1 نهايةُ القرن العشرين. أكثرُ من قرن، إذنْ، على انطلاق حقبةٍ جديدة في تاريخ الشعر العربي، الذي تبعدُ عنا الآن قصائدهُ الأولى حوالي ثمانيةَ عشر قرناً. ليست النهاياتُ الزمنيةُ نهاية القرن هي ما يدعو الى اعادة النظر، بقدْر ما تكون نهايةُ الأفكار هي الدافع الأساس. مع ذلك نسْتشيرُ الزّمن، أحياناً، لكيْ نتأملَ، نهايةُ القرن العشرين، حُجّةٌ لوصْل ما هُوَ فكْريّ بما هو زمنّي، من أجل قراءة اسْترجَاعيّة، لقرن محْمُوم، تُذكِّر أو تَستبصِرُ. وهُما معاً يفسحان في وقفة، تأملية. اعتمد الخطابُ النقديّ العربيّ وغير العربي، الاستشراقي تسميةَ الحقْبة الشعرية الجديدة التي افتَتحها محمود سامي البارودي، بحركةِ النّهضة أو البعْث أو الانبعاث أو الكْلاَسِيكيْة. وكنتُ في عملي عن "الشعر العربي الحديث - بنياتُه وابدالاتُها" 1989 - 1991 نبّهْتُ على سُلطة التسمية، فيما نبّهتُ على عدم صلاحية التّسميات المتداولة عن الحقْبة الشعرية الجديدة. فهذه التسمياتُ، جميعُها، ذاتُ مرجعيّة غربيّة، فرنسيةٍ بالدرجة الأولى. بهذه التسميات نتخيْلُ أوضاعاً لم يعرفها هذا الشعرُ، كما لمْ تعرفها الثقافةُ العربيّة. قمتُ بإعادة النظر في التّسمية كمدْخل لإعادة النظرِ في المشروع الشعري العربي الحديث برُمّته. اقترحتُ التقليدية. انها التسميةُ التي تقتربُ أكثر، برأيي، من حقْبة شعرية، كانت مسكونةً بطيْف الماضي الواحِد والمُوحَّد. كلُّ التسميات المُستجلَبة من النموذج الفرنسي تتخيّلُ أن التقليدية العربيةَ هي نفسُها الكلاسيكية الفرنسية التي كان لها ساقٌ ثقافيٌّ مختلف تماماً، من حيث المرجعيةُ النظريّةُ أو المشروعُ الشعريُّ الخاص. فالتقليديةُ، بالنسبة للعرب، كانت تصدر عن سياق ثقافي له تاريخُه القديم، وله تقاليدُه الشعريّةُ وخصيصتُه الأنطولوجية. وقد جعل ابن منظور من "مُقلَّدات الشعر البَواقِي علَى الدّهْر". هذه القصائد ذات القِلادَة، هي التي أصبحت نموذجاً للتّقْلِيد، الذي يهدف حسب ميشيل فوكو إلَى "منْح مجموعةٍ من الظَّواهر المتعاقِبَة والمتماثلة أو على الأقل المُتشَابهة وضعاً زمنيّاً واحداً وفريداً". مقابلَ تعدُّد النماذج الشعرية العربية، يُفضّل التقليديُّ أن ينتخب الوحدةَ، ذات الأصل الواحد. المُوحِّد. بهذا المنظور الاستمراري، يمارس الشاعرُ التقليديُّ قراءةَ الشعر العربي القديم في قصيدته، التي تحلم بالعودة الى الأصل السابق عليها ضامنة بذلك استمراريتها تبعاً للنبوغ الشخصي للشّاعر، معْياراً أحادياً للوعي الشعري. ذلك هو طيفُ الماضي. منْ معَاني الطيف عند ابن منظور الخيالُ والجنُون. قراءةٌ خيالية تتخلى عن الواقعِّي، التاريخيِّ، الملموس، في القصيدة العربية التي كانت لها انفصالاتُها كما كانت لها انقطاعاتُها، من المنظور الجمالي الى المصدر الثقافي. وهي أيضاً قراءةٌ مجنونَة لأنها لا تميِّزُ بين الواقعي والخيالي. انتخبت نموذجاً للماضي وألبستْهُ أثوابَ جميع القصائِد، أو بالأحرى ألبستِ الشعرَ العربيَّ القديمَ بذْلةً واحدة. هي التي قامت هذه القراءة بخِياطَتِها. 2 بالتقليدية تستقل هذه الحقبةُ الشعريّةُ عن الشعر العربي القديم. هناك فرقٌ بين الشعرين، بخلاف ما كانت تتوهّمُه الحقْبَةُ التقليدية. ما علينا أن نشير اليه هو أن التقليدية جاءت بمنظور ينْزَوِي عن المنظورات الشعرية المتعددة في القديم الشعري. ثمةَ عناصر شعريّة مهيْمِنَة في الشعر العربي القديم تمَلّكَتْها التقليدية، على أن النسقَ الشعري يقودُ القصيدة نحو مسار آخر. انها حركة تحديثية، ذاتُ نُزوع واضح نحو إنجاز قصيدة عربية لها مبادىءُ نظريّة كنْتُ لخّصْتُها في التقدم والنبوة والحقيقة والخيال. وهذه المبادىء هي التي أعطت القصيدة التقليدية نسقاً تستقل به وتنفصلُ عن القصيدة القديمة، التي لم تكن تعرف، مثلاً، ما معنى التقدّم. ان التقدم فكرة أوروبية حديثة، متصلة بحركة الأنوار، وهي أحد المُنطلقات النظرية لحركة الحداثة الغربية: بإعادة النظر نُراجع الوقَائع، أيضاً، لقد كانت الحركةُ الثقافية في مصر تستند الى بنياتٍ جديدة، لم تكن مناطقُ عربية أخرى متوفرةً عليْها. أقصد، هنا، البنيات المتعلقة بإنشاء مركز ثقافي. والوقائع تقدم لنا معطيين: المعطى الأول: يتمثّل في أن التقليدية لم تكن النموذجَ الشعريَّ الوحيدَ المقترحَ لتحديث الشعر العربي. لقد سعى اللبنانيون الى نماذج تحديثية مختلفة، من بينها نموذجان منسيان. كان أمين الريحاني يقدم نموذج قصيدة النثر، متأثراً بوالْتْ ويتْمَان" أما سُليمان البستاني فقد اتجه صوبَ دمْج الشعر العربي في الحركة الشعرية الأوروبية، من خلال المقدمة الموسعة التي كتبها لترجمة "الإلياذة" حيث يعبِّر، بصيغة غير مباشرة، عنْ أن مُستقبَل الشعر العربي يجب أن يندرجَ ضمن الحركة الشعرية الأوروبية، بخصائص عربية. يتباينُ النموذجَان، وهُما مع ذلك ظلاَّ على الهامش، باستمرار، في التأمل والتحليل، رغم أن القاهرة كانت قريبةً منهما. المعطى الثاني: يتعلق بنسيان الوضعية الشعرية في المغرب ومُوريتَانْيَا التي كانت نْيَا آنذاك أرضاً مغربية. لقد فطن عبدالله كنون، في مقدمته لكتاب "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، الى أن بعثَ الشعر العربي من جديد لا معنى له في المغرب، الذي لم يكُن خاضعاً للاستعمار التركي، ولا كان تابعاً للخلافة العثمانية. ان اللغة العربية ظلتْ حاضرةً في المغرب، عكْسَ ما كانت البلاد العربية الأخرى، الخاضعة للسلطة العثمانية، تعيشُه من تتْريك لغويٍّ، يُبعد العرب عن لغتهم ويُفْسِدُها. نموذج المغرب الأقصى متفاعلٌ مع الواقع الشعري في موريتانْيَا، لكن الوعي الموريتاني بمسألة التحديث الشعري، كما جاءت في مصر، على يد التقليديين، ظهر متأخراً عما تحقّق لدى عبدالله كنون، في بداية الثَّلاثينيات. لا أعرف باحثاً طرح المسألة قبل الباحث الموريتاني أحمد ولد الحسن. انه أولُ موريتاني يتناول التأريخ لحركة التحديث بالنقد، تُحمِّسهُ مقالةٌ في الموضوع ذاته، كان نشرها المصري طه الحاجري عن الشعر الموريتاني، في مجلة "العربي" عدد أكتوبر 1967. فأحمد ولد الحسن يرى أن الشعر الشنقيطي، في القرن الثالث عشر، كان أسبقَ في تحديث الشعر العربي، من خلال الشاعر بن الطلبة، الذي يقول عنه "نحنُ لا نملك أمام هذه الأحكام ]الخاصة بالبارودي وشعر النهضة[ إلاَّ أن نذكّر بمعطيات تاريخية أولية، منها أن ابن الطلبة اليعقوبي محيي الشعر الجاهلي ومعارض الأعشى وعبيد والشماخ، قد وُلِدَ سنة 1774، أي قبل البارودي بأربع وستين سنة وتوفي سنة 1856، والبارودي ابن ثمان عشرة سنة، وذلك قبل ميلاد أحمد شوقي بثلاث عشرة سنة". نموذجان متباينان كذلك. لأن المُنْطَلق النظريَّ لعبدالله كنون، في تحديد التحديث الشعري هو اللغةُ، وهو يعتمد حضورَ العربية في المغرب في فترة لم تكن تتمتع بالحرية ذاتها في البلاد العربية التي تعرضت للتّتْريك. أما أحمد ولد الحسن فإنه حصَر التقليدية في إحياء الشعر الجاهلي من خلال المعارضات الشعرية. هذا المعطى الثاني، الخاص بالمغرب وموريتانيا، أصبحَ تأملُه شرطاًَ معرفياً، ان نحن كُنّا نقبل بمبدأ الثقافة العربية، التي هي ثقافة مُوزّعَة عبر بلاد وأقطار. وليست في مِلْكيَةِ منطقة أو جهة دون أخرى. إلغاءُ هذا المُعْطَى إلغاءٌ لتصور العروبة ذاته. والتأمل يستند الى أسس نظرية، سابقة على غيرها، أكانت وطنية أو إيديولوجية. لن نتهرّبَ من ذلك، ولو بالإشارة. ان تحديد عبدالله كنون يؤكّد أن الحقبة الشعرية التي افتتحها محمود سامي البارودي هي حقبةُ التقليد لا الإحياء. فلا معنىً للقول بإحياء ما كان حيّاً. أما اختصار هذه الحقبة، كما لدى أحمد ولد الحسن، في إحياء الشعر الجاهلي ومعارضة الشعراء الجاهليين فهو بعيدٌ عن إدراك طبيعة النّسَق الشعري الذي حاولتُ إثارتَه، سابقاً، وبه أميّزُ هذه الحقبةَ عن غيرها. ان رؤية أحمد ولد الحسن، تَطْمئنُّ الى مفهوم الاستمرارية والعودة الى الأصل، وتُلْغِي التاريخ، الذي كان العنصرَ المُبدِّلَ للنسق الشعري من القديم الى التقليد. وموقفهُ ينسجم مع التقليدية، لأنه صادرٌ عن قراءة أسلوبية تكتفي بالعناصر المعزُولة، وبإلغاء البنية العميقة حسب تشومسكي للعمل الشعري. 3 وقائع الشعر العربي في القرن التاسع عشر ليست متماثلة. ثم ان هذا الشعر لم ينطلق من منظور موحَّد في التحديث، بعكس ما كانت عليه حركةُ التحديث الأوروبية. بدلاً من المقارنة بين النموذجين العربي والغربي، أنظرُ الى الطرائق التحديثية في الإمبراطوريات الشعرية الباذخة، في آسيا. الصينواليابانوالهند وإيران. هذه الإمبراطوريات كان لها ما تلتقي به مع الشعر العربيِّ، بل مع التاريخ العربي الحديث. أقصدُ اكْتشاف هذه البلاد للغرب، حضارةً واستعماراً، واستجلابَ نماذج التحديث الغربية بما فيها الحقلُ الشعريُّ، الذي كان انغلاقُه رمزاً لذاتٍ لا تُستبدَلُ ولا تُعوَّض. التوجُّهُ الى الإمبراطوريات الشعرية الباذخة قلبٌ للرؤية، قلبٌ يذهب الى زاوية أخرى للنظر، مختلفة عما كنا متعوِّدين عليه. وهو يُفيدنا لا في المقارنات، التي تجعل من النموذج الغربي معياراً للقراءة، وفي ضوئه نكون أوْ لاَ نكون، بل في اعتماد معيار يستبطن الحركةَ الشعريّةَ، في مناطق كان لها مجدُها الشعريُّ ثم أفاقت على وعي غربي، له التحرر بقدر ما له مبادىء نظرية تنقل الشعر من حالة المؤسسة الجماعية لقيم الذوْق والحساسيْة الى حالة الذاتيّ، الشخْصيِّ، لهذه القيم، وهي ترصدُ للشَّاعر مصيراً يصبح فيه وجهاً لوجه مع العالَم. الشعرية العربية القديمة شعريات. لم تكن الرؤيةُ العربية للشعر متجانسةً، على الدوام. فالتاريخ الثقافيُّ، المتعدّد، منَحنَا بدوره شعريات متعددة، منها ما يكتفي بالمبادىء الجمالية التي استقاها من قراءته للقديم، ومنها ما اعْتَبر اللقاءَ مع مبادىء الشعريات الأخرى، وخاصة اليونانية، مصدرَ بناء تصوُّر مختلف للشعر والشاعر معاً. ان خرائط العالم تغيّرت، منذ بداية الحملات الاستكشافية والاستعمارية. وخريطة الشعر، في زمننا، لا بدَّ لهَا، بدورها، أن تتعرّف على تجارب شعرية تضيف الى الرؤية بُعداً آخر، يحرّرُنا من اختزال الأوضاع الشعرية في العالم الى ما هو غربي بمفرده. بهذا المنظور نرى الى امكانية قراءة حقْبة التقليدية، في ضوء التحديث الشعري في المناطق الحضارية ذات الإمبراطوريات الشعرية الباذخة بآسيا، أي تلك التي لها الأسئلة ذاتها التي للشعر العربي، وهي تُفاجَأ بغرب شعري حديث لم تكن مُهيأةً لاقتحامه. لم تعرف حركات التحديث في الصين أو اليابان أو ايران أو الهند نموذجاً واحداً. لكن حركةَ التحديث في حقبة التقليدية، بالنسبة للعالم العربي، تظل متميزةً عن غيرها. انها تُخضع الماضي المتعددَ الى ماضٍ واحد، مُوحَّد. ذلك هو الطيّفُ. الخيالُ والجنُون. دون أن يكون للخيال ولا للجنون مكانٌ في بناء القصيدة ولا في منظورها الجمالي. وهذه الخصيصة هي التي أرغمت التقليدية على نفي الشعرية العربية فيما هي تتوهم، بخيالها وجنونها، أنها تستعيدُ الصِّلةَ مع الأصل وتُؤصِّلُه، في استمرارية يضْمَنُها الشاعر النّابِغَةُ، النبيُّ، الناطقْ بالحقيقة، على هذا النحو كانت العودة الى الماضي طلباً لاسترْقَاقِ الماضي، وإخضاعِ العربيِّ الى ماضٍ لم يكن له وجود في التاريخ العيني، الملموس. إنه الماضي بدون المَاضي. هيكلٌ عظميٌّ. معجمٌ. وأوزانٌ. ذاكرةٌ مجرَدة. فقط. بذلك يصبح الماضي إيديولوجيّاً، يُنكر الماضي بإنكاره للتاريخي، الذي هو إنكارٌ للحاضر والمستقبل. 4 كان النقاد ومؤرخو الشعر، قبل الشعراء، الرّاسِمين لصورة التقليدية، كحركة شعرية ذات سلالة، أبُوها الرمزي هو محمود سامي البارودي. أما الشعراء فلم يلتَفِتُوا الى اتْقَانِ طُقوس إعلان السلالة بنفس الحماس النظري للنقاد والمؤرخين. ان شوقي، مثلاً، لا يقدّم البارودي عليه، ولا يعتبره أباً رمزيّاً. يتحدث شوقي عن البارودي، في رسالة وجهها، بتاريخ 2 تموز يوليو 1923، الى الدكتور محمد صبري تحية على اهدائه نسخة من الدراسة التي وضعها صبري عن البارودي، كما يلي: "جاورتُه بحلوان الشهورَ الطوال، يشد بيتيْنا طنب، وينتظم داريْنا جدار، فإذا الجارُ كريم، وإذا الشاعر عظيم، ما سمعتُه مرةً عرَضَ شعْرَه على جلسائه، ولا رايتُه إلاّ سقيماً من الحَياء كلما عُرض عليه شعرُه". هذه الشهادة الوحيدةُ لشوقي عن البارودي توضّح كيف أن العلاقة بين الشاعرين كانت علاقة جوارٍ وما يلزمه من تبادل الاحترام، كقيمةٍ أخلاقية. ان البارودي شاعرٌ عظيمٌ، في رأي شوقي، ولكن هذه العظَمة لا أثرَ لها في تكوين شوقي ولا ذوقه الشعري أو اختياره الجمالي. فالمقدّمة، التي خصَّ بها شوقي المجلد الأول من الشوقيات، سنة 1898، لا تشيرُ الى البارودي ولا الى من هو سابق عليه كسُلاَلَة شعرية. لربما كان علينا، في سياق كهذا، أن نلاحظ العلاقات السلالية بين الشعراء العرب الحديثين، على امتداد القرن. انها غريبةٌ عن وضوح الانتماء الى السلالات الشعرية كما لدى الشعراء العرب القدماء. كل شاعر حديث مُفْرَدٌ ومتفرّدٌ. يأتي من أفق شعري مختلف، حسب القوانين الداخلية للإبدالات الشعرية، ثم بحسب تعامل الشاعر الحديث مع ذَاتِه، الذي هو تعاملُ من لا يسْتَسيغُ سابقاً عليها ولا لاَحقاً له. ولكن ملاحظةَ هذه العلاقة بين شوقي والبارودي تكتسي أهميةً مضاعفَة. لم نقرأ، بالمقابل شيئاً للبارودي عن اللاحقين له. وقد يكون للمنْفَى، وللثورة العُرابية، أثرٌ في ذلك. وهي نقطة ما تزال غامضةً، ولا علْم لي بمنْ يمكن أن يكون تناولَها بالدرس والتأريخ. كان حفلُ الإمارة، المخصّص لشوقي، مناسبة لاعتراف شعراء العديد من البلاد العربية بشاعريته مثلَ المغرب في هذا الاحتفال الشاعرُ محمد غَرِّيط، ولا نعرف بالضبط كيف تمت الدعوةُ ولا كيف تم اختيارُ الشاعر محمّد غَرّيط. ان الإمارة الشعرية تقليدٌ غير عربي. وله نفحةٌ فرنْسيّة. واستحداثُ هذا المقام الرمزي، في قاهرة العشرينيات سنة 1927 لم يوضِّح مسألة السلالة الشعرية للتقليدية. قد تبدُو إثارةُ هذه النقطة هامشيةً جدّاً، ولا تكتسب أيَّ دلالة في اعادة بناء التقليدية، ومع ذلك فإن الهامشِيَّ، واللامفكرَ فيه يملكُ من طاقات التأمل والتحليل ما لا نقدرُ على التكهُّن بنتائجه. إذن، لم يكن للتقليدية سلالةٌ شعرية حديثة. وهذا يفيدنا أن السلالة هي الماضي الواحِدُ والمُوحَّد. فالشاعر التقليدي لم يدرك انفصالَه عن الأقدمين، ولم يستطيع أن يتخيّل زمناً شعريّاً متبدّلاً عن الأزمنة الماضية. في الماضي وحده، توجد الحقيقةُ الشعريّة. هناك. في الزمن الدائري، العائدِ الى الوراء، كمستقبل شعري، يتخيل الشاعرُ التقليديُّ وجودَه بين السابقين، لا كَسابقِين، ولكن كشعراء نوابغ، وهو أحدُ النّوابغ في "السلسلة الذهبية". لم يكن ذلك، مثلاً، موقفُ أبي نواس ولا موقفُ أبي تمام ولا حتى موقفُ المتنبي أو أبي العلاء المعري. هذه الصفوةُ العُلْيَا من الشعراء المحدثين في القديم. سلالاتُ كلِّ واحد من هؤلاء الشعراء معلومةٌ ومصرّحٌ بها في الدواوين الشعرية نفْسِها لهؤلاء الشعراء، أو في الكتب الموضوعة عنهم. نعم، هناك قصائد عديدة كتبَها الشعراء التقليديون عن بعضهم بعضاً. من شوقي الى حافظ ابراهيم الى محمد مهدي الجواهري. كأسماء دالة في التقليدية. اضافة الى أن هناك قصائد متبادلة بكثرة بين أحمد شوقي وخليل مطران "صاحب المِنَنَ" على الشعر العربي كما يذكر ذلك شوقي في مقدمة "الشوقيات". وهذه القصائد يحسُن تصنيفُها في باب الإخوانيات أو المناسبات. سلوكٌ شعريٌّ نبيل. لا شكَّ. وفي نبالتها تنحَصِرُ الدلالة. هذه النبالة ليستْ مُلزِمَةً لوضع سيرة السُّلالة الشعرية. ويمكن أن نرى الى السلالة من مكان الشعراء اللاحقين. ليس هناك شاعر رومانسي، بالمعنى الصارم للكلمة، اعترفَ بوجود سُلالة شعرية سابقةٍ عليه ممثلة في التقليدية. هناك إنكار كامل للشعرية التقليدية، بدون تَساهُل. ما كتبته جماعة "الديوان" يلتقي مع ما كتبه جبران خليل جبران. وحتى تخصيص أحمد زكي أبو شادي لشوقي برئاسة اللجنة التنفيذية في "جمعية أبولو"، لم يحجُب غيابَ هذه السلالة. فالتقديمُ، الذي افتتحَ به أبو شادي العدد الأول من مجلة "أبولو" نقْدٌ للوضع الشعري السائد في مصر، لا استثناءَ فيه لشوقي أو لغيره. عن ذلك كتب: "وهكذا صارتْ حالةُ الشعر العربي في عصرنا هذا خليطاً كريهاً من الحُسْن والقُبْح، من الجوْدَة والإسْفَاف، من السُّموِّ والانْحطَاط، وذلك بصورة شاذة غريبة". بعد وفاة شوقي كذلك، وفي لوْعَة التخليدِ والتّذْكِير، لم يخْشَ علي محمود طه من الكتابة، في العدد الرابع من مجلة "أبولو" دائماً، ديسمبر 1932، كلمة فيها ما ينفي السلالة، بصيغة "أجَلْ، كان شوقي مقلِّداً في بعض شعره ولكنه كان مُنْتِجاً، وقد أردناه أن يبدّل نهْجَهُ في الشعر ويبدأُ من حيثُ بدأْنَا نحْنُ، ولكنّا لم نذْكُر أنا بدأْنَا من حيْثُ انْتَهَى هُو". 5 طيْفُ الماضي. خَيالٌ وجُنون. انه المسُّ منَ الشّيْطان. نحنُ بعيدون عن شيطان الشعر. الذي كان الشاعرُ الجاهليُّ مقترناً به. شيطانُ النّظر الحديث الى القَدِيم. واحداً مُوحَّداً. منزوعاً من التاريخ الشعري. أو تاريخ الذاتيات الشعرية. هذا هو الطيَّاف. سوادُ اللّيْل كما يقول ابن منظور. طيْفٌ يطوف بالشاعر التقليدي. ينزع عنه صفةَ أن يختار مكانَه بين الشعراء. في زمن ليس هو الزمنُ القديم. طيَّافٌ يمنع الرؤية. سوادٌ متلاحِق. في القصيدة وما يسْكُنُ القصيدة. والشاعر لا يفرق بين الواقعي والخيالي. هناك. في الجنون. إلا أن القصيدة التقليدية، تدعو لأسئلة من قبيل: هلْ هي عادَتْ فعلاً الى الماضي فقط؟ ما تُثْبته القصيدة التقليدية يفيد العَكْس. لنذكِّر بأن الحقبة التقليدية كانت متأثرةً بعناصر شعرية غير عربية. ما زلنا لم ندرس بعد العلاقةَ بين التحديث الشعري في تركيا والتحديث الشعري في مصر. نُغْفِلُ عن قصد؟ هذا التأثير كما لو أننا نريد بمُباهَاة أن نُلغي التاريخَ الثقافي الحديث في مصر أو في بلاد الشام والعراق، وهي البلاد التي كانت في تواصُل دائم مع الأستانة ومع حركاتها الثقافية، جنباً الى جنب مع الحركات الاجتماعية والسياسية. فالتحديث الشعري في تركيا كان متأثّراً بالتحديث الشعري في فرنسا، فضلاً عن أن الحركة الشعرية التركية، في القرن التاسع عشر، كانت حيوية. لا أكرر، هنا، أن محمود سامي البارودي كتب بعض قصائده بالتركية والفارسية. ما يهمُّنا أكثر هو ضرورةُ معرفة كيف تم حدوث إبدال عناصر شعرية عربية بغيرها. من المحتمل أن يكون ذلك تحقق عبر مراحل. ولا شك أن القصيدة التركية كانت خلْفَ القصيدة العربية. فتُركيا كانت تقاليدُها الشعرية مستمدةً من الشعرية العربية، وهي أسبق من مصر في التحديث الثقافي. والفرنسية، التي كانت اللغة الثانية لشوقي، هي اللغة التي كتب بها رشدي باشا رسالةً الى شوقي يُبلّغَه فيها رأي الخديوي في مسرحيته "علي بك أو فيما هي دولة المماليك". أي أن الفرنسيةَ هي اللغة التي كانت تحْظَى بالامتياز في البلاط المصري، على غرار الامتياز ذاته في تركيا. عناصرُ شعرية. لنقُل: العنوان، تقسيم القصيدة الى مقاطع، وضع كلمات تقديمة للقصيدة. ليست هيّنة أبداً. ولا يمكن النظر اليها كعَناصر مُحايِدَة في البحث عن بناء مختلف للقصيدة العربية. عناصرُ لم تُصِبْ سواهَا بالعدْوَى، مثل قضايا الوضوح، الارتجال، المعجم، التركيب، المعنى، الغرض الشعري، الذاكرة. بكلمة مجملة تصوُّر القصيدة. إنه شأن النِّقاش حول التقليدية برمّتِها، كمنظور شعري. وهذه العناصر الجديدة على القصيدة العربية القديمة، كيف نتعامل معها؟ لقد كانت القصيدة العربية بين التقليدية تعتمد نصّاً شعرياً غائباً من خارج الثقافة العربية ومن خارج الشعرية العربية. وهذا هو الموجه الجديد في الشعرية العربية، منذ التقليدية حتى الآن. النصُّ الغائبُ، من خلال الشعر التركي، أو من خلال الشعر الأوروبي، الفرنسي على الخصوص، بالنسبة للتقليدية التي لقنَتْهَا الرومانسيةُ العربيةُ أيضاً دروساً في الشعرية الحديثة، جديرةً بالذّكْر، هو ما تنطق به القصيدة. عناصر غريبةٌ لمنظور تقليدي له الخيَالُ والجُنون. رغبةُ الانتماء الى الماضي الواحِد والمُوحَّد. هل بهذه العناصر الجديدة، كان الشاعر التقليدي يتوهّم الانتماءَ الى زمنه؟ ربما، ولكننا لا نعثرُ على شهادةٍ، لأي شاعِر تقليدي، بهذَا الخصوص. فالنص الغائبُ الذي ظل مستبِداً بهذا الشاعر هو القديم. رابطةٌ ذاكِريّة. استذكارية بنية عميقة ترجها رؤية أوروبية للشعر والشاعر تفعل في تصوُّر القصيدة وبنائها. انه النص الغائب الحديث، الآتي بعناصرَ وما بعْدَها، كأثر يبدّل النسقَ ويقودُ القصيدة نحو مسَار آخر، يتصدره الحديثَ، ترسيخاً لتقليديةٍ تُقوّضَ الحديثَ كمُستقبَل وكمَجْهُول.