منذ أواخر القرن الثامن عشر الى يومنا، انخفض معدل الوفيات بين الأمهات والمولودين الجدد الى درجات دنيا. ويصح حمل الانخفاض على"تراجع للموت". وجواباً عن هذا التدني، تراجع معدل الخصوبة أو الإنجاب بدوره. وهذا بمنزلة ثورة سكانية ديموغرافية. وبين 1790 و1914، تدنت نسبة الإنجاب في فرنسا، 57 في المئة. فانقلب رأساً على عقب منطق انجاب الأطفال وولادتهم. تعاقبت حوادث اجتماعية أثرت أثراً بالغاً، ونجم عن الأثر ظهور حقبة جديدة في تاريخ الجنس البشري. فمن قبل، لم يكن الإنجاب ثمرة رغبة فيه. فكان الأولاد يولدون"بدلاء"، وتستبق ولادتهم الوفيات المحتملة التي كانت تضرب العائلات فنصف الأطفال كانوا يقضون عن سن تبلغ العشر. والطفل، اليوم، هو ثمرة سيرورة مقصودة وإرادية، تحررت تقريباً من تهديد الموت المخيم 6 الى 8 في المئة من النساء كن يمتن في أثناء الوضع جراء حملهن. وكثرة من الأولاد هم أطفال وحيدون وفرادى. وينتظم الإنجاب حول الرغبة في طفل. وأمست العائلة"الخلية الأساس"للفرد، والإنجاب أمراً قائماً في ذاته، وليس جواباً عن متوسط الوفيات العالي أو تعويضاً عنه. واقتصر أمره على استجابة رغبة الوالدين في ولديهما. ولعل ثنائي الأم والطفل هو محرّك هذا الانعطاف الذي نشأت"الفردية"المعاصرة عنه. وكانت فرنسا البادئة بخفض معدل الإنجاب، وسبقت البلدان الاوروبية بنحو قرن. وهذا قرينة على ان الثورة الديموغرافية لم تعقب الثورة الصناعية، بل تقدمتها، ولم تترتب على تعليم البنات وقتاً أطول. فأسباب تدني الانجاب أربعة. وأولها تقلص متوسط وفيات الأطفال والمولودين. وثانيها تعاظم قيمة أو قدر الكائن الصغير، وإيلاؤه مكانة خاصة، وتقديم احتياجاته التثقيفية والتربوية وإعلاؤها. وثالثها حركة الإصلاح الديني الكاثوليكي، وهي تعرف بپ"نقيض الإصلاح"البروتستانتي، ودعت الى ضبط الشهوة الجنسية الى حد كبتها. والسبب الرابع هو نظام"الحكم المطلق"، وهيمنته على النبلاء والبورجوازيين هيمنة قوية كبحت عزائمهم، وخففت غلواءهم العامة والسياسية. فانكفأوا على حياة بيتية وفردية يتصدرها الطفل. ومنذ القرن الثالث عشر، احتوى الغرب المسيحي الإنجاب، وكثرته، من طريق تأخير سن الزواج، وحظر العلاقة بين الجنسين قبله. وسوغ المنع بعلل ودواعٍ أخلاقية، ونجم عنه تقليل الولادات. وتفشى خوف حاد من امتلاء المعمورة بالبشر فوق ما تطيق مواردها، وفوق وسعها تلبية حاجاتهم. وكانت الخطوة التالية ضبط الخصوبة في أثناء الزواج نفسه، ومن غير انقطاع"الواجبات"الزوجية. وهذه مسألة جوهرية: فالزواج اضطلع بأمرين، أولهما هو تسويغ العلاقة الجنسية، والآخر هو كبح الإنجاب الكثير. وفي هذا السياق، وشيئاً فشيئاً، نصب الطفل المرغوب غاية، وأوكل الى الأسرة تحقيق الغاية وبلوغها. وعلى رغم تأخر وسائل منع الحمل الطبية، قلَّ عدد الأطفال غير المرغوبين في خمسينات القرن العشرين. ففي 1960 ? 1963، كشفت مسوح في دور الحضانة أن 35 الى 40 في المئة من المولودين حمل بهم من غير قصد. وتدنت النسبة هذه، في 1999، الى أقل من 7.5 في المئة. ففي الستينات، ابتكرت الوسائل الطبية لمنع الحمل، مثل الحبوب والحاجز المعقم وجراحات الرحم. ومذ ذاك، انتفت الحاجة الى الزواج لضبط الإنجاب. ومنذ تخفف الزواج من الاضطلاع بهذه الوظيفة، صار الزواج قراناً ركنه التوافق والتعاقد. وهذا توافق قد ينفرط في أي وقت. وتبددت الأخلاقيات الجنسية، ولم تبق ثمة حاجة الى النهي عن العلاقة الجنسية قبل الزواج لضبط الإنجاب، على شرط ان يتعهد المجتمع إرشاد الفتيان والفتيات الى طرائق منع الحمل، ويوفّر لهم الوسائل اللازمة. وانفكاك الرغبة من العائلة أمر جديد. وقد تمضي عشرة أعوام على الجماع الأول في سن الپ17متوسطاً قبل الانجاب الأول في نحو سن ال28. فالطفل ليس ثمرة عشوائية للرغبة. فهو يحمل به، ويولد من رغبة في إنجابه. ولما كان الولد لا يولد إلا من رغبة، رعى الأهل فرادة طفلهم رعاية قصوى. فهو اختبار حي وماثل لحقيقة الرغبة فيه. واليوم، ينحسر ظل الموت، للمرة الأولى في تاريخنا. وهو يتلطى وراء الشيخوخة. والفرد المعاصر يقضي نحو نصف عمره من غير أن يعي الموت. ويقضي هذا بالخلوص الى أن الفرد لا يمتحن إنسانيته، وهو وحده"ذائق الموت"بين الحيوانات، طوال نصف عمره. وتترتب على هذه الملاحظة عواقب وخيمة. عن بول يونيه دارس اجتماعيات،"لو بوان"الفرنسية، 27/4/2006