تُعتبر صناعة الأواني الفخارية من الفنون التي لاقت تطوراً لافتاً في العصور الوسطى، ولقد عُثر على أقدم أنواع الخزف الإسلامي بالأندلس في مدينة الزهراء القريبة من قرطبة، ويُمكن إرجاعه إلى النصف الأخير من القرن العاشر الميلادي، وتتكوّن زخارفه من أشكال محوّرة للأزهار وكتابات وطيور، وقد استُخدمت الألوان الأخضر والأزرق والبنُي. كما وُجدت في الزهراء بقايا قطع من الخزف ذي البريق المعدني. وبلغ فن الخزف المزخرف في عصر الخلافة قمَّة الروعة والازدهار، وأنتج الخزّافون الأندلسيون أنواعاً جيّدة من أغطية الآبار والأزيار، وزيّنوها بالزخارف وبالطلاء. ومن أقدم النماذج المعروفة، غطاء بئر من إشبيلية، مؤرخ عليها العام 430ه/ 1039م، وعليها زخارف مصبوبة بطريقة القرطاس، وهي ضمن محتويات متحف الآثار بمدريد. وكانت بطرنة قرب بلنسية، مركزاً مهماً لصناعة الخزف في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وتتكوَّن زخارف خزف هذه المدينة من رسوم محوّرة لحيوانات وطيور وأشكال آدمية. وذاعت في القرن الرابع عشر وأوائل الخامس عشر شهرة مدينتي مالقة وغرناطة في إنتاج الأواني والبلاط ذات الرسوم الجميلة بالبريق المعدني ذي اللون الذهبي أو الذهبي والأزرق. ومن أبدع القطع المعروفة، تلك الأواني بيضاوية الشكل ذات المقابض التي تشبه الأجنحة، وتُعرف باسم"قدور الحمراء"، وترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي. وتشتمل رسومها على كتابات كوفية وزخارف نباتية وحيوانات محوّرة، ويسود الاعتقاد بنسبة القدور ذات البريق المعدني الذهبي فقط إلى صناعة مالقة، ونسبة القدور التي جمعت بين اللونين الذهبي والأزرق معاً، إلى صناعة غرناطة. ثم تفوَّقت مدينة منيشة قرب بلنسية، في صناعة الخزف منذ القرن الرابع عشر حتى السادس عشر، وامتازت بإنتاج الأواني والصحون والقدور البرميلية. ويُنسب إلى بداية القرن الخامس عشر الميلادي، نوع من الأواني الخزفية ذات البريق المعدني، اتخذ الصنّاع في إنتاجه أساليب مدرسة مالقة. وتشتمل تعبيراته الزخرفية على توريقات ومضفرات ومراوح نخيلية وأشكال تشبه الكتابات العربية، وهذه التعبيرات المختلفة مرسومة بالبريق المعدني البُنّي والأزرق، وفي متحف"متروبوليتان"، صحن كبير به رسوم وريدات بالبريق المعدني الذهبي داخل أشرطة متشابكة باللون الأزرق، ونجد زيادة على تلك التعبيرات الزخرفية الأندلسية، رسوم شارات خاصة بالأسر المسيحية الاسبانية، كما يتضح من صحن محفوظ في الجمعية الأسبانية بنيويورك. وخلال النصف الأول من القرن الخامس عشر، بدأت العناصر الزخرفية في الفن القوطي تدخل تدريجياً في رسوم منتجات بلنسية من الخزف ذي البريق المعدني. ومن الأشكال التي شاع استخدامها الورود الصغيرة فوق الأرضية المنقَّطة، وغالباً ما كانت ترسم معها باللون الأزرق، الحيوانات الرشيقة إلى جانب كتابات قوطية. وألف الصُنّاع في النصف الأخير من القرن الخامس عشر زخرفة القدور والصحون ذات البريق المعدني بتفريعات العنب، مثلما عرفت في الفن القوطي، باللونين الأزرق والذهبي. ثم مالت تلك الزخارف نحو الجمود والتحوير في نهاية ذلك القرن. ولم تخْلُ تفريعات العنب من رنوك أو شارات لبعض الأسر المسيحية. ولم يمض القرن السادس عشر، حتى انتقلت صناعة الخزف بمدينة منيشة تدريجياً، من أيدي المسلمين إلى المسيحيين، وتدهورت الموضوعات الزخرفية التي كانت شائعة في القرن الخامس عشر، وحلّت محلّها أشكال مزدحمة بعيدة من الأساليب الإسلامية. الخزف في عصر الخلافة ظهرت صناعة الأواني في عصر الخلافة في مركزين هما: إلبيرة والزهراء، وقد قُضي عليهما في أوائل القرن الحادي عشر، بعد أن زوَّدا الفن بأمثلة كثيرة، تكشف عن اتجاه جديد فيه، ذلك أن الأشكال لا تحتفظ بالتوازن بل تميل إلى التعقيد، فمن جرار لها فوهات ضيّقة ذوات أعناق طويلة مخروطية، إلى قدور بأربعة مقابض تزدان في أعلاها بزخرفة غريبة ذات حافة مزدوجة وأطراف مدبّبة بمحيطها، إلى أوانٍ بها بروزات في القاعدة لتفصلها عن الأرض، وأباريق مختلفة الأشكال وقُلَل بمقابض رشيقة، وطاسات على هيئة فناجين. كل ذلك يضم تحفاً، تدل على ذوق رفيع لم يسبق أن عرف في أسبانيا، وقد غطيت بطلاء أصفر أو أخضر على وجه عام. والشائع في الجرار وبعض الأطباق أنها لا تحمل أكثر من زخرفة مطلية باللون الأبيض على الطمي الأحمر، وهي تتألف من تكوينات أساسها دوائر، معيَّنات ونقط أو زخرفة من سيقان نباتية، وقد زينت بكتابات عربية اتسمت بالرشاقة. وقد جرت العادة أن تزدان الأطباق المزجَّجة باللون الأصفر، بزخارف من لون أسود، وفي بعض الأواني المنتفخة زخرفة بسيطة محزوزة، وفي أخرى تتضح مجموعة نتوءات مدببة، ومنها ما هو مخرم، واتخذت القناديل في هذه المرحلة شكلاً جديداً، إذ تبدو فيها فتحة طويلة تشبه المنقار، وفوهة ضيِّقة العنق وحزام مستدير. أما خزف إلبيرة فإنه يمتاز بوجود الرسوم الآدمية والحيوانية، على رغم فقره في الأسلوب الصناعي، في حين أن الفن الشرقي يتميَّز بقوة ألوانه وجمالها. ويتجلّى على رأس مجموعة إلبيرة ذلك الطبق الذي يعدّ تحفة فريدة، وهو يزدان بصورة جواد مطهم، ذيله مقسم إلى ثلاث ضفائر كما في علب العاج، ويمتطيه طائر يُمسك اللجام بمنقاره، ويتلو ذلك دنّ من إلبيرة أيضاً عليه رسوم لأرانب برية تعدو وفي أفواهها أغصان رفيعة. كما يرى ذلك في رسوم حيوانات وطواويس مع رسم ريشها بأسلوب مهذَب في أواني الزهراء. ولم يصلنا من الرسوم الآدمية إلاّ أجزاء الأواني. وأكثر من هذا شيوعاً، هي الأطباق والصحون المزدانة بكتابات كوفية حسنة الزخرفة، وقد تكرَّرت عليها كلمة"الملك". وتكثر من حول الكتابة تكوينات نباتية، قد تظهر أيضاً مستقلة عنها وهي من نوع قرطبي، وضفائر من ثلاثة فروع وفق التقاليد الكلاسيكية في الفسيفساء، وكل هذا يعبّر عن براعة زخرفية لا سابقة لها. وما تجدر الإشارة إليه في هذه المجموعة، أن القطع التي تُعدّ مظهراً للفن الراقي تفقد قيمتها لزوال بريقها وظهور الطبقة التي تعلو عجينتها، في حين أن القطع الفقيرة من حيث الزخرفة، تحتفظ ببياضها وبريقها. ويتضح ذلك في الخزف/ الزليج الذي يحلِّي قبة ما قبل المحراب في المسجد الجامع بقرطبة، ويقوم في مخارج فصوصها مع زخرفة مركبة ووريقات تغطي سطح الإفريز البارز المائل إلى الاستدارة، وهي النماذج الوحيدة من الزليج في تلك الفترة. ويمكن بيان الغرض منها بأنها كانت لتهيئة متّكأ للفسيفساء من دون أن يكون ذلك نشازاً في سياق الزخرفة، وهذه الميزة في المظهر ترجع في ما يبدو إلى اتخاذ أسلوب أدقّ للحصول على اللون الأبيض. الخزف ذو البريق المعدني وهو أهم ما ابتدع على مستوى صناعة الخزف في العصور الوسطى، بل لعلّه أبرع ما ابتُدع في الفنون الصناعية، وقد استخدم أيام الخلفاء العباسيين في القرن التاسع، إذ ولد حينئذ مكتملاً، ثم اضمحل بعد ذلك ولم يعد إلى صورته الأولى، ويتجلّى في أطباق مقعّرة ليست بالكبيرة، ذات قاعدة مستديرة وطينة شاحبة، وكسوة بيضاء بلون القصدير، كانت تضاف إليها، في مرحلة ثانية مع درجة حرارة منخفضة، زخرفة ترسم بريشة تمثّل باختصار رسوماً آدمية وحيوانية، ونقوشاً من الكتابة الكوفية، وحليات في فن لا يحاكي الطبيعة، لكن في أسلوب صناعي رائع تغطِّيها ألوان تارة أرجوانية تموج فوق الذهب، وطوراً زيتونية، وأزرق بنفسجي متغيّر، وزرقة اللازورد، وقد اكتشفت قطع من هذا النوع في الرقة وسامرّاء. وعُثر على قطع تمثّل المرحلة المتأخرة من الخزف ذي البريق المعدني في الري وسوسة والفسطاط وغيرها، ومن خواصها اللون الأصفر مع بريق ذهبي وأرضيات منقَّطة حول زخارفها، وعلى ظهرها بعض الدوائر بين مجموعات من الخطوط المنقطة. ولا يزال أسلوب صناعتها معروفاً حتى اليوم. ومن المعروف أن فخَّارين مشارقة كانوا يعملون في الأندلس في القرن العاشر، وفي طليطلة سجلّ من ذلك العصر يتضمّن إشارة إلى أن"القصاع المذهبة"كانت من الصناعات المحلية. أما قلعة أيوب فقد كانت في النصف الأول من القرن الثاني عشر مشهورة بصناعة الأواني الزخرفية المذهبة التي كانت تصدر إلى الخارج. وبعد ذلك في القرن العاشر أسَّس الفخَّارون المشارقة مصنعاً، لعله كان في طليطلة كمصنع العاج، وبزواله احتجب السرّ الخاص باستخدام القصدير، بحيث عاد الأندلسيون إلى التغطية فوق الطينة الحمراء. وأحيت مالقة وقلعة أيوب هذه الصناعة مستخدمة اللون الأصفر المذهب نفسه، أو اللون البنفسجي الذي يتدرَّج إلى أن يصبح أرجوانياً. ومن أكثر القطع أصالة تلك التي تبدو فيها صورة امرأة في يدها زهرة، وأخرى لطيور تتهادى في مشيتها، على أرضية منقطة كما في الفن المشرقي، غير أنها مرسومة بخفَّة وحرية كالتي تتجلَّى في خزف إِلبيرة. وأشدّ هذه القطع دقة، تلك التي يظهر فيها اللون الأرجواني فوق طينة شاحبة، وهذا ما يعرف بالتوشية المالقية، وتتردّد في القطعة كلمة"اليمن"بين عناصر نباتية تستكمل من طريق الزخرفة المحفورة. وهناك تيار جديد من المشرق أدّى إلى ظهور إنتاج آخر في مالقة، تمثل في الأواني المزدانة بزخارف بارزة تعمل بواسطة قوالب، وتشتمل على مجموعة من الأسود تتحرك بين توريقات من النوع نفسه المعروف في القرن الحادي عشر، أو عقود متقاطعة مفصَّصة من نوع عقود القرن الثاني عشر، كذلك كتابات كبيرة من الخط الكوفي، طينتها شاحبة وكسوتها بيضاء فوقها تذهيب ضعيف جداً غير متماسك. والظاهر أن هذا النوع من الأواني لم يصادف انتشاراً، غير أن الزليج صنع بالطريقة الفنية نفسها، بحيث يدخل في زخرفته القصدير والكوبالت، وقد ظهر في الحمراء ممثلاً مرحلة متأخرة قرب نهاية القرن الثالث عشر. الخزف ذو الفواصل الجافة على أن عدم تزجيج القطعة كلها كان محوراً لتطور آخر، إذ اقتصر الأمر على تحديد مساحات تحدها خطوط ترسم بفرشاة مغمسة بأوكسيد المنغنيز الخام من دون ذوبانه، بحيث يصبح معتماً وأسود حتى بعد خروجه من الفرن، وكان يطلق على هذا النوع من حيث طريقة صناعته:"ذو الفواصل الجافة". وكان يُضاف إلى الزجاج أوكسيد النحاس، الذي كان يبرق عادة، بحيث يخفي تنغيمه الأخضر، أو كان يظهر فيروزي اللون بتأثير محلول قلوي. ونجد على هذا النحو كثيراً من قطع الجرار التي اكتشفت في الزهراء وإلبيرة، وهي من طينة تميل إلى اللون الرمادي، تمكن رؤيتها بين مناطق من الكتابة الكوفية ودوائر صغيرة ونقط خضر ثم برعم أبيض صغير من النوع الذي ظهر في عصر الخلافة ومما يرجع إلى عصر متأخر كالقرنين الحادي عشر والثاني عشر، فوهات ثلاث آبار ووعاء اسطواني في متحف قرطبة، وهي مزدانة في أسلوب خشن بمناطق من الأوراق القديمة وعبارات المديح المعروفة"الملك"وپ"اليمن"، في لون أخضر على طينة مائلة إلى الاحمرار. تماثل هذه القطع قناني صغيرة رقيقة، لكل منها مقبضان وعنق واسع، وقد تطوّرت في ما بعد أيام بني نصر إلى مجموعة أخرى ظهرت في مالقة، إذ تغيرت صورتها بحكم تأثير مشرقي واقترنت بزخرفة بديعة خضراء قاتمة على بياض الطمي. وقد انتجت مناطق شرق الأندلس قرب المرية مجموعات مماثلة، مزدانة بطريقة الفواصل الجافة، دون تزجيج وأجزاء مزخرفة محفورة ومن هذه الطريقة ولدت مرحلة ثانية مع المرحلة السابقة، وطبقت في الزهراء على أوعية مستديرة من الطمي العادي، وعلى قنانٍ اكتشفت في قصبة ببشتر وفي يابسة ومالقة وإقليم البشكنس، وهي ذات مظهر بدائي، قوامه تزجيج القطعة كلها بألوان بيض وصفر وخضر وبنفسجية بين الفواصل الجافة. وقد نضج ذلك في غرناطة قرابة القرن الرابع عشر، وانتقل منها إلى منطقة المدجنين في أشبيلية وطليطلة، وبقيت لنا قطع رائعة تزدان بها المتاحف الأسبانية. * كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي