سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حلول علاقات أفقية بين أفراد الجيل الواحد محل علاقات النسب التقليدية ... يؤذن بولادة "الفرد" المنشود أخيراً ! . الجيل العربي المولود في منتصف السبعينات من القرن العشرين ... "هدية سكانية" ثمينة
الأغلب على الظن ان مثال إيمانويل تود، صاحب "السقوط الأخير"، حضَرَ فيليب فارْغ، الباحث الفرنسي في السكانيات العربية، صاحب "أجيال عربية - كيمياء العدد" أواخر 2000 - أوائل 2001، على وجه من الوجوه. ويذهب الباحث الفرنسي، اليوم، مذهباً يخالف توقع زميله في مصير الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن. فهو يخلص من تناول السكانيات العربية، ومن وشك بلوغ العرب، بين الأطلسي والرافدين، ثلاثمئة مليون نفس، الى جواز توقع "نهوض" عربي على خلاف السقوط والانهيار السوفياتيين سنده الأول، وفرصته الثمينة انعطاف سكاني يسمه الباحث "هدية"، مقتفياً اثر بعض محللي وثبة التنينات الآسيوية في العقد التاسع من القرن العشرين. والهدية السكانية هذه هي الجيل العربي المولود حوالى العام 1975، والبالغ اليوم بين العشرين والثلاثين من العمر اي ما متوسطه خمسة وعشرين عاماً. ولا تمت هذه السن الى السحر العشريني بطرف ولو خفي. فسن الخمسة وعشرين عاماً هي السن التي يدخل الشاب والشابة العربيين على وجه العموم من بابها، أو "عتبتها"، حياة الرشد و"المنافسة الأفقية" بين الأقران والمجايلين على فرص العمل. وتنخفض هذه المنافسة وتضعف حدتها، فتترك فرص عمل مجزية بوجه الساعي في عمل، حين يتقدم اثر تدني الخصوبة والولادات القليلة على اثر الزيادة في متوسط العمر المرجو او المتوقع. فتلد النساء اولاداً اقل من الأولاد الذين ولدتهن امهاتهن في الجيل السابق، او قبل نحو عشرين عاماً في 1950 - 1955 على وجه التقريب، بينما ينقضي اثر الزيادة التي طرأت على عدد المولودين من جيل الآباء، وهؤلاء تكاثروا تكاثراً كبيراً لأنهم ثمرة الجمع بين خصوبة أمهاتهن وبين حؤول التلقيح الطبي دون الوفاة المبكرة. فعندما تقل ولادات المرأة الواحدة، ويخرج العدد الكبير من جيل الآباء من سوق العمل ويتجه شطر التقاعد وأبعد الأجلين تسنح للمولودين في 1970 - والفرصة سنحت، على هذا، في 1995 - خير فرص العمل وأضعفها تنافساً وتدافعاً بالمناكب و"الواسطات" وامتيازات الآباء وعلاقاتهم ودالاتهم. ففي 1970 هذا بلغ متوسط عدد الأخوة والأخوات 4،5 أنفس، على حين بلغ المتوسط نفسه، بعد 25 عاماً، 6،3 أنفس. يحتسب الباحث تعاظم رأس مال الكفايات الموضوع في تصرف النشاط الاقتصادي، حين دخول الشاب البالغ نحو 25 عاماً باب سوق العمل، ويتخذ من التعليم معياراً. فقياساً على جيل المصريين المولودين في 1940، زاد رأس مال كفايات المولودين في 1970 أربعة أضعاف. وكان جيل المولودين في 1940 زاد رأس مال كفاياتهم قياساً على من سبقهم ضعفين. وفي الجزائر، حيث حظوظ التعليم في العقد الخامس من القرن العشرين كانت اقل من مثيلها بمصر، بلغت الزيادة ستة اضعاف. وبلغت عشرة اضعاف بفلسطين. ولا يقلل كون رأس مال الكفايات هذا طاقة قابلة للتثمير، او للتبديد، وليس ناتجاً متحققاً وقائماً، لا يقلل من ثمن "الهدية" التي أتاحها الظرف السكاني. وفي نهاية مطاف هذا الفصل من فصول السكانيات العربية يطلع فجر "الفرد"، وهو آخر كلمة من "الخلاصة" التي يختم بها الباحث الفرنسي في السكانيات كتابه، في اليوم الأول من تشرين الثاني نوفمبر 2000 ص283. فتحل العلائق والأواصر بين ابناء الجيل الواحد محل القرابة العائلية، وتخلي روابط النسب التقليدية والملزمة المكان لشراكة حرة يختارها المتشاركون في ضوء تقاسمهم اختبار جيلهم وتجاربه، "العربية" و"العالمية" على حد واحد او متقارب. ويفضي التحليل الإحصائي السكاني الى الوصف المعنوي هذا من طريق سكانية، إذا جازت العبارة. فقيام أواصر وعلاقات بين معاصرين ومجايلين يختبرون عالماً مشتركاً وحاضراً واحداً، عوض الانشداد الى روابط عائلية "عمودية" تتحدر من الماضي وتدين له بدَيْن لا يُسدد، يفترض ظهور حلقات وسيطة كثيرة. ولعل ابرز هذه الحلقات، المتماسكة، تأخر سن الزواج وتقليل الخصوبة ونشر التعليم وزيادة عدد سنواته ورفع رأس مال الكفاية عند العمل والإقامة في المدن. ويتقصى التحليل السكاني مسالك المجتمعات الى الحلقات المتماسكة هذه، والطرق والاختبارات التي تبلغ منها المجتمعات هذه الحلقات، إذا قدرت على بلوغها. فما يبدو للوهلة الأولى، وهي مرحلة الجهالة والانفعال، أقداراً تسوقها يد خفية، إنما يتوّج فصولاً ومراحل من التغيير. ولكنها لا تدرك إلا بالتأريخ المديد. الإحصاء والأم ويتولى التأريخ المديد هذا اقتصاص الآثار التي أوصلت المجتمعات العربية الى عتبة ولادة الفرد، وقد تحملها على وجه الجواز والإمكان على اجتياز العتبة. فالعرب حادثة او واقعة سكانية في المرتبة الأولى. فهم كانوا، في 1900، 2،2 في المئة من سكان الأرض، وأصبحوا بعد قرن من الزمن 6،4 في المئة من سكانها. وعلى هذا فهم أعظم كتلة سكانية و"قومية" الى الغرب من الهند. ويعود بعض زيادة السكان هذه، ويسميها بعضهم "انفجاراً" وبعضهم الآخر "طفرة"، الى انحسار الطواعين وفشا آخرها من الصنف القاتل في 1835. وخلف وباء الكوليرا، في 1831، الطاعون المدبر والراحل. ولكن اللقاح كان له، منذ ولادته على ما شهد الرحالة بوركهاردت وهو يجول في مضارب عنزة بالأردن، بالمرصاد. فنقصت الوفيات، وقصرت عن الولادات، منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويؤرخ أول إحصاء حقيقي اجري في بلد عربي، هو مصر في 1846 - 1848، لغلبة الولادات على الوفيات المبكرة. وهذه الغلبة هي من صنع الدولة المحدثة، المتأوربة او المتغربة على ما يقال منذ بعض الوقت. وهي جزء من تدبير الدولة المجتمع ومرافقه المختلفة والمتفرقة مثل الصحة والتعليم والإدارة الانتاجية، او "انتاج الإنتاج" على ما ذهب إليه رفاعة رافع الطهطاوي احد مبعوثي محمد علي، باشا مصر ثم خديويها، الى فرنسا. ولا ريب كذلك في ان الموازنة بين عدد السكان وبين موارد الأرض الزراعية والنباتية عامل قوي في زيادة السكان او نقصهم. ففي عام 1800 بمصر كانت كفة الميزان تميل جهة الموارد، وكان المصري يتمتع بعائد او دخل متوسط قريب من متوسط عائد الفرنسي، جراء تجديد محمد علي شبكات الري وإنشائه دائرة تجارية واسعة اما مقارنة التوزيع المصري بالتوزيع الفرنسي فمسألة مختلفة. وطوال القرن التاسع عشر تنامت الزراعة ومواردها على قدر زيادة السكان واحتياجاتهم، بل زادت الموارد ومساحات الأرض المستصلحة حول قنوات الاسماعيلية وخطاطبة وريّاح البحيرة، بين 1887 و1917، فوق زيادة السكان. وهؤلاء قضى بعضهم بأمراض جاءت بها طرائق الري الجديدة، مثل "البلهارزيوز". واتفق استيلاء "الضباط الأحرار"، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر، على السلطة مع تقدم زيادة السكان على توسع الأرض المزروعة، واتفق مع تقدم نتاج الارض ومحصولها على زيادة المساحة المزروعة وهذا "تعليل" للناصرية قلما خطر او يخطر ببالٍ "ناصري". وعلى هذا قد يكون السبب في اطراد زيادة العرب على النحو الفريد الذي تقدم، ورفعهم الى المرتبة "القومية" التي رفعهم إليها وراء الهند والصين، "تعويض" نقص كبير سَلَفَ وسبق. ومن القرائن على النقص السابق هذا وصف إحصاء 1848 لأحوال الأسرة المصرية يومها. فمنذ سن العاشرة الى الرابعة عشرة كان نحو ثلاثة ارباع الأولاد 70 في المئة منهم من غير أب ولا أم، إما لأنهما توفيا وهذا الأغلب، وإما لأن الولد ترك بيت الأسرة الى المدرسة او الثكنة او السخرة او الورشة. فإذا بلغ الأولاد العشرين من العمر ألفى 80 في المئة أنفسهم يتامى الأب والأم، على الأغلب. وكان 44 في المئة من البالغين 15 الى 19 سنة "أرباب عوائل"، ويترأسون أسراً توفي عنها رجلها، على حين بلغ متوسط سن الشاب حين الزواج الأول عشرين عاماً. وينقص سن المرأة، إبان زواج اول، عن سن الرجل ستة اعوام الى سبعة. ويلد الزوجان، من اكثر من زيجة والكثرة تعود في معظمها الى وفاة أحد الزوجين، وإلى الطلاق في المرتبة الثانية ستة اولاد الى عشرة، تصيب الوفاة باكراً من تصيب منهم. فلما انتصف القرن العشرون فاقت الخصوبة العربية، مجتمعة، متوسط خصوبة العالم اجمع. فزاد سكان العالم في نصف القرن، 1950 - 2000، ضعفين وأقل من نصف ضعف بقليل 40،2، وزاد العرب اقل من اربعة اضعاف بقليل 85،3. وسبق العرب البلدان النامية الاخرى 80،2 ضعفاً كاملاً. ولكن الخصوبة العربية هذه، على رغم جدة الأرقام وتأخرها زمناً، باتت منذ عقدين ونصف العقد اقرب الى الاسطورة التي تتواتر في الأخبار، وبعضها احصائي، تواتراً آلياً، بينما تغيرت، في الاثناء، الوقائع والمرويات. فتبين، على سبيل المثال، ان نسبة 92،5 اولاد الى المرأة الليبية الواحدة، في 1998، مؤشرَ خصوبة مركباً يحتسب على اساس خصوبة المرأة، طوال حياتها، على خصوبتها حين اجراء الاحصاء، يفوق المؤشر نفسه في العام التالي، 1999، ولدين ونصف الولد تقريباً 50،3. ومصدر الفرق الكبير هذا هو ان احتساب 1998 بني على احصاء عيني اجري في 1973، يوم كانت الولادات كثيرة، على حين اجري، في 1999، احصاء عيني جديد هو الأول من هذا الصنف منذ ستة وعشرين عاماً. وما يصح في ليبيا يصح مثله في المغرب وفي الجزائر. فنقص توقع الأممالمتحدة لعدد سكان المغرب في العام 2025، وهو احتسب في 1982 على سبيل الاحتمال والتثقيل، من 59 مليوناً، الى 40 مليوناً في 1986، سنة الاحتساب، ثم الى 670،38 مليوناً في 1998. وعلى مثال التعظيم والتضخيم الاحصائيين هذين يمضي المنددون على التنديد ب"القنبلة السكانية" العربية، والإسلامية استطراداً. ولكن الإحصاء الحقلي يكذب وصفاً كان صادقاً قبل 25 عاماً. ففي الأثناء اصاب الخصوبة الاسطورية العربية، وهي كانت حقيقة، "انهيار" قرّبها من المتوسط المعتدل الذي يكاد يهدد حلول الأجيال بعضها محل بعض، وقيام الخلف بأعباء السلف القاعد عن العمل وغير المنتج. وموازنة الأمرين، على ما تقدم، هو "الهدية الديموغرافية" او السكانية التي يحظى بها العرب مجتمعين اليوم. فالنساء العربيات اليوم يلدن 4،3 أولاد نصف عدد الاولاد الذين كانت امهاتهن يلدنهم 7 اولاد في 1970. واستجاب التناقص هذا فعلَ عاملين هما: تأخر سن المرأة حين زواجها والإقبال على وسائل منع الحمل في اثناء الحياة الزوجية. فحال المرأة في الأسرة هي مفتاح التغير العميق هذا وسنده. وعلى هذا فالتغير السكاني تبع تغير حال المرأة ومحلها من الأسرة. وهو بدأ في بيئات وأوساط ضيقة، وانتشر من هذه البؤر والجزر في دوائر اجتماعية أعرض فأعرض من طريق "الرأي العام" والاتصالات والإعلام. وفي الأثناء، وإلى اليوم، تزامنت الأسر القليلة الأولاد 1،2 ولدان في تونسولبنان، وقريباً في الجزائر والمغرب، مع خصوبة لا تزال تناهز السبعة اولاد تلدهم المرأة الواحدة في اليمن وفي فلسطين. ويلاحظ المراقب تعالقاً او ترابطاً بين تعلم المرأة ودراستها وبين عدد الأولاد الذين تنجبهم. فإذا أحجمت المرأة اللبنانية عن دخول المدرسة، وأقامت على الأمية، أنجبت ما متوسطه 2،4 اولاد. وإذا بلغت التعليم الجامعي اقتصر انجابها على 6،1 ولد واحد. ويترجح انجاب المرأة الليبية، في الحالين، بين 9،5 اولاد و1،2 ولدين، وانجاب المرأة اليمنية بين 1،8 اولاد و5،2 ولدين. وأجمعت النساء العربيات، من حاملات الشهادات، منذ مطلع العقد العاشر من القرن العشرين، على متوسط مشترك للخصوبة بلغ حد حفظ النوع وتجديده على مستوى واحد، هو 1،2 ولدان للمرأة الواحدة. ولا تحول البيئات المحلية دون شيوع مثال الأسرة القليلة الأولاد، وهو مثال "عالمي" فشا من بؤرة اوروبية، إلا حيث الأمية لا تزال غالبة مثال اليمن. اما حيث يغلب التعليم على معظم المجتمع مثال لبنان فتتولى البيئة المحلية إشاعة المثال، على رغم مقاومة الأسرة المثال هذا. صلب العلاقات الاجتماعية ويتولى العمل، بعد الدراسة والتعلم، تقييد الخصوبة والانجاب. ففي لبنانوتونس والمغرب ثلث النساء يعملن، وهي أعلى نسبة من النساء العاملات في المجتمعات العربية. والبلدان الثلاثة هذه كانت الأسرع الى خفض خصوبة نسائها. وأكثر البلدان بطءاً في "الانتقال السكاني" من الولادات الكثيرة الى الولادات القليلة، هي تلك التي لا تزيد فيها نسبة النساء العاملات عن 10 في المئة فلسطين، الأردن، الإمارات.... وما يحول بين النساء العربيات وبين العمل ليس الإنجاب، في المرتبة الأولى - ومنافسة الولد عمل الأم سمة شائعة ومعروفة - بل الرجل الزوج. فالزواج يحمل فوق ثلثي النساء العاملات قبل الزواج على ترك عملهن حين يتزوجن. وتستوي في هذا اللبنانيات المسيحيات المارونيات والمسلمات السنّيات على حد واحد تقريباً. ولم ينفع وضع المرأة الدوني والملحق بالرجل قانوناً، على ما هي حال المرأة الجزائرية في مدونة الأسرة 1984، في ارجاء لجم الخصوبة. فعلى رغم الفرق القانوني الكبير بين النساء الجزائريات والنساء التونسيات، لحقت خصوبة النساء الجزائريات بنظيرها التونسي على عتبة حفظ النوع من جيل الى جيل. فتأخير السن حين الزواج - وهذا التأخير يسري على الرجل مهما كانت رغبة الأسرة في تزويج ذكورها قوية، ومرده الى ارتفاع مستوى تعليم الذكور ودخولهم سوق العمل بعد دراستهم وإلى ارتفاع تكلفة البيت الزوجي وإطالة سنوات ادخاره - فتأخير السن يتولى تقليل الخصوبة على رغم ضعف المساواة القانونية بين الزوجة وزوجها. وتتضافر على تثبيت هذا التأخير، من غير احتمال عودة عنه، عوامل دخلت صلب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية العربية ونسيجها. فتعليم الأولاد، وإعدادهم للمنافسة الأفقية، يستدعي استثماراً مقيداً بدخل الأسرة وعائدها. ويترتب على القيد اختيار بين تكثير الانجاب وتقليل الاستثمار في تأهيل الولد الواحد وبين جدوى الاستثمار ونوعية إعداد الأولاد وتأهيلهم. ويعول الاختيار، بدوره، على احتساب وجوه قابلة للاحتساب وليست من رجم الغيب. فالوالدان يختبران اقامة ثلاثة أجيال الى اربعة في البيت العائلي الواحد. ويعني هذا ا نهما يتوقعان بقاءهما على قيد الحياة حين انجاب اولادهما اولاداً، وربما حين انجاب احفادهما اولاداً يَحْبون. ولما كان مَنْ بلغوا الستين عاماً في 1997 يقيم 30 في المئة منهم مع ولد لم يتزوج بعد 43 في المئة، في المدينة المصرية، ويقيم 48 في المئة مع ولد تزوج 65 في المئة، في الريف المصري، فحظُ ثلاثة ارباع الأهل الإقامةُ والهرم في كنف اولادهم. فإذا أحسنوا تأهيل اولادهم، من طريق تقليل عددهم وزيادة الإنفاق عليهم تالياً، أعدوا لشطر العمر الأخير المتبقي لهم والمتطاول عدد اعوام، كنفاً مريحاً. وتدعو البطالة الى احتساب الاستثمار في عدد الأولاد وفي نوعية التأهيل احتساباً عقلانياً. ففي 1995 بلغت نسبة البطالة بين اصحاب الدراسة الثانوية بمصر 33 في المئة. وبلغت 19 في المئة بين من ابتدأوا دراسة جامعية لم يتموها، و12 في المئة بين الجامعيين الناجزين. وتصيب البطالة 30 في المئة من اليد العاملة الجزائرية. والحق ان تاريخ اسواق العمل العربية في العقود الثلاثة بين 1964 تاريخ صدور المرسوم المصري 185، القاضي بتأمين عمل في الادارة الرسمية لكل متخرج من الجامعة وبين 1990 - 1992 حرب الخليج الثانية وذيولها وآثارها في العمالة العربية يدل دلالة قاطعة على دور سياسات الدول الاقتصادية في إرساء احتساب انجاب الأولاد على ركن مدرك ومعقول. فاضطلاع الدول العربية كلها، النفطية منها وغير النفطية، بسياسة نحت نحو دولة الرعاية الاجتماعية، أخّر "الانتقال السكاني" العربي من الانجاب المكثر الى الانجاب المقل. وعوّقت دولة الرعاية الاجتماعية مباشرة الأسرة العربية لجم خصوبتها، على رغم تبكيرها في نشر التعليم، وفي تأمين شروط صحية مؤاتية للأسر والأفراد جميعاً. فهي أوهمت مواطنيها بقدرتها على كفاية حاجتهم الى العمل، وحاجة اولادهم الى التعليم والصحة وإلى العمل لاحقاً، من غير تقييد الانجاب. ووافق الإيهام هذا نازع الدولة، اي طاقمها الحاكم، الى استمالة الناس وتمكين سلطتها عليهم. ووافق، من وجه ثان، نازعاً اجتماعياً و"ثقافياً" الى إعلاء شأن الكثرة في الذراري. ووافق، ثالثاً، نازعاً إيديولوجياً "اشتراكياً" وصم التحكم في الحمل بالمالتوسية "الرجعية". فلما ظهر إخفاق دولة الرعاية الاجتماعية - وقد يصح العام 1973، وهو عام حرب تشرين اكتوبر وبروز الكتلة النفطية الخليجية وابتداء "الانفتاح"، تاريخاً لنُذُر هذا الاخفاق - لاحت علامات تردي الخصوبة والانجاب. ولكن تعاظم الريع النفطي، في العام نفسه، أمهل هذا التردي عقداً من الزمن. ففتحت ابواب اسواق العمل الخليجية، ثم الليبية، للعاملين العرب من المشرق، على مصراعيها. وأتاحت عوائد العمل في الخليج فرصة جديدة اغتنمها الشباب العرب، والمصريون خصوصاً. ولكن "الانفتاح" رفع "ثمن" الزواج، وحمل على تأخيره جراء ارتفاع ثمنه. فبينما كانت النساء المغربيات يتزوجن، في 1960، حين يبلغن السابعة عشرة، صرن يتزوجن في الثامنة والعشرين إذا كن بنات مدن او الخامسة والعشرين إذا كن بنات قرى. وشأنهن في هذا شأن غيرهن من العربيات. اما الرجال فتأخر زواجهم الى سن متوسطة لا تقل عن الثانية والثلاثين، وتنزع الى توسط العقد الرابع لتبلغ الخامسة والثلاثين. ويبعث تأخير الزواج على تقييد الخصوبة وتقليلها، على ما مر. وهو يقيد الطلاق ويلجمه. والريع النفطي، بدوره، لم يلبث ان تآكل. فلم ينقضِ عقد على زيادة العائد من استثمار الطاقة أربعة أضعاف حتى كان التضخم، من وجه، وانخفاض الأسعار، من وجه ثان، أكلا شطراً كبيراً من الزيادة. ووقعت حرب الخليج الثانية بينما كانت اقتصادات النفط تعاني أزمة خانقة. ورتبت الحرب على الدول، وعلى المجتمعات، تكلفة باهظة لم تمض آثارها بعد، ولم تستدرك. وحمل هذا كله الدول المنتجة للنفط على استثمار ريوعها في الأبنية التحتية، وفي مرافق انتاج متفرقة ومتنوعة، فلا تقتصر عوائدها على استخراجها الطاقة وتسويقها. وهذه مرحلة رسملة الريع. وتلت مرحلة رسملة الريع مرحلة لم تنقض بعد هي مرحلة تحويل العائد الى عمل وإرسائه على العمل. والسبيل الى ذلك هو الاستثمار في التعليم، وتحسين شروط الرعاية الصحية. ويبعث التعليم والرعاية الصحية على ألا تستثنى النساء منهما، وعلى ألا يستثنين من العمل ودخوله على قدم المساواة مع الرجل، ولو تدريجاً. والجمع بين التعليم الطويل والرعاية الصحية "النسائية" في اثناء الحمل وبعد الوضع والعمل ينتج "مركباً" سكانياً ينزع الى تقليل الولادات، على النحو الذي يحصل فعلاً منذ بعض الوقت. وتنزع الأسرة القليلة الأولاد الى الاستقلال بنفسها والانسلاخ عن "العشيرة" او العائلة المؤتلفة من بني العمومة وبني الخؤولة الأقربين. وتؤذن قلة الأولاد، وما يتبعها ويترتب عليها من حصر الاستثمار فيهم، بالاستقلال والانسلاخ هذين. ويرسي تقطّع سكن المدن، والهجرة من وسط المدن وقلبها الى ضواحيها غير المكتظة، يرسيان الاستقلال والانسلاخ عن ركن متين وقوي. ولعل كثرة الهجرات العربية سعياً في العمل، وشمول هذه الهجرات الملايين من المهاجرين من معظم المجتمعات العربية، المصرية والمشرقية منها خصوصاً، زادا من شرذمة العائلة المجتمعة والمتكاتفة. وإذا كانت نسبة النازع القومي العربي الى تكامل العدد السكان والعوائد النفطية ضرباً من العقلنة المفتعلة، فالأرجح ان الهجرة الكبيرة كانت سبباً في نشأة نازع فردي لم يتبلور بعد البلورة الظاهرة والواضحة. وتبيح الهجرة، شأن الأسرة القليلة والمدرسة وسكن المدينة، اولادَ المهاجرين لفعل المثالات "المتعولمة" التي تعم المجتمعات كلها، ولا تميز المسلم منها من غير المسلم، ولأثرها الواحد والمتصل والمسوّي. وقد يكون هذا الأثر هو تعليل تظاهرات سكانية مثل تأخر سن المرأة حين الزواج في مجتمعات تقاوم تقاليدها وقوانينها مثل هذا التأخر. ويربط التعليم بين الشبان العرب وبين تطلعات امثالهم في مجتمعات بعيدة وغريبة. ويضطرهم هذا الى مشاركة امثالهم، في شطر واحد من العمر، اختباراتهم ورغباتهم. وقد لا تصمد الحواجز الثقافية طويلاً بوجه المشاركة هذه. ولا تكذب حظوة الحركات الاسلامية السياسية في اوساط بعض الشباب هذا الوصف. فهي ثمرة غلبة العلاقات الأفقية بين افراد الجيل الواحد على العلاقات التقليدية بين الآباء والأبناء. وهي تقع على انصارها ومريديها في الجمعيات والروابط والنوادي. وهذه زادت اعدادها مئات الأضعاف في غضون العقدين الأخيرين. ففي مصر وحدها نحو عشرين ألف جمعية من هذا الضرب، 13 ألفاً منها تحمل نفسها، من طريق ما، على الإسلام. فهل يخلص من هذا الى ان الطريق الى "الحداثة" صارت، اخيراً، ممهّدة؟ قد يكون الجواب بالإيجاب، من غير تحفظ ولا قيد، مستعجلاً. فالسكانيات لا تغفل عن ان الإقبال العربي على الزواج لا يزال عاماً. وتكلفة الاحتفال به باهظة. والعازبون المزمنون قلة قليلة. وقد يتقدم عدد العازبات، اضطراراً، عدد العازبين في الأعوام القليلة الآتية. والأولاد لا يزالون قرة اهلهم وقبلة رغباتهم. والحرب بواسطة الذراري لم تُطوَ صفحتها بعد. والمنازعة بين الأهل وبين الأولاد، فتياناً وشباناً، لا تعلن، ولا تبدو عاملاً فاعلاً في إرساء "شخصية" الولد على رسمها. ولكن هذا، وغيره مثله، قد لا يكون من شأن السكانيات. * استاذ في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية.