تبلور علوية صبح، في رواية"دنيا"دار الآداب - 2006 لعبة السرد التي اعتمدت بعض عناصرها في"مريم الحكايا"، وهي لعبة تقوم في اساسها، على جعل مشكلات السرد وعلائقه مع الكاتبة المحتملة والشخصيات الساردة، جزءاً من نص الرواية، أي بمثابة ميتا - نص مندمج في صلب المحكيات، له وظيفة فنية ودلالية. وبعبارة ثانية، فإن الحديث عن معضلة تنظيم السرد، وعلائق المحكي بالواقع واستحالة الكتابة، هو ايضاً مدخل الى استكشاف دلالات الرواية، ومحاولة لاعادة النظر في مفهوم الكتابة الروائية ذاتها. تقول دنيا عن الكاتبة:"كلما كتبنا، صارت لنا أجساد وملامح وأسماء ووجوه وحكايات. هي تمحي ونحن نكتب، ص 379. تحيل هذه الاشارة الى العلاقة المعقدة بين الروائي وشخوصه، وتنفي السمة الفوقية عن المبدع لتضفي على الشخصيات صفة الوجود المستقل، المتمرد على بارئه. وضمن هذا الطرح، يبرز التشكيك في الشكل السردي المعروض، واحتمال تغييره من خلال القراءة، او تخيل نص آخر تكتبه الشخصيات الساردة، المناوئة للكاتبة... ولا اظن ان علوية صبح انما قصدت الى حبك محكياته على اساس الاستطراد الشهرزادي، كما ذهب الى ذلك بعض من قرأوا"دنيا"، بل ان استراتيجية السرد عندها تلتئم مع نسج الدلالة نسجاً مراوغاً، وعلى مهل، ليفضي الى بنية عميقة تقول اشياء كثيرة عبر ترميز يتداخل فيه الحميمي بالعام، كما سنحلّل ذلك لاحقاً. تتناوب على السرد كل من دنيا 13 فصلاً وفريال 3 فصول، وتبدو حوافز الحكي عند كل واحدة منهما، مشدودة الى تواطؤ يجعل محكياتهما تتداخل وتتقاطع فيما هي تلاحق الذاكرة العائلية ورواسب الحرب الاهلية، ومآزق الحب والجنس والمرض... لكن الكاتبة المحتملة حاضرة في مخيلة الساردتين من خلال المنامات المشتركة بينهن، هن الثلاث. وكأن واحدة تحكي المحكيات نفسها طبق المنامات المشتركة. من ثم، تخبرنا"دنيا"، منذ البدء، بأنها ستقرأ كل فصول الرواية لتتأكد من ان الكاتبة لم تتلاعب بمصيرها ومصير مالك وفريال، واذا تبينت تشويهاً فستقتل الكاتبة! وأرى ان كل هذا الميتا- سرد له علاقة بالمسافة الفنية التي تحرص عليها علوية صبح، حتى لا يكتسي السرد طابعاً مباشراً بجعل القارئ يتماهى مع الحكايات، غافلاً الاسئلة الملغومة التي تدسها الكاتبة من خلال تعليقات دنيا وفريال على سيرورة السرد وعلاقته بالمنامات... والعلاقة بين النوم والموت واليقظة حاضرة بقوة، وتأخذ منعرجات لتتبلور في آن واحد:"الناس نيام، فإذا"حكوا"انتبهوا. والدنيا منام لا ينتهي، ولا نفيق منه الا حين نحكيه ونتذكره"ص 400. للحكي اذاً، في حد ذاته، سلطة تنعكس على ما نعيشه ونتخيله ونتذكره، وما من احد يستطيع ان يمايز بين المحكي والواقع، بل هناك تداخل يجعل السرد في الرواية وكأنه من صنع الجماعة وليس الكاتبة وحدها:"والتبس عليها الأمر، فلم تعد تعرف ما اذا كانت هي الكاتبة أم أنا، ام فريال..."ص 390. لا شك في ان علوية صبح استثمرت جيداً تلك اللعبة التي بدأها سيرفانتيس في"دونكيشوت"، عندما شكك في نسبة النص الى كاتبه وجعل له اصلاً متشابكاً يعود الى مخطوط باللغة العربية عثر عليه الكاتب وترجمه الى الاسبانية، وأيضاً عندما عدّد الساردين، بل جعل دونكيشوت وتابعه سانشو يلتقيان، في الجزء الثاني من الرواية، بپ"دون ألبارو"، الشخصية الواردة في الجزء المنتحل من رواية"دونكيشوت"، ليدور بينهم حديث عن الرواية الاصلية والرواية المنتحلة... في"دنيا"، استطاعت علوية ان تكسر خطية السرد وتحد من سطوة الشخصيات، وذلك من خلال تدخّل"كاتبات"النص اللائي يُمرّرن اشياء كثيرة عبر السرد اللعبي وتنويع الاصوات ذات الحمولات المتعارضة. واستكمالاً لهذا البناء، تضطلع محكيات الشخوص بتأثيث فضاء الرواية الذي يرتسم امامنا، بنوع من التوازي والتجاوز على رغم تباين ازمنة الحكايات. هكذا نسمع اصوات الجدة والعمة، والعم عبدالله، وسهى وماغي، وروز ورؤوف، ودلال والدكتور كمال وصديقه شوقي... الى جانب قصة دنيا ومالك المحورية، ثم قصة فريال وخالد. ويأتي السرد على خلفية الحرب وندوبها، لكن اليومي يحتل حيزاً واسعاً، خصوصاً احاديث النساء عن الجنس والرجال والحب، وكأن مجتمع النساء المحاصر وراء كلام الرجال ورقابتهم، يخترق الحصار ليفسح المجال امام دفق كلام النساء الصريح، الجارح الذي يسخر من عنجهية الرجل وبطركيته:"وما قهرني إلا ما الشيخ اللي بيحكي على الراديو، سألته وحدي مرة: يا شيخنا اذا وحدي تجوزت اول زلمي وطلقت، ورجعت تجوزت مرة ثانية، مين بيطلعلها بالآخر اذا راحت على الجنة، جوزا الاول ولا الثاني؟ قللها:"جوزها الأولاني"ولو تجوزت عشر رجال بعده. خذوا ها الشحار والتعتير، معقولي؟ ما عرفتش كيف اخلص منه وارتاح، تيرجع يطلعلي بالآخر، شو ها الظلم والشحار؟". ص 80. سواء أكانت شخصية المرأة، تنتمي الى جيل قديم او الى جيل أحدث، فإن نساء"دنيا"يتوفرن على وعي متحدر من تجربة قاسية مع الرجل وسلوكاته الانانية. ويطالعنا من خلال صوتي دنيا وفريال، نموذج لوعي المرأة اللبنانية المثقفة التي تعيش مرحلة انجلاء الاوهام، لتكتشف كذب الرجل وانفصاميته، وهشاشة الايديولوجيا، ومرارة الانهزام. تستحضر دنيا صورة زوجها مالك الذي اصبح مشلولاً على هذا النحو:"... لم يكن عطش مالك الى الجنس عطشاً للنساء وحسب، لا سيما في الفترات الاولى لزواجنا، بل ربما كان عطشاً للتأكد من ان عضوه ليس وهماً ... الآن، يحلم ان يرى جسدي مشلولاً مثل جسده. نظراته اليّ وأنا أعبر أمامه كانت تعلن عن شهواتها ليصير جسدي نقطة ساكنة، اذ كيف يمكن ان يكون لي جسد يتحرك ولا يسيطر هو على حركته وسكونه؟"ص 105. وفي المقابل، نجد فريال، استاذة العلوم، قد عاشت تجربة حب عاصف مع خالد، لكنها تستفيق على قطيعة من جانبه لا تفهم اسبابها إلا بعد ان يبلغها ان حبيبها تزوج من فتاة عادية خضوعاً لمشيئة عائلته. عندئذ تعيد النظر في الحب والمحبوب وفي الصورة المثالية التي ملأت كيانها:"كأنه في الغرام رسمني صورة عِشقَها، اما في الزواج فقد رسم صورة لأخرى. كأننا نحن النساء لسنا سوى صور موزعة في كادرات ثابتة مرسومة بدقة في رأسه. صور للرحم والانجاب، للجنس والجسد، وأخرى للروح او للعقل، نازعاً في تلك الصور كلها لحم كل انثى عن احشائها، كمن ينزع الروح عن الجسد. كأن الانثى في خياله مجزأة الى صور لنساء لا يمكن جمعها في امرأة واحدة"ص 304. من هذه الزاوية، زاوية تداخل المحكيات وتنوعها وملامستها للخاص والعام على السواء، نستطيع القول ان ستراتيجية البناء والكتابة عند علوية صبح، تتوخى البحث عن"معادلات"موضوعية وذاتية في آن واحد، تغدو تمثيلاً فنياً لأوضاع وتجارب يختلط فيها الحميمي بالمشاع، وتصبح السلوكات في تجسدها الفردي مشدودة الى خيوط لا مرئية، لها تأثير متبادل مع التاريخ العام الذي ينيخ على الافراد بوطأته، ويشل حركاتهم واندفاعاتهم وشهواتهم... وهذه الاستراتيجية تعي جيداً ان ما يحدد فنية النص، هو الذهاب مباشرة الى تسمية الاشياء بمسميات متداولة وكأن ذلك سيعيش على فهمها. لذلك تشرّع علوية الابواب امام الحكي والمحكيات، وتعدد الساردات، وتتحايل بالتشويق والحوارات الى ان تنتهي من رسم البناء الروائي الذي سيوحي لنا بدلالاته ويعرض علينا صوراً معبرة لا تطاولها المصطلحات والتسميات... الحقيقة والحلم إن الحرب الاهلية اللبنانية التي اندلعت في ماضٍ قريب، لا تزال ممتدة بتجليات اخرى داخل المجتمع، وهي الخلفية التي تستند اليها رواية"دنيا"من دون ان تستحضر تفاصيلها الوقائعية. لكن ذاكرة الناس، خصوصاً النساء في فضاءات"دنيا"، تريد ان تلتجئ الى النسيان لتنفض الغبار عن الاجزاء الاخرى من الذاكرة التي همشتها فظائع الحرب. من ثم تنبثق المحكيات المتصلة بالطفولة والمراهقة والزواج ولحظات الحب الهنية القصيرة، وكأنما هي تذكرنا بأن تلك الشخصيات لها ماضٍ انساني عادي قبل ان يصعقها كابوس الحرب. ويضطلع الحكي بدور اساس في مواجهة حال الشلل والضياع المتحدرة من عواقب الاقتتال والهزائم، والتي يمثلها مالك زوج دنيا، بصفته رمزاً للبطركية المشلولة التي تتشبث، على رغم ذلك، بسلطة القمع تجاه الزوجة الساهرة على إسعافه. وراء البنية الظاهرة المستندة الى محكيات متداخلة، واستحضار حيوات متقاطعة، يمكن استشفاف بنية عميقة لرواية"دنيا"، هي تلك الفسحة القائمة بين ذاكرة الحرب الرازحة، ومحاولة النسيان، واستعادة اصوات النساء التي كانت مغيبة من قبل بفعل احادية الصوت الذكوري البطركي. من هذا المنظور، نجد ان رواية"دنيا"تقدم كتابة تحتفي عميقاً بصوت المرأة التي تسعى الى حمل"شقائقها"على الاعتراف بوجودها وذاكرتها وجسدها. ذلك ان احد مظاهر ازمة مجتمعاتنا العربية هو عدم الاعتراف بالمرأة، لا من حيث الحقوق والقوانين، وإنما على مستوى الوجود البشري، بل الفلسفي اذا صح التعبير، الذي يعتبر المرأة كائناً حراً، مستقلاً في ذاكرته وجسده ورغائبه، غير محتاج الى وصاية... ولأجل تغيير هذه العلاقة المجحفة، تأتي المحكيات المتدفقة من أفواه نساء"دنيا"لتُعرب عن وعي مختلف، وكأنها تكملة وإضاءة لنضالات المجتمع المدني الهادفة الى تقويم الخلل وإقرار المساواة بين الجنسين. ذلك ان التغيير - أي تغيير - يحتاج الى محكي يعلن عنه ويدل على محتواه. على ضوء هذه الملاحظات، يمكن الاقتراب من منظور للتأويل يأخذ في الاعتبار البنيتين الظاهرة والعميقة. بالفعل، يقوم نص"دنيا"على بناء متضافر وخادع: انه يوهم بأن الحكي هو عز الطلب، ويجعله يتحقق عبر تداخل الواقع والتخييل واستبدال احدهما بالآخر، وعبر الاهتمام بلغة التواصل الشفوي وكأنها غاية تغني عما عداها... لكن كل ذلك البناء يخفي ترميزاً اوسع، ينتسج على محصل ليلملم اجزاء الصورة المتشظية التي تؤول الى استعارة تمثل للوضع الغريب، المخيف، لذلك"الرعب اللايسمى"الذي اشار اليه اليوت في تحليله لمسرحية هاملت والبحث عن"معادل موضوعي"يشخص الحالات الشعورية الدقيقة... والرعب اللايسمى في"دنيا"هو التفتت المتسارع للجسد العربي الذي طالما تستر وراء الذكورة والبطولة وأمجاد الماضي، ليمارس بطركية مطلقة على المرأة، غير مدرك لعوامل التآكل المتسربة الى كيانه... وأعتقد بأن الفصلين 15 و16، يشكلان منعطفاً جوهرياً في تحويل دفة السرد المفتوح نحو أفق الترميز الاشمل الذي يربط الخاص مسار مالك المشلول، وعواقب الحرب اللبنانية... بما هو أعمّ، أي حالة العالم العربي الذي يعيش موتاً سريرياً وكوابيس خانقة للأنفاس، من خلال حلم ترويه دنيا رأت فيه نفسها وكأنها الكاتبة تذهب لزيارة مالك لتسأله عن شلله وكيف يعيش مرضه، نقرأ ضمن أجوبة مالك، ما يلي:"... وتابع انه لولا الامل لكان مات، فالناس يموتون احياناً من اليأس او القهر او الذل، ومن يتطلع حواليه في العالم العربي، يرى اناساً تشمعت وجوههم من القمع تماماً كما يتشمع كبد الانسان. بعضهم يحتج بالبقاء او اللامبالاة بل حتى بالاستسلام، وان بعضاً آخر يحتج بجسده"ص 383. وفي الفصل 16، يتأكد لدنيا، من خلال لقطات تلفزيونية، ان العنف يهدد العالم وخصوصاً ما يحدث في اقطار عربية، فوجدت نفسها تربط بينهما:"... وشعرت في تلك اللحظة ان المدن اختلطت ببعضها، الاموات بالأحياء، المنام باليقظة، باطن الارض بسطحها، والمقابر الجماعية تحت قشرة الارض العربية كأنما امتدت لتتواصل مدناً للموت. عادت الى ذهني المقابر الجماعية في الحرب اللبنانية، وتطلعت الى ساقي مالك فرأيتهما قد صارتا في القبر، بل جسده كله صار فيه. واختلط علي المشهد فخيل الي ان ارجاء العالم العربي صارت في القبر هي ايضاً". وتكتمل عناصر الترميز من خلال ما تقوله دنيا عن علاقتها بمالك:"... ولم اقل لها ان حلمي ان يستعيد قدميه وقوة ساقيه، وانه ما دام مشلولاً، لن تكون لي ساقان قويتان اسير بهما الى حريتي وأستعيد ملامحي"ص 392. ان قوة الصورة الاستعارية المستخلصة من مجموع الرواية هي التي تضيء جوانب من المسكوت عنه. وكل اختزال لها في مفاهيم مجردة، يقلص من قوتها. لكن الرواية لا تنتهي عند هذه الصور المعتمة، بل هي تشير الى نقطة ضوء تنبعث من دنيا، من رحم المرأة التي تدرك ان الحقيقة تنبع من الرغبة والحلم والذاكرة:"التبس عليّ احساسي في تلك اللحظة وسألت هل صحيح ان كل شيء وهم؟ انا ومالك والغرفة والليل وحتى الحكاية؟ ام ان الحقيقة هي ما نرغب فيه ونحلم ونتذكر والرغبة في الدنيا المستحيلة صارت موجودة فيّ انا، دنيا التي انفصلت عن دنياها، لتنبع لها رغبات تبدأ مثل كل الرغبات بالخوف والألم". ص 400.