امتد الحريق المشتعل في اقليم دارفور غرب السودان منذ نحو ثلاث سنوات الى شرق تشاد. اذ يرتبط البلدان بحدود طولها نحو 1300 كيلومتر. وظلت العلاقة بين الدولتين تتسم بالتأثير المتبادل بسبب التداخل القبلي وسهولة التنقل بين الجانبين وصعوبة التمييز بين افراد القبائل. وقادت التوترات والصراعات الداخلية فى تشاد الى انتقال النزاع فى دارفور، كما وجدت الانقلابات التي شهدتها نجامينا تعاطفا ودعما قبليا سودانيا. ويضم الجيش التشادى مجموعات مؤثرة تنتمي الى قبائل مشتركة بين البلدين، لذلك ليس غريبا ان يتمرد بعضها عندما يرى ان موقف الحكومة التشادية تجاه القبائل االمشتركة لا يرضي طموحاته السياسية. ولا تشكل الحدود السياسية بين السودان وتشاد عائقا لحركة البشر والموارد، وهي لا تعدو ان تكون خطوطا جغرافية لا تأثير لها في من يسكنون على جانبى تلك الخطوط ممن ينتمون الى مجموعة سكانية واحدة او يمارسون النشاط الاقتصادى ذاته، فضلا عن سيادة التقاليد القبلية خلال حقب السلطات المتعاقبة قبل مجىء الاستعمار الى البلدين. وهناك 26 قبيلة مشتركة تنتمي الى تجمعات بشرية مختلفة وتشترك كل مجموعة منها بأصول لغوية واحدة على رغم تعدد اللهجات بتعدد القبائل والاعراف. وقد تكون تنقسم المجموعة بين أقلية فى بلد وأكثرية في البلد الآخر مثل قبيلة المساليت السودانية التى تنتمى الى مجموعة المايا التي تسكن غالبيتها فى تشاد مثل المسلات ورونقا وكشمرى وايا والتاما التى ينحدر منها زعيم حركة التمرد الجديدة محمد نور. ويكاد بعض القبائل يتوزع على البلدين بنسب متقاربة مثل الزغاوة التى ينتمى اليها الرئيس التشادى ادريس دبى وزعماء حركتى التمرد الرئيستين فى دارفور والداجو ومجموعة القبائل العربية. ادى التداخل القبلى وعدم وجود عوائق طبيعية الى اعطاء كل دولة ميزة تفضيلية عند الدولة الاخرى. فالسياسة التشادية تدرك ان أخطر ما يمكن ان يواجهها انفلات امنها فى حدودها الشرقية، اذ ان جبهة الشرق هى التى اضعفت تمبلباي وذهبت بمالوم على يد حسين هبرى، كما أضعفت هذا الأخيرا واتت بالرئيس ادريس ديبى. وما يقال عن الجبهة الشرقيةلتشاد ينطبق على الجبهة الغربية للسودان دارفور، وان بدرجة اقل. أزمة مكتومة ظلت الازمة فى العلاقات السودانية - التشادية التى برزت الى السطح اخيرا مكتومة منذ فترة طويلة ومرشحة للتفاقم بسبب التعقيدات التى تكتنف ملف الحرب فى دارفور وتقاطعاته مع الاوضاع فى تشاد. اذ ان معظم قادة حركتى التمرد الرئيستين فى دارفور ينتمون الى قبيلة الزغاوة التى ينحدر منها الرئيس ادريس ديى وقادة الحكم والجيش فى بلاده. وتعود جذور الازمة الى اتهام الخرطوم قيادات عسكرية وسياسية نافذة فى نجامينا بدعم متمردي دارفور بالاسلحة والعتاد وتمرير دعم خارجى عبر اراضيها، احيانا من وراء ظهر ديبي. وفي المقابل تتهم عناصر رسمية تشادية دوائر مؤثرة فى الخرطوم بتشكيل تحالف معارض من القبائل التي تعارض نظام الحكم فى تشاد لاسقاط السلطة فى نجامينا، وظلت هذه الاتهامات والهواجس مستمرة على رغم ان العلاقات بين البلدين تبدو فى احسن حالاتها. وبات الرئيس ديبى الذى وصل الى السلطة فى كانون الاول ديسمبر 1990 بدعم عسكرى من السودان وليبيا انطلاقا من دارفور يشعر بخطر حقيقى على حكمه من تحركات فى حدود بلاده الشرقية مع السودان، خصوصا ان الرئيسين السابقين جوكونى وداى وحسين هبرى وصلا الى السلطة عامي 1978 و1982 بدعم مباشر من الخرطوم انطلاقا من دارفور كذلك. ارتباك وتململ وتتحدث تقارير عن حال ارتباك وتململ في أوساط الحكومة والجيش التشاديين، وأن المعارضة التشادية تكسب أعداداً من قبيلة الزغاوة الموالين لديبي ومن بينهم بعض افراد اسرته نتيجة للإجراءات الأخيرة التي اتخذها ضد قادة حزبه بعد المشاركة المتدنية في الإنتخابات الأخيرة، والتي قضت بسحب إمتيازات الكثيرين منهم، فضلاً عن رغبة الزغاوة الحاكمين في تأمين نفوذهم المالى والسياسي في حال سقوط حكم ديبي. وتخشى القبائل التي تقود المعارضة المسلحة فى دارفور، لا سيما تلك التي لها علاقات مع الحكومة التشادية والتى يرجح أن تفقد الإسناد في حال تحولت حدود تشادالشرقية منطقة حرب وتمكنت المعارضة من تغيير السلطة في نجامينا، من ان يؤول مصير التمرد فى دارفور الى ما آل اليه وضع"الحركة الشعبية لتحرير السودان"اثر سقوط نظام الرئيس الاثيوبى منغيستو هيلا ماريام في 1991، عندما فقدت الدعم العسكري واللوجستي. ويعتقد على نطاق واسع أن أي تغيير في تشاد يعني اصدار شهادة وفاة لحركات التمرد الدارفورية. أخطاء قديمة ويعتقد محللون ان الأحداث التى تشهدها الحدود السودانية - التشادية نتاج أخطاء قديمة وقعت فيها الخرطوم أبرزها إزاحة الرئيس حسين هبري والإتيان بإدريس ديبي بديلاً عنه إرضاءً لفرنسا وليبيا متجاهلة المصلحة الحقيقية للسودان، باعتبار هبري صاحب توجه عروبي وإسلامي، فيما ليست لقبيلته القرعان إمتدادات في السودان أو ليبيا ما حال دون تأثير القبائل المشتركة في الإستقرار في السودان، كما أن شخصية هبري وكاريزماه كانت تحول دون تنفيذ الفرنسيين أجندتهم في المنطقة. ويعتقد الخبير الامنى السودانى العميد حسن بيومي بأن الرئيس ديبي"محكوم بطموحات قبيلته الزغاوة المالية والسياسية والتي يصعب التحكم فيها من الخرطوم فيما يسهل الأمر من تشاد"، مشيراً الى أن تاريخ تشاد السياسي تحكمه طموحات القبائل السياسية التي تنتظر كل منها ضعف المركز لتنقض عليه،"ولذا فإن السيطرة على أدري والجنينة وغيرهما من المناطق الحدودية المشتركة حيث تنشط المعارضة التشادية أمر تصعب السيطرة عليه". صراع اقليمي ودولي ويرى محللون ان الازمة التى يُعاد انتاجها فى كل مرة منذ استقلال تشاد عام 1963 تعود الى جغرافية هذا البلد وتاريخه، اذ انه لا يشكل دولة ولا امة. والدولة التى وضع الاستعمار حدودها مجرد خطوط على الارض تمتد بين جبال التبستي غربا وبحيرة تشاد على حدود نيجيريا، والتي تحد السودان شرقا والكاميرون ونيجيريا جنوبا وجمهورية النيجر غرباً وليبيا شمالاً، سجلت فشلا تاريخيا فى تعريف كينونتها واصبحت حدودها جزءا من ازمة وجودها. فالحرب التى اندلعت بعد احتلال ليبيا لاقليم اوزو مطلع السبعينات حتى 1988 وحسمت بتدخل ودعم اميركي - فرنسي للقوات التشادية وانتهت باتفاق سلام عام 1989، أوضحت هلامية الحدود التى خططها الاستعمار على رمال المنطقة وكانت سببا اساسيا فى اثارة حروب مستدامة فيها. كما ان طبيعة حدود تشادالشرقية مع السودان كانت سبباً فى عدم استقرار الدولة، فالتداخل الاثني والقبلي لم يعترف بحدود اصلا وهنا يكمن اساس البلاء. كانت موازنة الدولة قبل النفط تعتمد بنسبة 90 في المئة على الحلفاء، وتحديدا فرنسا، او اللاعبين الاقليميين كليبيا والسودان. وشكل الوضع الاقتصادى المزري لتشاد في الستينات عنصرا حاسما فى جعلها نهباً لاجندات مختلفة، ومكن الخارج من امتلاك مفاتيح التغيير بأكثر مما يفعل الداخل. فبدءاً من تومبلباي فرنسا وحتى هبري وديبى السودان مرورا بجوكوني وداي ليبيا، كان المحيط هو المؤثر الاكبر فى حركات التغيير، على رغم ان اياً من التدخلات الاقليمية لم يستطع ان يفرض نظاماً موالياً على طول الخط. فعويدي، وعلى رغم الدعم الليبي، رفض ان يقبل تبعية اقليم اوزو لليبيا، ونظام ديبى الذى وصل السلطة بدعم سوداني اعلن اخيرا الحرب على السودان. محاور الصراع هناك ثلاثة محاور فى الصراع الممتد منذ عقود في هذه المنطقة تجعلها قابلة للاشتعال: المحور الاول هو الصراع الأميركي ? الفرنسي على غرب افريقيا بعد انسحاب نهائي لبريطانيا، ويتعلق الثانى بالصراع الاقليمى الذى تدخل على خطه ليبيا والسودان ونيجيريا. ويدور الصراع الثالث على المحور القبلي الاثني. هذه الصراعات تتداخل ويغذي بعضها بعضاً، وتتقاطع فتختلط مصالح الدول الكبرى مع مصالح قبيلة الزغاوة مثلا، وتلتقي مصالح القوى الدولية مع احد اللاعبين الاقليميين وتفترق فى اخرى. وتبدو تشاد الآن موضوع الصراع بين فرنسا واميركا. فنجامينا هى الموقع الأخير للنفوذ الفرنسى فى غرب افريقيا تقريبا بعد خروج السنغال من المنظومة الفرنسية بوصول عبد الله واد الى السلطة، وخروج عبده ضيوف الذى يعتبر اكثر الزعماء الافارقة ولاءً لفرنسا. فى آذار مارس 2000 طلبت تشاد من السفير الفرنسى الآن دوبوا سبيان مغادرة أراضيها على خلفية تمتعه بعلاقات مميزة مع رئيس حركة"العدل والمساواة"المعارضة آنذاك يوسف توغويمي، وزير الدفاع السابق الذي قاد تمرداً ضد ديبى فى الشمال وسيطر على مرتفعات تيسبتى على الحدود الليبية عام 2000، قبل ان تتمكن منه القوات التشادية. وبعد طرد السفير استضافت باريس توغويمي وصدرت خريطة فرنسية للمنطقة تشكك فى تبعية اقليم اوزو لتشاد، ودعت فرنسا البنك الاوروبى للاستثمار الى تعليق مساهمته 44 مليون دولار في مشروع حوض سيديغى النفطى بحجة ان المتطلبات البيئية والاجتماعية غير مضمونة، واصدرت السفارة الفرنسية فى نجامينا بيانا اعلنت فيه انسحاب شركة"الف"الفرنسية من الاستثمار فى حوض دوبا اكبر الحقول النفطية فى تشاد، وتبعها انسحاب"شل"البريطانية، ما أدى الى خروج الآلاف من التشاديين إلى الشارع فى تظاهرة احرقوا خلالها المبانى والسيارات الفرنسية فى العاصمة. من هنا بدأت تشاد رحلة السير فى اتجاه الغرب. ففى نيسان ابريل عام 2000 اعلنت شركات"اسو"و"بتروناس"الماليزية و"شيفرون"الاميركية تحالفا رسميا لاستغلال حقول"دوبا"الذي يقدر احتياطه ب25 عاماً من الإنتاج بمعدل 250 الف برميل فى اليوم. تمرد محمد نور فوجئ كثيرون من المراقبين للتغير الكبير الذي طرأ على العلاقات السودانية - التشادية والتي كانت حتى قبيل فترة دافئة جداً، اذ شن ديبي حملةو عنيفة على السودان واتهمه بالسعي الى زعزعة الاوضاع في بلاده وتقديم تسهيلات فنية ومالية لحركات مسلحة وبحشد قوات كبيرة على الحدود يقودها ضابط سابق اسمه محمد نور يسعي للاطاحة بنظام نجامينا. فمن هو محمد نور؟ القائد محمد نور عبد الكريم عبد الله ابراهيم يعقوب من مواليد مدينة قريدة فى اقليم بلتن شرق تشاد، وهو يتحدر من اسرة عريقة فى قبيلة التاما الصغيرة ذات الامتداد على الحدود السودانية ? التشادية. كان والده زعيم تحالف قبائل الشرق وترك له ثروة هائلة من المواشي والارض اضافة الى زعامة اكبر تحالف قبائل في شرق البلاد متداخل مع غرب اقليم دارفور السوداني. أنهى نور دراسته فى تشاد قبل ان يدرس العلوم العسكرية فى السنغال ثم العلوم العسكرية فى فرنسا لينضم الى رجال الثورة التي جاءت بالرئيس ادريس ديبى الى سدة الحكم قبل 16 عاما، وتولى مناصب نائب محافظ ثم محافظ اقليم بلتن فى شرق البلاد، كما تولى مسؤولية التدريب والامداد الفني فى الجيش قبل ان يبدأ صفحة جديدة من حياته قدر له ان تحمله على طريق وعر لاكثرمن عشرة اعوام. بدأ تمرد الشاب النقيب محمد نور عام 1994 عندما استقل سيارة مكشوفة قادته الى داخل الحدود السودانية فى منطقة دار مساليت غرب دارفور في حماية حلفاء والده السابقي، حيث عقد تحالفا مع العقيد قرفة تحت اسم"التحالف القومي للمقاومة"بعد يأسه من السلطة التي كانت تنحصر ببطء لكن بخطى ثابتة حول قبيلة الرئيس ديبي. غادر محمد نور، تحت لواء محمد جرفة عام 1994. لكنه، ولوعيه التام بضعف رجالهما، نصح محمد جرفة بإرسال عناصرهما الواعدة لمواصلة دراستها في عاصمة افريقيا الوسطى بانقي، على ان يرسل الآخرون الذين لم يتلقوا أي تعليم إلى قراهم في شرق البلاد ليعودوا بعد سنوات مع مجندين آخرين. رفض جرفة الاقتراح اذ كانت تسيطر عليه الرغبة في الانفصال عن رئيسه السابق. عندها قرر نور اتخاذ موقف شخصي من المجموعة من دون الانفصال عنها فعلياً، فتوجه إلى الخرطوم حيث اكتشف في نفسه موهبة أخرى وهي أنه رجل أعمال، فجرب النفط ونجح فيه وحصل من ورائه على ثروة طائلة. قرر العودة مرة أخرى إلى حبه الأول حمل السلاح ضد حليفه السابق ديبى. وبعدما صالح جرفة النظام رفض محاربو التحالف القومي للمقاومة اتباع قائدهم رئيس أركان حرب الجيش القومي التشادي السابق العقيد محمد جرفة لدى عودته لأحضان الوطن. وبعودته وجد نور رفاق السلاح الذين هجرهم أثناء إقامته في السودان. لم يؤثر رحيل جرفة في معنويات نور أو مجموعته التي أعاد تنظيمها تحت اسم"التجمع من اجل الديمقراطية والحرية في تشاد"وأوكل قيادة أركان الحرب للثلاثي المؤلف من: رئيس أركان حرب بشير حمدان العربي الرئيس السابق لمقاطعة ولد زيد في أبو قودام، و قائد عمليات عبدالله قوق ومهندس الكومبيوتر إسماعيل إدريس. وتعود أصول نور ورجاله إلى قبائل التاما والقرعان والداجو والبولالا والهجراي وقبائل أخرى، ويزعم ان قوته تتالف من ثلاثة الاف مقاتل، كما انه كسب ثقة الرئيس السابق حسين هبرى الذى وجه رسالة الى انصاره من منفاه فى السنغال حضهم فيها على اتباع نور ل"قيادة البلاد في المرحلة المقبلة وانتشالها من وهدة الظلم والاحتراب التي رمانا فيها النظام الحالي". ولم تغب عن الضابط الشاب العلاقات مع الشبكات والأفراد الذين يصنعون السلطة ويدمرونها. لذا أقام لنفسه شبكة من الأصدقاء في دائرة الزعماء الأفارقة المسحورين بجرأته، كما تربطه صلات وثيقة مع الخرطوم وطرابلس. ويؤكد نور انه لا يسعى ليكون رئيساً لتشاد ويقول:"نحن لا نسعى للسلطة من أجل السلطة ... وسنقوم بترتيب فترة انتقالية لا تتعدى العام ترأسها شخصية محايدة وجديدة الهدف منها تنظيم انتخابات حرة وشفافة لإصلاح البلاد". وصورة الجيش عند نور هي صورة"جيش قومي خريج المؤسسات الجمهورية. جيش لا يكون له الحق في التصويت ولا يكون له أي دخل بالانتخابات ... وهذا ما يضمن حرية الناخبين وشفافية الانتخابات". لكن مراقبين يعتقدون ان نقطة ضعف نور على رغم امكاناته العسكرية واللوجستية اننتماؤه الى قبيلة صغيرة لم تعرف بالقتال والنفوذ فى المنطقة، كما انه لم يستطع تشكيل تحالف عريض من القبائل وحتى من الذين كانوا يساندون الرئيس ديبى وخرجوا عليه. وتعصف الخلافات بالتحالف المعارض. ولا يخفى بعض قادة التاما رفضهم تولي نور زعامة المعارضة، ويتمسكون بالقائد الاساسى محمد ابو سليك ويعتقدون بأن السطات السودانية تعتقله لاتاحة الفرصة امام نور لفرض سيطرته على المعارضة. يضاف الى ذلك ان نور لم يجد دعما من فرنسا اللاعب الرئيسى فى تشاد، وزاد من تعقيد الوضع ان الولاياتالمتحدة لا تفضل تغييرا فى تشاد حاليا حتى لا تتأثر مصالحها فى المنطقة.