نشر أحمد شوقي 1868 - 1932 الطبعة الأولى من ديوانه"الشوقيات"سنة 1898، وكتب لها مقدمة مستفيضة، تحدث فيها عن نشأته وأصوله وأطوار تعليمه وعلاقته بالأسرة العلوية الحاكمة إسماعيل، توفيق، عباس الثاني وتعليمه في فرنسا على نفقة الخديوي توفيق الذي عينه في الدائرة السنية، ورعاه بصفته شاعراً وواحداً من الشباب الواعدين الذين تفتح وعيهم في خدمة الأسرة العلوية، وظل محافظاً على انتمائه لها، ابتداء من بيته:"شاعر العزيز وما / بالقليل ذا اللقب". وليس انتهاء ببيته:"أأخون إسماعيل في أبنائه / ولقد ولدت بباب إسماعيلا". ولم يترك شوقي الأسرة العلوية التي دان لها بالولاء الذي لم يتحول عنها إلا بعد عودته من منفاه في الأندلس، وذلك بعد أن عزل الإنكليز راعيه المحب الخديوي عباس الثاني، ووضعوا مكانه السلطان حسين كامل، ونفوا شوقي مثل أميره الذي قرَّبه إليه كل القرب، وظل شوقي في المنفى سنوات عدَّة إلى أن تغير الموقف السياسي، وانتهت الحرب، وتبدلت القوى السياسية مع ثورة 1919 التي كانت عاملاً غير مباشر في عودة شوقي من منفاه الأندلسي. وهي العودة التي اقترنت بانفتاح وعيه على القوى الشعبية الصاعدة التي أخذ يميل إليها ويقترب منها، ويستبدل الولاء لها بولائه القديم للأسرة العلوية التي لم يقطع كل حبال الود الموصول بينه وبينها. وما يعنيني من المقدمة المستفيضة التي كتبها أحمد شوقي من"الشوقيات"الأولى هو موقفه التجديدي من الشعر وانطوائه على مبدأ الرغبة في التحرر من القديم الموروث بقيمه التي حصرت أكثر الشعر العربي في غرض المديح بالدرجة الأولى. ويثور شوقي الشاب على هذا الوضع، خارجاً على التقاليد الشعرية التراثية التي تعلمها على يدي الشيخ حسين المرصفي صاحب"الوسيلة الأدبية"وأستاذ البارودي قبله، ويدي الشيخ محمد البسيوني البيتاني الذي كان أستاذاً من أساتذته في مدرسة الحقوق. وجنح إلى أفق جديد من فهم الشعر الذي لم يعد مديحاً أو هجاء، بل أصبح قرين التأمل في الكون، والتقاط مغزاه في لغة ترى المطلق في حبة من الرمل. ولذلك أكد الثائر المتولد في شوقي الشاب المفعم بمبدأ الرغبة مؤكداً"أن إنزال الشعر منزلة حرفة تقوم بالمدح ولا تقوم بغيره تجزئة يجلُّ عنها، ويتبرأ الشعراء منها". ويذهب إلى أن الشعراء ما وجدوا إلا ليتغنوا بالكون الذي يدعوهم إلى التفنن بوصفه، ذاهبين في ذلك كل مذهب، آخذين منه بكل نصيب. فالشاعر - عند أحمد شوقي - هو"من وقف بين الثريا والثرى، يقلِّب إحدى عينيه في الذَّر ويجيل أخرى في الذُرى، يأسر الطير ويطلقه، ويكلم الجماد وينطقه، ويقف على النبات وقفة الطلِّ، ويمر بالعراء مرور الوبل...". وبعيداً من اللغة المسجوعة التي كانت مألوفة في نهاية القرن التاسع عشر، فالأسطر السابقة تنطق نبرة التمرد على الطرائق القديمة، ولا تخلو من التأثر بالوسط الثقافي والإبداعي الذي أخذ شوقي يتفاعل معه أثناء إقامته في فرنسا... ولذلك يؤكد شوقي الشاب أن من الغبن على الشعر والعرب أن يحيا المتنبي مثلاً حياته العالية التي بلغ فيها إلى أقصى الشباب، ثم يموت عن نحو مئتي صحيفة من الشعر، تسعة أعشارها لممدوحيه والعشر الباقي وهو الحكمة والوصف للناس. ويؤكد شوقي أن إقامته في أوروبا قد أضاءت له نور السبيل، وعلَّمه اطلاعه على آدابها أنه مسؤول عن تلك الهبة السماوية التي لا يمكن إيفاء حقها إلا بمشاطرة الناس خيراتها، وأول ذلك هو جعل الكون المدى الفسيح الذي ينطلق فيه الشاعر، راصداً ومصوراً، ومرتحلاً بخياله فيه. وهي كلمات لا تختلف كثيراً عما ذهب إليه شكسبير... وينطلق شوقي الشاب في التجديد الشعري، متأثراً بقراءاته، فينظم حكايات على أسلوب لافونتين وترجم قصيدة"البحيرة"الشهيرة التي كتبها لامرتين والتي رآها آية من آيات الفصاحة الفرنسية. وأضاف إلى ذلك الدخول إلى المسرح الشعري على نحو ما عرف وشاهد من مسرحيات كورناي وراسين أو مترجمات شكسبير، فكتب مسرحية"علي بك أو فيما هي دولة المماليك"معتمداً في وضع حوادثها على أقوال الثقات من المؤرخين الذين رأوا ثم كتبوا في ما يقول، وماضياً في درب المسرح التاريخي الذي قرأه وشاهده، وبعث بها - قبل التمثيل بالطبع - إلى رشدي باشا ليعرضها على الخديوي، فورده كتاب منه بالفرنسية يبلغه بأن الجناب العالي"تفكّه بقراءتها"ويدعو له بالمزيد من النجاح، ولكن من دون حماسة للأمر بتمثيلها، فبقيت المسرحية مخطوطة لم ينشرها شوقي إلا بعد سنوات عدة، وبعد تغير المشهد الثقافي في بلده، وازدهار فن المسرح، الأمر الذي دفعه إلى إعادة كتابة المخطوطة القديمة وإخراجها مع بقية مسرحياته الشعرية، مثل:"مجنون ليلى"وپ"مصرع كليوباترة"وپ"عنترة"وغيرها. أما قصيدة"البحيرة"فلم يأته تعليق عليها، وضاعت مخطوطتها الأولى والوحيدة. وكانت المدائح الخديوية تنشر يومئذ في الجريدة الرسمية، وكان يحررها في ذلك الوقت الشيخ عبدالكريم سلمان، فدُفعت القصيدة إليه، وطُلِب منه أن يسقط الغزل وينشر المدح، فودَّ الشيخ لو أسقط المديح ونشر الغزل، ثم كانت النتيجة أن القصيدة برمتها لم تنشر، فلما بلغ شوقي الخبر في مقامه الباريسي ازداد يقيناً بضرورة الاحتراس من المفاجأة بالشعر الجديد دفعة واحدة، وأن الزلل حليفه إذا استعجل المضي في خطوات التجديد، وتيقن من المعنى الذي صاغه شعراً:"إن الأراقم لا يُطاق لقاؤها / وتُنالُ من خلف بأطراف اليد". وخفت توهج مبدأ الرغبة ليحل محله مبدأ الواقع، وتتحول جذرية الرغبة في التجديد إلى نزعة إصلاح تلوذ بالوسطية التي ترضي الأطراف المتناقضة، ولا تغضب أحداً، أو تصدم فريقاً أو تياراً. ويبدو أن هذا هو السبب الذي جعل شوقي، في مقامه الباريسي، يقتصر على الأدباء الفرنسيين الذين أصبحوا من الكلاسيكيين بمعنى أو غيره، أي الأدباء الذين ترسخت مكانتهم، وأصبحت أقرب إلى المأثور الأدبي، وذلك من طراز فيكتور هوغو الذي كان شوقي قد تأثر بشعره التاريخي في ديوان"أساطير القرون"1859 فحاول أن يصوغ تاريخه الوطني شعراً في قصيدته"كبار الحوادث في وادي النيل"التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين الذي عقد عام 1894. أما من عاصرهم في فرنسا أو من ترددت أصداؤهم من المجددين الجذريين في الشعر الفرنسي، أمثال مالارميه وفرلين ورامبو وقبلهم جيرار دي نيرفال وبودلير فظلوا بعيدين من اهتمامات أحمد شوقي الذي تعلم درسه مبكراً، وأدرك أنه شاعر القصر الذي يفرض عليه موقعه المحافظة، والعودة إلى فلك المديح وغيره من الأغراض القديمة، لا يفارقها إلا بقدر وحذر، منطوياً على الاحترام الجم للتقاليد التي جعلته يكثر من المعارضات ويستبدل بشعراء الغرب شعراء ميراثه من صناع التقاليد التي أصبح واحداً منها، وعموداً من أعمدتها التي كان على المجددين من جيل ثورة 1919 الثورة عليها وتقويض دعائمها. ولا يختلف الدرس الذي تعلمه شوقي، في التحليل الأخير، عن الدرس الذي تعلمه سلفه الشيخ محمد عبده 1849 - 1905 الذي ينتسب إلى الجيل السابق عليه، والذي قادته الاندفاعة الوطنية الحماسية، والحلم بدولة برلمانية، إلى الاشتراك مع العرابيين الثائرين على تسلط الخديوي توفيق وحكمه الاستبدادي، ولم يكن قد بلغ الأربعين من عمره حين أصبح إمام الثائرين، مندفعاً معهم إلى أحلام ثورية بالتغيير الجذري، ولكن بعد أن فشلت الثورة، وانتهت محاكمة قادتها، ونفي الشيخ إلى الشام. وعندئذ، تعلم إمام الثائرين درسه الموازي، وانقلب من الجذرية إلى الإصلاح. ولم يكن أمامه مفر - والوضع كذلك - من الاصطدام بأستاذه جمال الدين الأفغاني في النهاية، على رغم أنه اشترك معه في تحرير"العروة الوثقى"التي أصدرها الأفغاني من باريس. وعندما كان يضيق بتعقل محمد عبده الذي تزايد كان يثور عليه، مردداً الجملة الشهيرة:"إنما أنت مثبط". وهي جملة لم تفلح إلا في زيادة تمسك محمد عبده بتعقله ونزعته الإصلاحية. والفارق ما بين محمد عبده في توقد اندفاعة العرابيين الذين جعلوه"إمام الثائرين"ومحمد عبده، ما بعد المنفى، هو الفارق ما بين التمرد والتخلي عنه، أو ما بين الجذرية التي تقترن بمبدأ الرغبة والإصلاح الذي لا يتنكر لمبدأ الواقع، بل يقبله، بحثاً عن طرق آمنة لتحقيق أحلام الإصلاح. وكانت النتيجة - في النهاية - حسن العلاقة بين الشيخ الذي تعلم الاعتدال وصار من دعاته واللورد كرومر المعتمد البريطانى الذي أصبح الحاكم الفعلي للوطن المحتل، والخديوي الذي لم يجاوز بأفقه مدى الوطن المحتل. وتتابعت خطى الاعتدال التي انتهت بتعيين"إمام الثوار"القديم في منصب مفتي الديار المصرية الذي أصبح لقبه"الإمام محمد عبده". وقد تحول إلى مصلح متعقل بذل جهده في إصلاح الأزهر، وإشاعة أفكاره عن ضرورة إصلاح التعليم، ومحاربة الجمود الاعتقادي والتعصب الديني، وداعية إلى إنشاء الجامعة التي مات قبل افتتاحها بسنوات قليلة، فأصبح رمزاً من رموز الاستنارة وعلامة على التعقل الذي يتجسد في أفعاله معنى بيت أحمد شوقي:"إن الأراقم لا يطاق لقاؤها/ وتنال من خلف بأطراف اليد". ولذلك مدحه أحمد شوقي بقصيدة دالة حين ردَّ على جبرائيل هانوتو الذي تهجم على الإسلام، ونشر الرد في جريدة"المؤيد"خلال شهر نيسان أبريل عام 1900. وكانت القصيدة تكريماً ومديحاً للأستاذ الإمام فيما قالت الجريدة التي أشارت إلى شوقي بالكناية، وليس بالتصريح. وعندما توفي"الإمام المصلح"عام 1905 رثاه شوقي. وأتصور أن الخلاف سيظل قائماً بين الذين يؤثرون نزعة الإصلاح التي آثرها الإمام محمد عبده والشاعر أحمد شوقي، مراعاة لمبدأ الواقع بضغوطه وشروطه، ونزعة التمرد الجذري المقترنة بالثورة الشاملة على الأوضاع المعوجة، تجسيداً لمبدأ الرغبة الذي يندفع إلى أقصى مدى لتحقيق حلم الثورة الجذرية، أو الثورة الأبدية، إذا استخدمنا لغة أحد أبطال نجيب محفوظ المنتمي إلى الجيل الأخير من أجيال"الثلاثية". وهي لغة تعود بنا إلى الشروط المتكررة التي تحيل التمرد الجذري إلى إصلاح متعقل يغدو نمطاً متكرراً بدوره في تاريخنا الثقافي إلى اليوم.