ثمة قصة طويلة تربط سيدة الغناء العربي – كوكب الشرق – أم كلثوم مع الاغاني الدينية , وقد كتب الاستاذ درويش برجاوي في صحيفة القبس الكويتية يوم 14 يونيو 2006يقول :» اما مضمون البرنامج « يقصد برنامج تلفازي « فهو الغناء الديني والابتهالات والانشاد والتواشيح . لنفاجأ بأن أم كلثوم، صوت الوطن، وهمس العشاق والمحبين ونبض الغناء العاطفي، هي أيضا سيدة الغناء الديني .وقد تجلى الباحث الموسيقي الخولي في شرح اسباب هذه الميزة التي انفردت بها أم كلثوم، وان كانت هناك أصوات غنائية خاضت هذه التجربة بأغنيات يكاد يكون لكل صوت منها اغنية أو تجربة واحدة، مثل سعاد محمد، ونجاح سلام، وفايزة احمد، ونجاة، لكن أم كلثوم تفردت وتميزت بل وابدعت في الأغنيات الدينية، وجعلتها على ألسن الناس وفي ذائقتهم وثقافتهم، تماما مثل أغنياتها العاطفية والوطنية «. ويقول : « فهي لم تجرب في أغنية أو اثنتين فقط، بل تراكمت اغنياتها في هذا المجال، بسبب ايمانها بأهمية الغناء الديني، متأثرة بنشأتها الريفية وحفظها للقرآن الكريم، وبطفولتها التي افرزت موهبتها الغنائية، فكانت تحفظ وتنشد الأدعية والتواشيح. فظلت هذه العوامل في مكنونات نفسها وموهبتها. وعندما اصبحت أم كلثوم التي نعرفها في عالم الغناء العربي، كانت هي التي تبحث وتنقب في بطون الشعر، بل هي التي تطلب وتسعى في مناخ كان يعيش فيه عباقرة الكلمة واللحن. أحمد شوقي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، وبيرم التونسي، وغيرهم، فاذا بنا امام ثروة غنائية دينية، هي الآن من عيون الكلاسيكيات الغنائية العربية. وقد ورد في البرنامج، انه عندما طلبت ام كلثوم من السنباطي ان يلحن لها قصيدة «نهج البردة» لأمير الشعراء شوقي، كان هناك من يعترض على تقديمها في حفلاتها الشهرية، بحجة ان من يحضر حفلاتها يأتي للاستماع والاستمتاع بأغنيات الحب والبحر والوصال، وليس بالمواعظ، لكنها كانت تصر على غناء هذه القصيدة في زمان ظهورها، وصار الجمهور يطلبها منها، ويطرب وينتشي بها بحماسه نفسه لأغنياتها العاطفية.وبالقياس على ذلك كانت القصائد والأغنيات السابقة واللاحقة في هذا الاطار ومنها «ولد الهدى»، «سلوا قلبي»، «برضاك يا خالقي»، «الثلاثية المقدسة»، «الرضا والنور»، «القلب يعشق كل جميل»، ورائعة الشاعر الباكستاني محمد اقبال، «حديث الروح» وزير لا يحب غناءها اما الدكتور «جابر أحمد عصفور وزير ثقافة المصري الاسبق (ولد في المحلة الكبرى في 25 مارس 1944) .. وهو كاتب ومفكر مصري ورئيس المجلس القومي للترجمة وكان أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة. يقول د . عصفور في العدد 647 - 2012/10 – في مجلة العربي الكويتية ضمن ملف خاص – ملف أم كلثوم وشعر شوقي .. يقول : ( الطريف أنني كنت نافرا من أغاني أم كلثوم وشعر أحمد شوقي في شبابي البعيد. كنت لا أطيق أغاني أم كلثوم التي كنت أراها طويلة، وكم سخرت من الكبار في أسرتي الذين لم يكن يشغلهم شيء في الخميس الأول من كل شهر سوى الإعداد للسهر مع الست في حفلتها الشهرية. وكنت أعجب من هذا الانسجام الذي كنت أراه على وجوه الكبار من أفراد أسرتي، وهم يستمعون في صمت وإجلال إلى صوت الست ، لا يقطع الصمت إلا آهات النساء أو استحسان الرجال الذي تنطقه عبارة «الله يا ست». وكنت أعجب كيف يتحمل هؤلاء تكرار المقاطع لمرات عديدة ) . ويقول : ( كنت أرى في ذلك إملالا شديدا ولم يفلح معي ما حاول أن يشرحه لي قريب متسامح من أن الأمر ليس تكرارا اعتباطيا، وإنما هو تلوين نغمي بالصوت ومحاولة إحداث تنويع نغمي للمقطع الواحد أو الجملة. ومضيت سادرا في جهالة الشباب، كارها لأم كلثوم التي رأيت فيها - ويا للغباء - نوعا من الرجعية التي ينبغي الثورة عليها . وعندما دخلت الجامعة وقابلت شبابا سبقني إلى الثورة على تقاليد السماع القديمة التي كانت ترمز لها أم كلثوم، عرفت نماذج موسيقية وغنائية حداثية . ولقد انحزت مثل بعض الذين سبقوني في التمرد على أم كلثوم إلى فيروز التي اعتبرناها صوت الحداثة التي أخذنا في الانحياز إليها والتعصب لها . وظللت سنوات على هذا الحال إلى أربعينيات العمر . ولكن تصادف أنني كنت جالسا وحدي بعد منتصف الليل ، فمددت أصابعي إلى أزرار المذياع ، فخرج صوت أم كلثوم رائقا ، يغني أبيات أحمد شوقي : سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل له على الجمال عتابا ويُسأل في الحوادث ذو صوابا فهل ترك الجمال له صوابا؟ وكنت إذا سألت القلب يوما تولى الدمع عن قلبي الجوابا ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا أغنية « سلوا قلبي » ويضيف د . عصفور : ( هكذا قادتني أغنية «سلوا قلبي» إلى بقية قصائد شوقي التي غنتها له أم كلثوم. وقد غنت له إحدى عشرة قصيدة، موجود حصر بها في كتاب «أم كلثوم» من إعداد الدكتورة إيزيس فتح الله والمرحوم الأستاذ محمود كامل رحمه الله، فهو أعلم من قابلت في الخبرة بالموسيقى الشرقية والغناء. ومن بين القصائد التي غنتها أم كلثوم لأحمد شوقي قصائد لها ذكريات معرفية خاصة بها، ومنها القصيدة التي مطلعها: إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَير زائِرٍ عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ ويضيف د . عصفور : ( سبب كتابة شوقي لهذه القصيدة طريف، ذكره ابنه حسين شوقي في كتابه «أبي شوقي» ووجه الطرافة أن الخديوي عباس حلمي الثاني قرر أن يذهب إلى الحج مصطحبا معه أسرته. وكان من الطبيعي أن يطلب من شاعره وصديقه أحمد شوقي الذهاب معه، وداعبه قائلا: إنه سيركب حصانا مطهما هدية منه إليه. ولم يملك شوقي الرفض، فصحب الموكب إلى صحراء العباسية، ومن هناك فرّ تاركا الموكب، قبل أن ينتبه الخديو عباس حلمي الثاني، وعاد شوقي إلى القاهرة، حيث كتب هذه القصيدة التي أرسلها معتذرا إلى الخديوي . استبدال بعض الكلمات ويقول د . عصفور : من الواضح أن أم كلثوم المتذوقة المتميزة للشعر قرأت القصيدة وأعجبتها الروح الدينية التي تتخللها، وتنقل الخاص فيها إلى العام. وكالعادة، حذفت الأبيات غير المناسبة من وجهة نظرها، واستبدلت كلمات بكلمات، ابتداء من المطلع الذي كان: إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا ابن مُحمد عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ فأصبح: إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَير زائِرٍ عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ ويقول د . عصفور : ( هو تغيير موفق، ينقل القصيدة من خطاب الخديوي عباس حلمي الثاني إلى كل من يقوم بالحج، حيث ينعكس معنى السعي على الساعي، ويستمد الحاج من شرف المقصد ما يضفي عليه هو الشرف ومعنى الخيرية التي يفضل بها الحاج عن غيره الذي لم ينل شرف المقصد. والقصيدة طويلة في الشوقيات، قد تزيد على ستين بيتا فيما أظن، وإذا لم تخذلني الذاكرة، غنت منها أم كلثوم خمسة وعشرين بيتا. ومن أجمل أبياتها تلك التي تقول لخير زائر: إِذا زُرتَ البيت قَبر مُحَمَّدٍ وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطراتِ وَفاضَت مَعَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَة لأحمَدَ بَينَ السترِ وَالحُجراتِ وأشرق نور تحت كل ثنية وضاع أريج تحت كل حصاة ( انتهى كلام د . عصفور ) . قصيدة « إلى عرفات « ولعل نظرة منا الى ما نشرته مجلة الهلال في عدد يناير 1910 .. نجد أننا أمام أبيات غاية في البهاء .. قصيدة « إلى عرفات « من كلمات أمير الشعراء « أحمد شوقي ، ومن تلحين الموسيقار الشهير رياض السنباطي ، وقد ترنمت بها الحنجرة الذهبية لسيدة الغناء العربي أم كلثوم .... وهنا عنوانها وبعضا من ابياتها. ( إلى عرفات الله يا خير زائر ) إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ» «عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ وَيَومَ تُوَلّى وُجهَةَ البَيتِ ناضِرًا» «وَسيمَ مَجالي البِشرِ وَالقَسَماتِ عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ» «تَزُفُّ تَحايا اللهِ وَالبَرَكاتِ لَدى البابِ جِبريلُ الأَمينُ بِراحِهِ» «رَسائِلُ رَحمانِيَّةُ النَفَحاتِ وَفي الكَعبَةِ الغَرّاءِ رُكنٌ مُرَحِّبٌ» «بِكَعبَةِ قُصّادٍ وَرُكنِ عُفاةِ وَزَمزَمُ تَجري بَينَ عَينَيكَ أَعيُنًا» «مِنَ الكَوثَرِ المَعسولِ مُنفَجِراتِ لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُمْ» «لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالشرفاتِ أَرى الناسَ أَفواجاً وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ» «إِلَيكَ انتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ» «لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ وَيا رَبِّ هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ» «وَفي العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ وَتَشهَدُ ما آذَيتُ نَفسًا وَلَم أَضِر» «وَلَم أَبغِ في جَهري وَلا خَطَراتي وَلا حمِّلَت نَفسٌ هَوىً لِبِلادِها» «كَنَفسِيَ في فِعلي وَفي نَفَثاتي وَأَنتَ وَلِيُّ العَفوِ فَامحُ بِناصِعٍ» «مِنَ الصَفحِ ما سَوَّدتُ مِن صَفَحاتي وَمَن تَضحَكِ الدُنيا إِلَيهِ فَيَغتَرِر» «يَمُت كَقَتيلِ الغيدِ بِالبَسَماتِ إِذا زُرتَ بعد البيت قَبرَ مُحَمَّدٍ» «وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِراتِ وَفاضَت مَن الدَمعِ العُيونُ مَهابَةً» «لِأَحمَدَ بَينَ السِترِ وَالحُجُراتِ وَأَشرَقَ نورٌ تَحتَ كُلِّ ثَنِيَّةٍ» «وَضاعَ أَريجٌ تَحتَ كُلِّ حَصاةِ