كان العصر السلجوقي في إيران والعراق معاصراً للفاطمي في مصر، وكانت الصدارة لهذه الأخيرة في صناعة الخزف وألوانه وأنواعه وفنونه. وفي القرن الثاني عشر سقطت الدولة الفاطمية بعزّها وفخامتها ورونقها في أيدي الأيوبيين الذين لم يباروا الفاطميين في مظاهر الترف، ولذلك انتقلت الصدارة في الفنون الى الشرق الاسلامي، الذي كان يحكمه السلاجقة الموالون للخلافة العباسية في بغداد. وبانتقال هذه الصدارة الى السلاجقة حدث التطور الكبير في أشكال الأواني الخزفية وألوانها وفنونها في القرن الثاني عشر. ولما كان بلاط السلاجقة غير مستقر في قطر واحد، فقد ظهرت بلاد ومراكز عدة على طريق انتقالهم من الشرق الى الغرب، حتى وصلوا الى آسيا الصغرى. واشتهرت في عصرهم مدن عدة بصناعة الخزف، مثل الري وهمذان وقم وقاشان وسلطان آباد. وللمرة الأولى شرع الخزّافون يدوّنون تاريخ صناعتهم على منتجاتهم. وفي هذا العصر ظهر الخزف ذو البريق المعدني في إيران والعراق، اي في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وكان الخزف المسمى ب"الجيري"، يصنع في المصانع الشعبية في جهات متعددة في إيران، ولونه بني فاتح أو أخضر فاتح، ورسومه وزخارفه إما محفورة أو بارزة. وقد أدخل على هذا النوع المعروف في إيران الكثير من الزخارف السلجوقية، ومع ذلك لم يحز الإعجاب المطلوب. وكانت الري بالقرب من طهران مركزاً مهماً لصناعة الخزف في العصر السلجوقي، وقد انتقلت اليها الزعامة في هذا الفن من القاهرة. وفيها عثر على الخزف ذي العجينة البيضاء، الرقيق الجدار، المرسومة زخارفه بالحزّ والحفر والتخريم، كما صنع فيها الخزف المجوّف عند تشكيله. ويعد الخزف المينائي من افضل منتجات مدينة الري، وهو يصنع من عجينة ملونة تغطى بطلاء قصديري معتم، ترسم فوقه الزخارف بألوان مختلفة من ازرق وأسود وأخضر وأسمر وأحمر. وتأثرت زخارفه بمدرسة التصوير السلجوقية التي كانت تعتمد احياناً على التذهيب الذي يضفي على هذا الخزف جمالاً مضاعفاً، وكانت الزخارف في هذا الخزف توضع تحت الطلاء الزجاجي او فوقه، بحسب مقدار تحمل الألوان لدرجة الحرارة المرتفعة او المنخفضة اللازمة لتثبيت الطلاء او الرسم في الفرن. وكثرت في موضوعات الزخرفة صور أمراء وأميرات بين رجال الحاشية ونسائها، او رسوم صيد وقتال وطرب وفروسية. وقد اشتهر ثلاثة من الذين أنتجوا خزفاً مينائياً، هم: علي بن يوسف، أبو طاهر حسين، وأخيراً حسين. وكان سعد، الخزّاف الفاطمي، وغيره قد صنعوا الخزف المزخرف المخرّم ذا البريق المعدني في مصر، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ومن المحتمل ان يكون الخزّافون الفاطميون هاجروا الى الشرق حاملين معهم أسرار مهنتهم بعد سقوط الدولة الفاطمية. ويطلق على الخزف المصنوع في إيران - المتميز بزخارفه المحزوزة او المحفورة حفراً غائراً والمدهونة بألوان الأزرق والفيروزي والأصفر او البنفسجي الفاتح وبرسوم الحيوانات والطيور والتفريعات النباتية - اسم خزف "لقيي". ويوجد هذا الخزف في الري ايضاً، وقد استمدت زينته من الزخارف المعدنية والمنسوجات السلجوقية. وأواني هذا الخزف من الأباريق لها رؤوس ومقابض على شكل حيوانات وطيور مجسّمة لم نرها على الخزف الفاطمي، وإنما رأيناها على التحف المعدنية عندهم فقط. وفي متحف الفن الاسلامي ابريق، مسجل تحت الرقم 16124، يمثل هذا النوع من الخزف بزخارف منفذة بالبريق المعدني، بدنه كُمثريّ الشكل، برقبة قمعية ضيقة في منتصفها، وفوهته على شكل رأس ديك، وهو تقليد مألوف في الفن الساساني في إيران. أما المقبض فيصل بين كتف الإبريق والجزء الخلفي للفوهة. وتتشكل زينة الرقبة من مناطق زخرفية تدور حولها، تملأها اوراق نباتية محورة ودوائر، بينما تتألف زخرفة البدن من ثلاث مناطق، العليا في داخلها قوائم رأسية تشبه الحروف باللون الأخضر، تحتها مباشرة شريط ضيق من دوائر صغيرة. والمنطقة الوسطى على البدن تملأها جامات مدببة على شكل قالب، في داخل كل منها ورقة نباتية كبيرة محوّرة، وتملأ المساحات المحصورة بين الجامات زخرفة نباتية محورة. أما زخرفة المنطقة السفلية لبدن الإبريق فهي تشبه زخرفة المنطقة الوسطى، إلا ان الجزء المدبب من الجامة يتجه الى أعلى. وتوجد في متحف الفن الاسلامي سلطانية خزف، مسجلة تحت الرقم 13990، من النوع المعروف باسم خزف جبري، تمثل زخرفتها طائراً محوّراً بمنقار ضخم وعين بيضاوية وجناح مروحي كبير، حوله اوراق نباتية محورة. وقد نفذت الزخرفة بالحفر العميق في طبقة البطانة البيضاء حتى يظهر جدار الإناء الفخاري الأحمر، وجرى تلوين الزخارف وطلاؤها بالطبقة الزجاجية. وخزف جبري من اعظم انواع الخزف الإيراني، وقد عرفه التجار بهذا الاسم، الذي يعني "عبدة الشمس" في إيران. وكان الظن انه من صناعتهم قبل ان ينتشر الإسلام في كل الأقاليم الإيرانية، وقد ساعد على ذلك ما ظهر على هذا الخزف من رسوم بعض الطيور والحيوانات التي لم يستخدمها المسلمون. ثم تغيّر هذا الاعتقاد بعد الكشف عن الكثير من قطع هذا الخزف، تحمل كتابات بحروف الخط الكوفي. ولذلك أصبح خزف جبري ينسب الى انتاج إيران في القرون الخمسة الأولى للهجرة. وإلى جانب الكتابات الكوفية تميّز خزف جبري برسوم طيور او حيوانات حقيقية او خرافية، فنرى عليه الأسد والثور والجمل وأبو الهول والجريفون حيوان خرافي له جسم أسد وقوائمه وجناحان ومنقار يشبه منقار النسر، كما نرى عليه الصقر والنسر والطاووس منفذة بالحفر العميق في البطانة البيضاء حتى يصل الحفر الى جدار الإناء الأحمر. وتوضع فوق الزخرفة الطبقة الزجاجية الشفافة بألوان صفر أو خضر أو سمر قاتمة. وعثر على خزف جبري في مناطق مختلفة من إيران ... وكانت مراكز صناعته تتركز في مناطق آمل وزنجان وهمدان. وهذا النوع من الخزف كان ينتج في مدينة ساري وآمل وأشرف في اقليم مازندران في إيران، وعرف باسم خزف ساري. وكان يرسم بأسلوب بسيط وبألوان متعددة تحت الطلاء وهي البرتقالي والأحمر والأخضر والأسود والبني والمنغانيز. وتتألف زخارفه من رسوم طيور محوّرة أو دوائر وأوراق نباتية لها سيقان طويلة. ازدهرت صناعة الخزف ذي البريق المعدني في إيران بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد، وكانت مدينتا الري وقاشان من أشهر مراكزه الصناعية. وحتى بعد غزو المغول وتدمير مدينة الري 617ه/ 1220م، وتدمير قاشان 621ه/ 1224م، لم تتوقف صناعة الخزف في هاتين المدينتين، إلا أن كمية الانتاج اصبحت اقل. وأخذ صنّاع الخزف ينتجون لأصحاب الطبقة المتوسطة، فحدث تدهور في انتاج النوع ذي البريق المعدني، تلته فترة ركود في صناعته بحلول القرن الخامس عشر، ثم عاد انتاج هذا الخزف الى الازدهار في العصر الصفوي. وأنتج هذا النوع من الخزف في إيران بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين. وقد صنع معظم هذه التحف بطريقة الصب في القالب، وأنتجت منه قدور وأباريق وسلطانيات وتماثيل لأشخاص او طيور او حيوانات، وجُعل طلاؤه الزجاجي الشفاف بأحد اللونين الأزرق الغامق أو الأزرق الفيروزي. واستخدمت في الخزف، المصنوع في أواخر القرن الثاني عشر ومستهل القرن الثالث عشر، طريقة الزينة البارزة المحفورة في البطانية البيضاء تحت الطلاء في زخرفة التماثيل. وفي متحف الفن الإسلامي تمثال من انتاج "ساوه"، مسجل تحت الرقم 16185، من نوع الزخارف البارزة، لشخص واقف يرتدي ملابس عسكرية، ويبدو أنه من الأمراء أو القادة. وقد أسدلت خصلات شعره وبرزت عن كتفيه. وهو منفذ بأسلوب الصب في القالب، وجرى طلاء بدن التمثال بالكامل باللون الأزرق الفيروزي، وخلا تماماً من الزخارف. وتقع ساوه على طريق القوافل من الغرب الى الشرق، جنوب غربي الري، في وسط الطريق بينها وبين همذان في الغرب وقاشان في الجنوب وكانت مركزاً لصناعة انواع عدة من الخزف أهمها ذو البريق المعدني. وقد جمعت منتجات ساوه من الخزف، بين العناصر الزخرفية لانتاج مدينتي الري وقاشان. كما ينسب الى ساوه انتاج تماثيل الخزف التي كانت تطلى باللون الأزرق الفيروزي، وهو اسلوب قديم في زخرفة الخزف، استخدم في مصر الفرعونية في وادي النيل، وعرف باسم "الفايلنس المصري" أو "الأزرق النيلي" منذ آلاف السنين. وقد شاع في ذلك العصر استخدام اللون الأزرق الفيروزي والأزرق الكوبالتي. وفي آمل، جنوب بحر قزوين، انتشر الخزف ذو الزخارف المحفورة في القرن الثالث عشر. وقد صُنع هذا النوع بطريقة الحز، وجاءت رسومه مبسّطة تقترب من الأشكال الكاريكاتورية ذات الخطوط المستقيمة. واستعمل الحز للحيلولة دون انسكاب اللون على الرسم. وعادة ما يستعمل اللون الأخضر في خزف آمل. ويمثل ذلك النوع من الخزف ذي الزخارف الكاريكاتورية في متحف الفن الاسلامي صحن سميك من انتاج آمل، مطلي من الداخل باللون العاجي، ومزخرف بالحزّ بشريطين دائريين عليهما رسوم كاريكاتورية لطيور، يفصل بين الواحد والآخر خطّان متوازيان. ويتوسط الصحن رسم طائر محوّر بأسلوب تخطيطي كاريكاتوري. ولون الزخارف والرسوم أخضر. كما يوجد في المتحف مثال آخر لصحن كبير سميك من انتاج آمل ايضاً، يزخرف جداره من الداخل شريط دائري عريض، فيه رسم لستْ حمامات متعاقبة بأسلوب مبسّط، الأرضية مظللة بخطوط متقاطعة خضراء اللون، ورسوم الطير وتفاصيلها منفّذة بالحزّ العميق فوق البطانة البيضاء. وقد أثار هذا النوع من خزف آمل اعجاب الأوروبيين، وإن كان من الناحية الفنية البحتة يخطو خطواته الأولى نحو النمو والتطور. وأما في قاشان، التي تقع على مسافة 125 كلم جنوبطهران، فقد كان يصنع الخزف المرسوم تحت الطلاء الملوّن بالأزرق، وزخارفه محفورة على البطانة التي لوّنت بالأسود. وقد أضيفت الأشكال المجسّمة والمفرغة من الداخل الى الأواني والأباريق لتزيينها. ويعود اسم البلاطات الخزفية ذات البريق المعدني المسمّاة ب"القاشاني" الى قاشان التي كانت تصنع فيها انواع من الخزف، منها البلاط الذي زيّنت به جدران أو محاريب الكثير من المساجد والقصور. وهذه البلاطات غنية بالزخارف النباتية وتفريعاتها وصور الآدميين والحيوانات والكتابة بخط النسخ بحروف كبيرة. وكانت الكتابة تشكل عنصراً أساساً في الزخرفة او التحلية، وكان من بعض هذه الكتابات أبيات من شعر عمر الخيّام الذي نعم برعاية الوزير نظام الملك في العهد السلجوقي. وفي أوائل القرن الثالث عشر ظهرت الدولة الخوارزمية على أنقاض الدولة السلجوقية في إيران، ومع ذلك ظلّت الأساليب السلجوقية هي السائدة في الفنون جميعها. وكانت الزخارف ورسوم الشخوص والحيوان تغطي مساحة الرسم كلها. ورأينا صور الشخوص والحيوانات تملأ حيّز الرسم في الخزف الفاطمي. ثم تطور الرسم الى تقليد زخارف ورسوم المصغّرات. والجدير ذكره ان اللغة الفارسية التي أحياها السامانيون في بلاد ما وراء النهر وشرق إيران التي خلّدها الفردوسي في شاهنامته، ظهرت في هذا العصر، وصورت موضوعات من اساطير الفرس.