على خلاف ما أوحت به خطب قادة الاتحاد السوفياتي نيكيتا خروتشيف - أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي، ونيقولاي بولغانين - رئيس مجلس الوزراء في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في 14 شباط فبراير 1956، وتوقعته تطميناتهم، نجم عن هذا المؤتمر، بعد عشرة أيام من انعقاده، زلزال سياسي. وتناول بيان خروتشيف الافتتاحي التداعيات السياسية التي ترتبت على موت ستالين، وإمكان تعايش معسكري الاتحاد السوفياتي والغرب سلماً، وكثرة الطرق المفضية الى الاشتراكية. ودارت مداخلات المشاركين في المؤتمر على إعادة العمل بپ"مبدأ القيادة الجماعية اللينينية نسبة الى لينين". وفي الرابع والعشرين من شباط، دعا خروتشيف النواب السوفيات الى حضور جلسة مغلقة دامت اكثر من اربع ساعات. وقرأ خروتشيف، في الجلسة، تقريراً سرياً على مستمعيه. وتناول التقرير جوانب غير معروفة من سياسات ستالين، وصوره ديكتاتوراً دأب يوماً بعد يوم، على إرساء شعائر"عبادة شخصيته"، ومستبداً غير كفوء ومنقطعاً عن الشعب. وبقيت تفاصيل التقرير وإعداده طي الكتمان الى وقت قريب. ولم يعترف خروتشيف بكتابته التقرير الا بعد مرور ستة أعوام على إقصائه عن السلطة. وفي مذكراته، الصادرة في 1970، جمّل خروتشيف دوره في السلطة، واتهم زملاءه في الحزب بمعارضة فضح أخطاء ستالين وجرائمه. واليوم، بعد فتح أرشيف حقبة مؤتمر الحزب الشيوعي السوفياتي العشرين، وأرشيف رئاسة الحزب، ونشر مذكرات عدد من القادة الستالينيين، يسع المؤرخين تقويم دور خروتشيف وتمحيص مذكراته. فخروتشيف جمع المتناقضات في شخصه. فعلى رغم دوره السياسي الكبير في عهد ستالين، وترؤسه أكبر منظمتين في الحزب الشيوعي السوفياتي، ومسؤوليته عن موجتي جرائم 1937 و1938 وتصفياتهما الجماعية، أيقن خروتشيف بضرورة الخروج من الستالينية وطرائقها وأساليبها. ولا شك في أن خروتشيف كان أول المبادرين الى فضح الستالينية. ففي خريف 1955، التقى أمين عام الحزب الشيوعي ناجين من معتقلات"الغولاغ"الاسم المجتمع من أحرف الكلمات الأولى التي تسمي إدارة المعتقلات"السياسية"، وبينهم زملاء له في الحزب اعتقلوا في 1937 و1938. وقبل ستة أسابيع من انعقاد المؤتمر العشرين، اقترح خروتشيف على مجلس رئاسة اللجنة المركزية، التحقيق في أسباب قمع أعضائها المنتخبين في 1934. واستثنى خروتشيف عامي 1930 و1932 من التحقيق. وأسدل تالياً الستار على عمليات التأميم الإجبارية، والقضاء على طبقة الكولاك وهم فلاحون ظن فيهم"الثراء"، والمجاعة الكبيرة أودت هذه المجاعة بحياة ستة ملايين شخص. وعارض المقربون من ستالين والأوفياء له اقتراح خروتشيف. ولكنه تجاهل، بتأييد من آناستاز ميكويين ونيقولاي بولغانين والجيل الصاعد في الحزب، اعتراضات"الستالينيين التاريخيين". وكلّف خروتشيف بيوتر بوزبيلوف، رئيس تحرير"البرافدا"1940 و1949 ورئيس المعهد اللينيني - الماركسي، إعداد التحقيق. والتزم بوزبيلوف توجيهات خروتشيف. فاقتصر تقريره على الحقبة بين 1935 و1940. وخص بوزبيلوف قمع أعضاء اللجنة المركزية المنتخبة في المؤتمر السابع عشر، في 1934، وإعدام أكثر من نصفهم، بثلثي تقريره. وقال ان ستالين كان وراء تجاوزات الشرطة السياسية"الفاسدة". وحرص خروتشيف على عرض هذا الجانب من تحقيق بوزبيلوف في تقريره. وتكتم على جوانب أخرى على قدر كبير من الأهمية. فلم يذكر خروتشيف عمليات القمع الجماعية في 1937 و1938، وهي أفضت الى اعتقال 1.5 مليون شخص، وإعدام اكثر من ستمئة ألف منهم، في تقريره. واستند بوزبيلوف في تقريره الى وثيقة سرية صادرة عن وزير الداخلية، سيرغي كروغلوف، الى خروتشيف. وتحصي هذه الوثيقة عدد المعتقلين، منذ نهاية الحرب الأهلية في 1921 الى حين وفاة ستالين في 1953، بأكثر من أربعة ملايين شخص، أعدم ثمانمئة ألف منهم. وتناول تقرير بوزبيلوف بالتفصيل سياسة"كوتا حصص الاعتقالات والاعدامات"، الصادرة عن الشرطة السياسية في كل منطقة. فعلى سبيل المثال، بلغت حصة موسكو 35 ألف شخص. وصنفت"الكوتا"المعتقلين في خانتي الاعدام خسمة آلاف شخص، والاعتقال 30 ألف شخص. ويومها اعتبر من يسارع الى تنفيذ"الكوتا"أفضل الساهرين على الأمن. وبلغ عدد المعتقلين بين 1937 و1938 أربعمئة وخمسين ألف شخص من كوادر الحزب وعلماء وجنود. وأُعدم 85 في المئة منهم. وذُيلت أوامر الإعدام بتوقيع ستالين وغيره من أمناء سرّ فروع الحزب الشيوعي، وخروتشيف واحد منهم، في المناطق والدساكر. وخروتشيف مسؤول عن إعدام مئة وعشرين ألف شخص بأوكرانيا في 1938. وعلى خلاف تقرير بوزبيلوف، لم يشر تقرير خروتشيف الى الاعتقالات الجماعية، والاعدامات التي طاولت عامة الشعب السوفياتي، فقدَّم اعتقال كوادر الحزب الشيوعي وأعضائه. وتفادى التقرير الرسمي والمأذون مسؤولية الحزب الشيوعي المباشرة عن القمع والقتل أمام"الشعب"السوفياتي. عن نيكولا ويرث مدير أبحاث في معهد تاريخ الزمن الحاضر وصاحب كتاب"تاريخ الاتحاد السوفياتي"، "ليستوار"الفرنسية، 1/2006