حتى وقت قريب، كانت أسرة باكير القاطنة في حي أم الشرايط في رام الله محسودة، فالأب والأم موظفان في السلطة الفلسطينية بدرجة مدير، ما أهلهما لتوفير دخل شهري مرتفع نسبياً أكثر من ألفي دولار، في وقت انحسر فيه الدخل، وكاد ينعدم، عند فئات كثيرة جراء الحصار الاسرائيلي الذي أدى في السنوات الست الماضية الى تراجع مختلف قطاعات الاقتصاد المختلفة بدرجات كبيرة. لكن الحياة المستقرة التي عاشتها هذه الأسرة، والتي مكّنتها من الانضمام لبرنامج"إسكان"عبر نظام الأقساط الشهرية، وتدريس ابنائها في مدارس وجامعات خاصة، باتت مهددة جراء تشديد الحصار الغربي على السلطة الفلسطينية منذ شكلت"حركة المقاومة الاسلامية"حماس الحكومة في الثلاثين من آذار مارس الماضي. قالت الأم عائشة 45 عاماً ل"الحياة:"حياتنا كانت مستقرة لدرجة كبيرة، فالتحقنا ببرنامج للاسكان لنحصل على شقتنا هذه بدفعات شهرية تبلغ 250 دولاراً، وعندما انهى ابننا الأكبر عاصف الثانوية العامة، التحق بكلية الطب في جامعة مصرية، ما رتب علينا مصروفاً شهرياً بلغ 400 دولار. ولدينا ابنتان ملتحقتان بمدارس خاصة في رام الله بكلفة شهرية لكليهما تبلغ نحو 300 دولار، يضاف اليها مصاريف سيارة ومصاريف عائلية كثيرة ومتنوعة". وتقدر عايشة قيمة فواتير الأسرة الشهرية ب 1300 دولار قبل الطعام والملبس. هذه الأسرة واحدة من نحو 140 ألف أسرة، يساوي عددها ربع سكان الضفة والقطاع، تعتاش على رواتب السلطة منذ عام 1994، معتمدة على دعم دائم من الدول المانحة. ومع فرض حصار اسرائيلي - غربي على السلطة عقب فوز حركة"حماس"في الانتخابات وتشكيلها الحكومة، فان جميع هذه الأسر باتت مهددة بخسارة مصدر عيشها. فما أن شكلت"حماس"الحكومة، حتى أعلنت اسرائيل وقف التحويلات الجمركية والضريبية للسلطة، التي تبلغ قيمتها الشهرية نحو 60 مليون دولار. وتتبع اسرائيل، في خطوتها هذه، الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، المانح الأكبر للسلطة، اللذين أعلنا عن وقف كل مساعدات للحكومة الفلسطينية ما لم تستجب"حماس"لشروطهما في الاعتراف باسرائيل ونبذ العنف وإقرار الاتفاقات الموقعة مع اسرائيل. ولهشاشة الاقتصاد الفلسطيني الخاضع لجبروت الاقتصاد الاسرائيلي من جهة، ولاجراءات الحصار والعقاب الجماعي من جهة أخرى، فإن توقف رواتب موظفي السلطة لبضعة اشهر كفيل بحدوث"انهيار"اقتصادي واجتماعي كبيرين. وقد بين تقرير أعده مكتب الشؤون الانسانية للأمم المتحدة، نشر اخيراً، ان توقف الرواتب سيؤدي الى انهيار الخدمات الصحية والتعليمية، فضلاً عن انهيار الأمن العام وتفشي الفوضى والجريمة. وحذر التقرير من تحول رجال الأمن البالغ عددهم 60 ألفاً، الى الجريمة كمصدر عيش في حال توقف دخلهم من السلطة. وتكتفي الدول الغربية الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي بالاعلان انها ستواصل تقديم المساعدات الانسانية للشعب الفلسطيني. لكن هذه المساعدات لن تمنع حدوث تدهور اقتصادي واجتماعي، خصوصاً ان السوق المحلي يعتمد في معظمه على السيولة التي توفرها رواتب الحكومة. وبحسب تقرير الأممالمتحدة الأخير، فان ثلث الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع يتلقى حالياً مساعدات غذائية، وان هذا العدد سيتضاعف في حال توقفت رواتب السلطة. ويقول وزير المالية في حكومة"حماس"الدكتور عمر عبد الرازق ان قيمة رواتب موظفي السلطة، وعددهم 140 ألفاً، تبلغ 118 مليون دولار، يضاف اليها 40 مليون دولار مصاريف جارية. أما ما تجبيه الحكومة من هذا المبلغ، فيبلغ 30 مليون دولار فقط. وقد وجدت الحكومة الجديدة ديوناً على الحكومة السابقة بقيمة 3ر1 بليون دولار. وقد خطت اسرائيل خطوات أخرى في حصارها المالي ضد الحكومة الجديدة، عندما اعلن"البنك المركزي الاسرائيلي"عن خطة متدرجة لوقف التعامل مع المؤسسات المالية للسلطة. وتشكل البنوك الاسرائيلية حلقة الربط بين البنوك العاملة في الاراضي الفلسطينية والبنوك الأخرى في العالم. وفي حال غياب هذه الحلقة، ستواجه الحكومة معضلة كبيرة في حركة السيولة المالية مع الخارج. واضافت البنوك العاملة في الاراضي الفلسطينية، خصوصاً أكبرها حجماً"البنك العربي"، تعقيداً جديداً الى"معضلة"حكومة"حماس"، عندما طلب هذا البنك من السلطة، بشقيها الحكومة والرئاسة، عدم فتح حسابات مصرفية باسمها خشية تعرضها للمقاضاة من قبل جهات في الخارج، لا سيما الولاياتالمتحدة. ويتعرض البنك المذكور للمقاضاة أمام القضاء الأميركي عن تحويلات مالية استخدمت في تنفيذ هجمات انتحارية في اسرائيل عامي 1996 و1997 أسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، بعضهم يحمل الجنسية الأميركية. وقد مضى أكثر من أسبوع على انقضاء شهر آذار مارس، وما زالت الحكومة غير قادرة على توفير رواتب الموظفين. ويقول وزير المالية انه ينتظر وصول تحويلات بقيمة 80 مليون دولار من عدد من الدول العربية، ليتمكن من دفع رواتب الشهر الماضي. وما لا يملك الوزير إجابة عنه، هو: ماذا لو توقفت التحويلات من الدول العربية في الأشهر اللاحقة؟ ويكتفي بالإجابة على هذا السؤال، قائلاً ان الأخوة العرب لم ولن يخذلوا شعبنا". لكن مع التقارير التي تشير الى ضغوط تمارسها الادارة الأميركية على الدول العربية لوقف الدعم عن حكومة"حماس"، فإن مستقبل هذه الحكومة سيكون مرهونا بمدى ما تستطيع تقديمه من"تنازلات"سياسية للجهات المانحة. وقد أرسلت الحكومة في الايام الأخيرة أكثر من اشارة"ليونة"الى الغرب، منها ابداؤها الاستعداد لقبول هدنة طويلة، وقبول مبدأ الحل القائم على أساس دولتين لشعبين، لكن ذلك لم"يزحزح"الموقف الغربي الضاغط على الحركة بهدف تغيير مواقفها لتتناسب مع قواعد اللعبة السياسية المرسومة في المنطقة. ويقول مسؤولون في مكتب الرئيس محمود عباس انه يحاول اقناع الغرب بتمويل القطاعات المدنية في السلطة مثل الصحة والتعليم، ليصار الى اقناع الدول العربية بتمويل أجهزة الأمن، لكنه لم ينجح في ذلك بعد. وذكر مسؤول رفيع في السلطة ان اللجنة الرباعية، في لقائها الأخير مع الرئيس محمود عباس في عمان الأسبوع الماضي، هددت بوقف العمل مع عباس في حال عدم قدرته على اقناع"حكومة حماس"بتغيير مواقفها. وفي انتظار تطورات سياسية تكفل لنبض الحياة في الأراضي الفلسطينية الرواتب مواصلة التحرك، فان عائلات الموظفين لا تملك غير مواصلة انتظارها القلق. وقالت عائشة باكير:"فكرنا في حلول بديلة، لكننا لم نجد، قلنا ان زوجي يستطيع العمل في تعليم قيادة السيارة، لكن في حال توقف الرواتب لن نجد أحداً يتعلم قيادة، قلنا إننا سنعمل في مهن يدوية، لكننا وجدنا ان توقف الرواتب لن يبقي ولن يذر، فآثرنا التوقف عن البحث، والانتظار فقط". وما يشيع بعض الطمأنينة لدى هذه الأسرة، وغيرها من أسر الموظفين، هو ان"الموت مع الجميع رحمة"كما تقول عائشة.