كان رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دو فيلبان لدى زيارته للسودان وتشاد في شباط فبراير 2003 كان حينها وزيراً للخارجية أول من نبه إلى أزمة دارفور، وكانت لا تزال وليدة لم تعرف بعد التعقيد والتدويل الذي تشهده الآن، تتجاوز بعدها المحلي ليمتد تأثرها على الأمن والاستقرار في المنطقة والإقليم بكامله. ولم يكن دو فيلبان، الدبلوماسي والشاعر المثقف القريب من الرئيس جاك شيراك، يرجم بالغيب، لكنه تعامل مع الوضع بحسابات السياسة الدولية المنطلقة من حقيقة أن دارفور جزء من منطقة القارة الأفريقية معروفة بقيمتها الإستراتيجية، وتتقاطع فيها مصالح قوى كبرى، وطالما كانت موضع صراع إرادات دولية وإقليمية. تحذير دو فيلبان كان بمثابة إشارة إنذار مبكر لم يلتقطها صانعو القرار في الخرطوم، ففضلوا مواجهة التمرد الوليد بمنطق انه ليس أكثر من فعل"شذاذ آفاق وقطاع طرق وعصابات نهب مسلحة"لا يجدر أن يتم التعامل معها إلا بحد السيف، وليس جزءا من إستراتيجية تهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة، أو وضع معادلة سياسية جديدة فيها بمشاركة لاعبين جدد. وسرعان ما فوجئ قادة البلاد بأن ما حسبوه شأنا محليا محضا اتخذ بعدا دوليا، فأصدر مجلس الأمن في غضون شهور قليلة أكثر من عشرة قرارات فى شأن الإقليم، وهو ما لم تحظ به قضية الجنوب التي دارت رحى حربها لنصف قرن، فأضحى أمر التدويل واقعا ما من سبيل لدفعه سوى التعامل معه على رغم الأثمان الباهظة التي يتوجب دفعها لقاء ذلك. وهكذا هبطت على الإقليم عشرات الشخصيات السياسية والمسؤولين الدوليين في زيارات متتالية على الإقليم الذي لم معظم المسؤولين السودانيين، وأضحت دارفورمرتعا لآلاف الجنود الأجانب وموظفي المنظمات الدولية. ولأن غلطة الشاطر بألف، وقع حكم الرئيس عمر البشير ضحية القراءة الخاطئة لنذر الأزمة في دارفور، اذ عدها شانا داخليا واستدرج للتعامل معها على هذا الأساس ليقع في المحظور، بعدما أغفل تحليل أن التمرد انطلق سياسيا من عواصم غربية وإقليمية قبل أن يترجم واقعا على الأرض، كما اغفل المسئولون التقاط تنبيه دو فيلبان، وعدوا زيارته أمرا سميا وتصريحاته لغوا، فانشغل صناع السياسة الخارجية برحلته الشهيرة مصطحبا ابنته ذات الخمسة عشر ربيعا لزيارة آثار منطقة البقعة والمصورات فى شمال السودان. وانصب الاهتمام على التعامل مع الأزمة بمنطق ينزع إلى إخمادها بأسرع ما يمكن، حتى لا تفسد أفراح تسوية نيفاشا التي كانت على وشك النضوج بعد مفاوضات طويلة، فضلا عن الخشية من أن يشكل التعامل مع التمرد الوليد بمفاوضات سياسية سابقة اغراء لمناطق أو جماعات أخرى باللجوء إلى التمرد للحصول على مكاسب سياسية. كان إغفال البعدين الإقليمي والدولي ولعبة تقاطع مصالح الأمم كعب أخيل في عملية السلام السودانية، ومرد ذلك أن صانعي القرار لم يقرأوا جيدا ميكانيزمات السياسة الدولية الحالية أو تاريخ الصراع في المنطقة وحولها. لذلك يبدو غريبا بعد كل ما شهدته دارفور من تطورات متلاحقة إن يبدي بعضهم دهشته لآخر حلقات من هذه التطورات، والمتمثلة في الأزمة الحادة التي تشهدها العلاقات التشادية - السودانية التي انزلقت أخيراً إلى حافة الحرب، لأن حصول هذا التطور كان حتميا، وكان الأمر متعلقا فقط بتوقيت حدوثه. تشاد ولعبة الأمم بدأت قيمة الموقع الاستراتيجي لتشاد بالظهور منذ الحرب العالمية الثانية، اذ كانت تشاد أول مستعمرة ترفع علم فرنسا الحرة بعد وقت وجيز من سقوط باريس في يد ألمانيا النازية، ليتخذ الفرنسيون من تشاد قاعدة عسكرية متقدمة في حربهم ضد ألمانيا. فمنها انطلقت حملات الجنرال ليكليرك الشهيرة ضد ألمانيا، وشكلت بحيرتها مركزاً رئيساً لقوات الحلفاء، واتخذ الطيران الأميركي من قاعدة فروت لامي الجوية منطلقاً لدعمه الاستراتيجي لقوات الحلفاء. ولم ترتبط تشاد بالعالم الخارجي فقط بفعل موقعها الاستراتيجي عسكرياً، اذ ان الحياة السياسية التي نشطت فيها بعد نهاية الحرب كانت ذات طابع أممي، فكانت الأحزاب الرئيسة في الواقع فروعاً لأحزاب فرنسية، ولم يكن قادة كل هذه الأحزاب تشاديين في الأصل، حتى أن جبريل ليزيت زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي الذي رأس أول وزارة تشادية عام 1957 لم يكن تشادياً بل ينحدر من جزر الهندالشرقية. وعند استقلال تشاد عام 1960 خلف الفرنسيون نظاماً وثيق الصلة بهم بقيادة فرانسوا تمبلباي الذي سرعان ما اصطدم بالقوة والتنظيمات السياسية المعارضة التي رأت في حكمه نظاماً ديكتاتورياً تهيمن عليه باريس، لتبدأ باللجوء الى مقاومته عسكرياً بعدما قمعها، وليبدأ دخول السودان على خط السياسة الداخلية التشادية. السودان لاعباً في تشاد ففي 22 حزيران يونيو 1966 ولدت في مدينة نيالا السودانية"جبهة التحرير الوطني التشادي"فرولينات التي تشكلت عقب إنعقاد مؤتمر شاركت فيه تنظيمات وأحزاب تشادية شمالية قررت مواجهة نظام تمبلباي عسكرياً. ووجدت جبهة المعارضة التشادية المسلحة دعماً كبيراً من الحكومة السودانية، لم يقتصر على الدعم السياسي، بل تعداه إلى الدعم المادي وتسهيلات بلا حدود من داخل الأراضي السودانية، مكنها من شن حرب عصابات على النقاط الحدودية التشادية والعودة الى قواعدها الخلفية داخل السودان. ولم ينفع نفي الحكومة السودانية وجود أية صلة لها ب"فرولينات"، فكان أن قررت حكومة تمبلباي بعد تردي العلاقات الثنائية تقديم تسهيلات لحركة الأنانيا الأولى وإحتضان العناصر الإنفصالية في جنوب السودان، وأغلقت نجامينا الحدود مع السودان وبلغ التوتر حافة الحرب بين البلدين. ودخلت نيجيريا وسيطاً بين البلدين عام 1968 واتفق على ترتيبات أمنية على الحدود، وعلى حظر السودان دخول قادة"فرولينات"، لكن التوتر بقي مسيطراً على علاقات البلدين حتى سقوط تمبلباي في إنقلاب عسكري دموي قاده كاموجي عبدالقادر وأتى بفليكس مالوم رئيساً لتشاد. استمر البرود يسود علاقات الخرطوم ونجامينا حتى بعد سقوط تمبلباي، وانتشرت عمليات"فرولينات"في مناطق مختلفة من تشاد بخاصة في شمالها، وفشلت جهود ليبية للمصالحة بين الجبهة ومالوم بعد محادثات عقدت في كل من سبها وبنغازي. غير أن الرئيس السودانى السابق جعفر جعفر نميري نجح في إبرام صلح بين الحكومة التشادية والقوات المسلحة الشمالية، أحد أجنحة"فرولينات"بقيادة حسين هبري، وشكلت أول حكومة وحدة وطنية في ايلول سبتمبر 1978 ترأس الدولة فيها مالوم وعين هبري رئيساً للوزراء. وجاءت المصالحة في إطار تحالف ضم نميري ومالوم وهبري ضد ليبيا، واتهم هبري في أول خطاب له رئيساً للوزراء ليبيا ب"العدوان"على تشاد واحتلال شمالها. غير أن قتالاً عنيفاً ما لبث أن إندلع بين قوات مالوم وهبري داخل العاصمة نجامينا، بعدما اتهم الأخير الأول بعدم الوفاء ببنود اتفاق الخرطوم. وتدخلت منظمة الوحدة الأفريقية وعقدت مؤتمر صلح في نيجيريا شارك فيه السودان بفعالية، ونجح في وساطة قادت الى وقف النار في شباط فبراير 1979، وأرسلت قوات حفظ سلام أفريقية إلى تشاد معظمها من النيجيريين. غير أن مؤتمر كانو الثاني الذي رعته المنظمة الأفريقية فشل في تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد معارضة هبري وجوكوني وداي الذي زحف بقواته من الشمال ليسيطر على معظم تشاد محاولة ليبيا ونيجيريا فرض حكومة في نجامينا من"صنعهما". عاد هبري ووداي الى نجامينا وشكلا تحالفاً مع عبد القادر كاموجي الذي خلف مالوم وشكلوا حكومة رفضت المنظمة الاعتراف بها. وشارك السودان ودول الجوار الأخرى في مؤتمر مصالحة جديد عقد في لاغوس في اب أغسطس 1979، وشكلت حكومة وحدة وطنية جديدة ترأسها جوكوني وداي وعين كاموجي نائباً له وهبري وزيراً للدفاع. هبري يزحف من دارفور لم يستتب الأمن طويلاً إذ سرعان ما نشبت حرب جديدة بين حكومة الوحدة الوطنية وقوات هبري استمرت تسعة شهور، وحسم جوكوني وداي المعركة لمصلحته مستعيناً بالقوات الليبية التي دخلت نجامينا. انسحب هبري الى السودان في كانون الاول ديسمبر 1980 واستقر في دارفور حيث استجمع قواته ليبدأ هجوماً معاكساً ضد الوجود الليبي في تشاد بدعم من نميري، الخصم اللدود للقذافي، وضد حكم وداي الذي سرعان ما اختلف مع الليبيين وطالبهم بالانسحاب من تشاد. زحف هبري بقواته من دارفور واقتحم نجامينا في تموز يوليو 1982 لينسحب منها جوكوني وداي بقواته إلى الكاميرون. وكانت أولوية هبري بعد استيلائه على السلطة إخراج الليبيين من شريط اوزو، فيما عاد وداي الى التحالف مع ليبيا قبل ان يختلف مع العقيد القذافي عام 1986 ويأمر قواته بالانضمام إلي هبري من دون شرط. عودة التوتر شهدت العلاقات بين الخرطوم ونجامينا تعاوناً وثيقاً الا انها تراجعت بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت حكم نميري في نيسان ابريل 1985، اذ أثار انزعاج الرئيس التشادي حسين هبري الخصم اللدود لليبيا تدفق آلاف من حنودها إلي إقليم دارفور في ما عرف ب"الفيلق الإسلامي"الذي انتهز فرصة سقوط نميري الخصم اللدود الآخر للقذافي. وحاولت تشاد عبثاً تحذير الحكومة السودانية إبان حكم عبد الرحمن سوار الدهب إلى خطورة الوجود العسكري الليبي في دارفور على أمنها القومي، وطالبت بإبعاده من الأراضي السودانية ولم يسعف الزمن والظروف الحكومة الانتقالية لتتخذ موقفاً حازماً من الأمر، وزاد الطين بالنسبة لتشاد بله وصول الصادق المهدي الوثيق الصلة بليبيا إلى الحكم في الخرطوم عام 1986 ليبدأ أسوأ فصول العلاقات بين البلدين. حاولت حكومة المهدي بداية التجاوب مع المخاوف التشادية فطلبت بشكل غير حاسم من ليبيا سحب وجودها العسكري من دارفور وهو ما لم تستجب الاخيرة له، وقام بوساطة بين نجامينا وطرابلس ولكنها لم تنجح. وراوحت العلاقات بين البلدين مكانها حتى فاجأ المهدي تشاد بتصريح في كانون الاول ديسمبر 1987 أعلن فيه أن شريط اوزو المتنازع عليه بين تشاد وليبيا ارض عربية ليبية، ورد عليه هبري ناصحاً بعدم"اللعب بالنار". بدأت ليبيا وحكومة المهدي دعم معارضين تشاديين في فصائل متعددة في"فرولينات"انطلاقاً من دارفور، ووصلت العلاقات إلى نقطة اللاعودة عندما لجأ إدريس ديبي إلى دارفور عقب محاولة انقلابية فاشلة ضد هبري قادها مع حسن جاموس في نيسان 1989. لم يسكت هبري بالطبع على تحركات معارضيه وحلفائهم في السودان وليبيا، فقرر إثارة القلاقل أمام حكومة المهدي وعمل على تغذية ظاهرة النهب المسلح في دارفور التي كانت مصدر قلق كبير بعد انتشارها في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي. كما مارس اللعبة نفسها التي مارسها تمبلباي في دعم متمردي الجنوب في حركة الانانيا الأولى، فمد صلاته مع"الحركة الشعبية لتحرير السودان"بزعامة جون قرنق، وزار وفد كبير من الحركة نجامينا عام 1988. واتجهت الأمور نحو مزيد من التدهور عندما اتهمت تشاد كلا من السودان وليبيا في ايار مايو 1989 بالتحضير لغزوها. "الإنقاذ": انفراج موقت تنفس الرئيس حسين هبري الصعداء عندما أطاح انقلاب الرئيس عمر البشير حكومة المهدي، وبدأت العلاقات تشهد نوعاً من الدفء بعد تراجع الخطر الوشيك الذي كانت تشكله ليبيا على تشاد انطلاقاً من السودان. لكن بقيت مشكلة وجود المعارضة التشادية في دارفور مصدر قلق وإزعاج لهبري، وعادت الأمور للتوتر مجددا بعد هجوم شنته قوات المعارضة التي يقودها إدريس ديبي في اذار 1990 على بلدة الطينة التشادية، وعاد هبري الى اتهام الخرطوم ب"التبعية"لطرابلس وحكومة البشير بالتواطؤ مع القذافي لغزو تشاد. أدركت الخرطوم أن دارفور ستتحول في ظل وجود المعارضة المسلحة ساحة لتصفية الحسابات التشادية المعقدة، فطلبت من ديبي نقل نشاطه إلى داخل الأراضي التشادية لتخفيف الضغط الشديد الذي تعرضت له. وبالفعل غادر ديبي دارفور مع قواته في تشرين الثانى نوفمبر 1990، وفتح أمامه الطريق إلى نجامينا عندما سجل انتصاراً ساحقاً على قوات هبري في معركة فاصلة في منطقة بوردبا شرق تشاد قرب الحدود السودانية، ليصل في غضون أيام إلى العاصمة. بسقوط حكم هبري واستقرار الوضع للرئيس إدريس ديبي شهدت العلاقات التشادية - السودانية التشادية فترة من الوئام كانت الأطول في تاريخ العلاقات بين البلدين. ولأن دوام الصفاء في عالم السياسة والسلطة من المحال، عاد الخصام ليطل برأسه بعد انقلاب المعادلة السياسية في المنطقة. فبعدما كان السودان ساحة ومنطلقا للتغيير في تشاد، انعكس الوضع، وبات المطلوب هذه المرة تغيير المعادلة في الخرطوم، ليولد التمرد في دارفور بدعم تشادي.