغة في مناسبة حصوله على"منحة فولبرايت للتعليم والبحث"، للاقامة في الجزائر عاماً دراسياً كاملاً، كانت علاقتها بتلك البلاد"البعيدة"في معايير الجغرافيا، والقريبة من القلب، تقتصر على ذاكرة والديها... وصورهما المصفرّة في الألبوم العائلي. صور بالأبيض والأسود لشابين في تظاهرة، كلّ منهما يحمل لافتة تطالب ب"الحريّة لشعب الجزائر". تروي رندا في تقديمها للمعرض البيروتي:"كان أبي وأمّي طالبين متحمّسين حين اكتشفا القضية الجزائرية، فجذبتهما وناضلا في سبيلها. أذكر أن اجتماعات"الاتحاد العام للطلبة الجزائريين المسلمين"كانت تعقد في شقتهما الصغيرة في فيلادلفيا، في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بين 1959 و1962. أذكر صورهما في المظاهرات... وكلّ منهما يرفع لافتة تدعو الى تحرير الجزائر، في أحد ألبومات العائلة. كانا يحلمان باستقلال الجزائر، كخطوة على طريق نضال: الجزائر أولاً، ثم فلسطين".وتضيف:"معرفتي أنا بالجزائر توطّدت من خلال صور نشرت عن الحرب الأهلية الدامية التي دامت عشر سنوات، وذهب ضحيتها ما يقارب 200 ألف جزائري. وبعدها جاء زلزال مدمر وفيضان...". تروي شعث أنّها بعد وصولها، طافت أيّاماً طويلة في أرجاء المدينة لتلتقط موقعها على خريطة العاصمة. وقضت أياما أخرى، أطول، كي تفهم بعضاً من تاريخ البلاد المعقد. الأسماء الأجنبية المحفورة على مداخل البيوت أثارت دهشتها وارتباكها... ثم بدأت تألف الناس، لغتهم وايقاعهم، حكاياتهم وجراحهم وتعلّقهم بالحياة، واستسلمت لتلك الخضرة الممتدة، لزرقة السماء والبحر إذ يلتقيان عند الأفق. في صورها القديمة، المأخوذة في المخيمات الفلسطينية، أو في"جزيرة الذهب"بين أهلها الحرومين من ثمار التطوّر يلاحقهم جشع المستثمرين، عند تخوم القاهرة... نقع على الناس نفسهم. ناسها. والوجوه التي صوّرتها وجوه صديقة، لذا هي تشبه نفسها، تشبه أصحابها، بشكل مريع، كأنّها تعتدي على الناظر المحايد، الآتي من الخارج، إذ يأخذه الصدق على حين غرّة، ويخاف هذا الاقتراب السافر من حقيقة فاته أن يراها. ومع السنوات والتجارب، أخذت محاولة الانسلال إلى داخل الكادر تزداد حدّة وإلحاحاً. صارت أسلوباً، ودمغة وطريقة عمل. في مشروعها عن أسطح القاهرة، تزيد رندا من امحائها في المشهد."ملاك فوق القاهرة"، إذا حرّفنا عنوان فيلم شهير لفيم فندرز عن برلين، يقارب المدينة من زاوية مشابهة. دائماً الحاجة نفسها إلى تقمّص حيوات الآخرين، المعلّقين هذه المرّة فوق، بعيداً عن العالم السفلي، الأكثر واقعيّة ربّما، الأكثر ازدحاماً بالتأكيد. إنّها الرغبة في الاحاطة بمتاهات المدينة التي تفلت منّا باستمرار، كمن يستملك حطام حلم ابداعي قديم. ملاحظات بصريّة في الجزائر، تغيّرت طريقة العمل، وتغيّرت المقاربة والوسيلة التقنيّة. لم تنطلق رندا من قصّة، لها خيوطها وعناصرها، من فكرة مسبقة أو موقف سياسي، بل راحت تدوّن ملاحظاتها البصريّة، كما يخربش الكاتب في مفكّرته، أو يرمي الرسام خطوطاً على عجل بقلمه الرصاص على دفتر الرحلة. كل التفاصيل كانت مفاجِئة، وكل شيء بدا لها جديداً وأليفاً في آن. التقطت صورها بكاميرا رقمية صغيرة"أصغر من كف اليد"، هي التي طالما عوّدتنا على العدسات المركّبة، على الكادر المدروس بعناية، وعلى مناخات روائيّة وسيكولوجيّة بالأبيض والأسود. سجلت لقطات سريعة للمشاهد التي كانت تثير انتباهها، من دون أن تفكّر مرّة في عرضها، أو تفطن إلى أنّها تشكّل، لقطة بعد أخرى، عناصر لغة جديدة، تعتبر مفترق طرق حاسم في مسيرتها الفنيّة. الصور المعروضة في بيروت، أخذت كلّها بالكاميرا الرقميّة الصغيرة. لا تحميض، ولا تظهير، ولا تعامل مع كثافة الأطياف وتدرّجها. الصورة المعلّقة على جدران"قاعة نهى الراضي"، نراها كما هي، كما رأتها شعث، وكما التقطتها: من دون أية بهارج، أو تدخلات تقنيّة وفنيّة لاحقة. ومضات من الحياة اليومية في البلد الخارج من سنوات الارهاب والعنف والزلالزل، محاولا تلمس طريقه، كما تتلمّس هي طريقها الفنية الجديدة. فتنت رندا شعث - بتعبيرها - ب"تنوع البلد واتساعه، علاقات سكانه، نسائه ورجاله، لغة الجسد لدى الناس، العامية الجزائريّة، وطريقة استخدام اللغة العربية على اللافتات، وفي الأماكن العامة"... وأرادت أن تنقل كلّ ذلك. حرّكت شهيّتها الأطباق والمأكولات، فصوّرت الفاكهة والسمك، غير آبهة بالوقوع في ما قد يعتبره بعضهم، متسرّعاً،"فخاً استشراقيّاً". وهذه الوفرة طافت من إطار الكاميرا، لتصل إلى عنوان المعرض:"الجزائر... بالزاف"."بزّاف"تعبير عامي في بعض الدول المغاربيّة يشير إلى الوفرة أوالغزارة... كلمة تضاف إلى قاموس التعابير الجزائرية التي تثير استغراب أهل المشرق عادةً. في صورها الجديدة، كما في تلك التي بدأتها منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، لا تدّعي رندا شعث أكثر من الواقع. بل هي لا ترى إلا المشهد المباشر. لكنّها هذه المرّة، لا تتماهى مع هذا المشهد. تتركه يحقق وجوده بمعزل عنها، في غيابها. إنّها لغة الريبورتاج، وقد تعرّت من كلّ ادعاء فنّي... لقد تركت رندا شعث مسافة بينها وبين صورها، كما ينقطع الصوت فجأة عن الشريط السينمائي، فلا نعود نرى سوى التداعيات البصريّة في حركة بطيئة. كأننا بها تقول: إلى الجزائر أتيت ورأيت... وواصلت انكساري، وبحثي عن الذاكرة الضائعة، والوطن المستحيل. الصور؟ تقصدون"الفنّ"؟ لنترك المسألة إلى مناسبة أخرى!