لا تغيب المسألة الطائفية في لبنان ولا تستغاب. هي واسطة العقد اذا دار البحث على الشأن السياسي، وهي في صلب كل نقاش اجتماعي، وهي القيد المركب الذي يواجه كل برنامج داخلي، فيحد من وعوده الديموقراطية، ومن طموحاته الاصلاحية. تقرأ التوازنات القلقة بين أفرقاء الطيف المجتمعي اللبناني"بنظارات الطوائف"، وتستند أحكام العلاقة اللبنانية العربية الى الهواجس الأهلية، وتتواجه تعريفات الارتباط اللبناني بالعالم والانفتاح عليه، على خلفيات محلية ضيقة، مشدودة ببصرها الى ميزان المصالح الرجراج، الذي تصنع الطوائف مثاقيله يوماً بيوم. في لبنان طوائف؟ هذا سؤال تقريري، يؤكد واقع الحال، يفهمه ولا يحط من شأنه ولا يتبرّم به، وعليه فلا اشكالية تترتب على كون"الوطن اللبناني"موزعاً على طوائف. لكن الإشكالية ترتسم همّاً مقيماً، عندما تتحول الطوائف الى كيانات سياسية، لكل منها نظرته الخاصة الى تحديد الهوية الذاتية وتعريفها، بما تنطوي عليه هذه الذات من"سلّم قيم"اجتماعية ووطنية، وثقافية واقتصادية... ولا تتعرف الذات الطائفية الى نفسها إلا من خلالها حصراً. ضمن هذه"القوقعة النظرية"تقيم خصوصية المسألة الطائفية اللبنانية، ومن هذه تنبع الخصوصية اللبنانية المتوترة دائماً، وتستمد تعقيداتها المتشابكة. ليس أدل على ذلك من اعادة استعراض تاريخ الاستقلال اللبناني، للقول إن"السلاسة الاجتماعية والسياسية"كانت هي الشواذ في عمر اللبنانيين، فيما استمرت الإقامة على القلق قاعدة سياسية دائمة. لقد طرحت الطوائف اللبنانية، على وطنها الذي صار كبيراً في العام 1920، معضلات بنيوية عامة، وفشلت دائماً في تقديم الحلول المناسبة لها، مثلما أفشلت كل محاولة تتجاوز"المسألة الكيانية"في شكل مستمر. ولم تتأخر، أي الطوائف، عن اللجوء الى العنف الأهلي، كلما لاح لأقطاب الطوائفيات افق وطني أشمل يتجاوز على الحدود الطائفية الضيقة، وعلى المصالح الفئوية، المسماة امتيازات، وفقاً لأحكام الصيغة اللبنانية. ذِكْر بعض العناوين الاشكالية، يشكل ضرورة لتعيين سبل الدخول الى عالم النقاش السياسي الجدي، ذلك ان الطوائفيات تلجأ غالباً الى تهريب المواضيع الى خارج ميادينها الفعلية، ويظل التمويه والتضليل، أهم الأسلحة المستخدمة. كثيراً ما أدى"الجهل والتجهيل"الطائفيان، الى ابقاء النقاش بين حيرتين: المكوث خارج السياسة، أو الإقدام على اقتلاع ابوابها... مؤدى الحيرتين، تجربة لبنانية أهلية مرة، دُفع في ميدانها أغلى الاثمان الوطنية والاجتماعية. عنوان الاستقلال، الذي يجتهد فيه اللبنانيون اليوم، يستحضر لبنان في نشأته، استحضاراً خلافياً. نظرة"الطوائف"الى كيانها المؤطر لاجتماعها، تستبطن الخلاف الاصلي الذي رافق اعلان"دولة لبنان الكبير"... لكأن اصداء الانقسام ما زالت تتردد في جنبات الاحفاد، الذين تفرق أجدادهم على فكرة رفض الانسلاخ عن محيطهم الطبيعي العربي، وعلى فكرة القبول بقيام مدى جغرافي أوسع من مكونات لبنان الصغير، عدداً ومساحة وارتقاب منافع اضافية."مؤامرة التفتيت"، حركت اذهان الرافضين، ونسبوا الفعل التآمري الى الاستعمار، اما المحبذون، فاحتفظوا بهواجسهم الاصلية، حيال"خطر الهويات"الجديدة الوافدة، واجتهدوا في حشد الضمانات الحافظة لموقع هويتهم الاصلية. هكذا ظل الاستقلال اللبناني، حاملاً لمعضلة الولادة الأولى. لذلك استمر الزمن الاستقلالي متأرجحاً، بين سكون وصخب، على قاعدة التوازن الذي حكم هواجس النظرتين الآنفتين، الى معنى قيام لبنان. في امتداد"الاستقلالية اللبنانية"كان للعروبة موقع خلافي، ما زال الاجتهاد في مقاربته مفتوحاً. ذهب البعض الى العروبة من طريق القيم الحضارية والثقافية التي تختزنها، وعدد إمكانياتها التي تسمح رحابتها بتفتح الخصوصيات المجتمعية المحلية، من دون قهر أو قسر، واعتبرها العامل الاهم في صناعة الوحدة الوطنية اللبنانية الداخلية، وذلك في مواجهة العوامل الاخرى، من دينية او أوسطية، أو فينيقية، او الاكتفاء من"اللبنانية"، باللبنانية فقط، كصفة محددة مكتملة القوام، ومكتفية بذاتها. كان للطرح اللبناني و"العروبي"اسانيده النظرية، لكنه سقط في شرك التصنيف، حيث صارت"العروبة"في لبنان مرادفة للمسلمين، والحذر منها محمّلا للمسيحيين! وقد استشرى خلاف التصنيف بفعل عوامل من أهمها: تراجع الطروحات العربية الى المساحة"النضالية"والاعلاء من شأنها وطلب التوحد خلف رايتها القومية، وكم من الممارسات السلطوية الرسمية، التي حكمت باسم العروبة في اكثر من بلد عربي، فقدمت نسخات مشوهة، لدواخلها اولاً، و"لاشقائها"في البلدان العربية الأخرى. الاستقلال والعروبة، ونتيجة للافتراق الفكري في النظر اليهما، وبسبب الموقف السياسي حيالهما ظلا على علاقة تناقض، ما زالت مستمرة حتى اليوم، من دون ان تجد لها حلاً"اندماجياً"... لا تستطيعه الطوائفيات، ولا تقيم على تخوم ابتكاره. انسحب العجز الطوائفي العام، أمام سؤالي الاستقلال والعروبة، الى سؤال الهوية اللبنانية، جرى التعبير عن اشكالية الهوية احياناً بسؤال مموّه هو:"أي لبنان نريد؟". السؤال إياه تتداوله الطوائف اليوم علناً، وتتبنى افتراضه المتضمن، الذي ينسب لبنانية زائدة الى طيف لبناني، ويتهم طيفاً آخر، بالنقص في لبنانيته. هكذا تستعاد المواجهة بين نظرتين: لبنان اللبناني، ولبنان العربي، وذلك بالتناسب مع حدة الصراع الداخلي حول القضايا الوطنية الكبرى، التي لا تظل كبرى، الا اذا استجابت لتطلعات وهواجس كل"ما هو صغير"في الوطن الذي لم يستطع ان يثبت"دولته الكبيرة"حتى الآن، وأن يرسخ بنيانها المؤسساتي الحديث. عليه، لنا ان نلاحظ ان السجال الطوائفي يصير حامياً، كلما اهتزت قاعدة المصالح الخاصة، لذلك لن يكون غريباً ان يغض الطرف عن عروبة غير مكلفة، وان يتسامح مع لبنانية غير مفرطة، اذا تلازم الأمران مع توازن المصالح الداخلية، أي اذا لم تصر العروبة، او اللبنانية، الى غلبة واضحة في الداخل بالاستناد الى دعم العروبة الوافد من الخارج، او بالافادة من"النجدة الدولية"، المؤمنة بأقانيم"اللبنانية الداخلية". القدرة على استنفار"الهوية الطائفية"، مطعمة بإضافة لبنانية او عربية، تحولها الى خندق دفاع أمامي، والى متراس تنابذ، والى كتاب تطفو فوق صفحاته ذاكرة"الهويات المتقابلة"، بدل ان يكون كتاب الطوائف المتعددة. يدور الحوار الآن بين اللبنانيين حول شؤون حاضرهم ومستقبلهم. ذاكرتهم متعددة المصادر، وعناصر توحدهم جنينية، والدولة التي يجب ان ترعى الاستقلال والعروبة، وان تبني المواطن الفرد، بديلاً للفرد الطائفي المأخوذ في مركب الجماعة الطائفية ? هذه الدولة ما زالت مادة خلاف هي الأخرى، والحال ان ما تفصل الطوائف على مقاسها من"دول"، سيظل يشبه أي شيء، الا الدولة الحديثة المرتجاة! * كاتب لبناني.