سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
خمسون عاماً على موت جوزيف ستالين خليفة لينين على الثورة الشيوعية الأولى وباني الاتحاد السوفياتي "الفولاذي". مداميك البناء أمواج من الاعتقالات والتصفيات الجماعية ... وركنه حزب لا يخطئ
اختصرت وفاة ستالين، ومراسمها وملابساتها، في الساعة التاسعة والدقيقة الخمسين من مساء الخميس في 5 آذار مارس 1953، صورة سيرته الشخصية والسياسية، وصورة الاتحاد السوفياتي التي كانت له اليد الطولى في رسمها على النحو الذي رسمها عليه منذ 1922، سنة توليته الأمانة العامة الإدارية للحزب الشيوعي السوفياتي. فساعة قضى يوسيب جوزيف فيساريونوفيتش ابن فيساريون ديوغاشفيلي ستالين، وهو لقبه الحزبي ومعنى اللفظة: الفولاذ، كانت مرت خمسة أيام على ابتداء نزعه. ففي آخر يوم من شهر شباط فبراير، وكان يوم سبت، عمل الأمين العام، على جاري عادة قديمة، في مكتبه بجناحه الخاص الداتشا في الكرملين، الى ساعة متأخرة من ليلة السبت الى الأحد. وكان يعمل، منذ 35 سنة، أي منذ انتصار الثورة البلشفية الشيوعية في 1917، خمس عشرة ساعة الى سبع عشرة ساعة في اليوم الواحد، من غير استثناء أيام العطلة في سوتشي. وفي ساعات يوم الاثنين الأولى، في الأول من آذار، طلب عرض شريط سينمائي "عاطفي"، على ما كان يحب ويهوى. وحوله خلصاؤه والمقربون منه وعمّاله وصنائعه، وهم يومها بيريا، رأس أجهزة البوليس السياسي والأمن الداخلي، ومالنكوف، يده اليمنى على رأس الحزب وقارئ تقريره على المؤتمر التاسع عاشر للحزب الحاكم قبل أربعة أشهر ونصف الشهر، وخروتشيف، قرين مالنكوف، وبولغانين، العسكري ورأس جهاز "الدولة" الظاهر. وبعد الشريط السينمائي المعهود، طلب "الريِّس"، على ما أخذ يسميه خلصاؤه السابقون مولوتوف وكاغانوفيتش وميكويان منذ انفراده بالسلطة في 1928، طعام العشاء، على جاري سُنّة مألوفة كذلك. فطَعِموا كلهم وشربوا شراباً كثيراً. وكان رئيسهم أكثرهم طعاماً وشراباً، وربما انتشاءً، وإن لم يبلغ به الأمر مبلغ الطلب الى الحاشية، الخمسينية السن والستينية، الرقص على أنغام الأغاني الجورجية القديمة، شأنه في سهرة رأس السنة المنصرمة في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1952 الى الأول من كانون الثاني/ يناير 1953. وذكر الساهرون أن العشاء انقضى من غير أن ينغصه منغص، على خلاف العادة. فلم يبطن كلام ستالين، ليلتذاك، ما يحمل ندماءه، أو واحداً منهم، على المبيت قلقاً، يقلِّب ظهراً على بطن كلمة عارضة رماها الأمين العام، أو نظرة ألقاها بين قدح وآخر. وتخالف رواية كبير الحرس ألكسندر، ريبين، هذا الجزء من رواية الساهرين الندماء. فهو زعم أن هؤلاء تركوا جناح كبيرهم وسيدهم في الرابعة صباحاً. ولم يشربوا غير عصير الفاكهة. فلم ينتشِِ أحد، ولم تبد على أحد، وهم يغادرون، علائم الشرب أو الإفراط في الطعام. وانفض الساهرون في الساعة الخامسة أو السادسة من صباح يوم الأحد، وهو اليوم الأول من شهر آذار مارس. وانقضى النهار أو معظمه و"القوم" يغطون في النوم. فلما تقدم الليل أنبأ مالنكوف أرفع حزبي بعده ستاليني، خروتشيف، من طريق التلفون، بما أبلغه إياه حرس ستالين من أن هذا ربما أصيب بعارض صحي مفاجئ. فركب خروتشيف السيارة الى كونتسيفو، حيث جناح ستالين، وقر رأي كبيرَيْ الحزب على الطلب الى خادمة ستالين، ماتريونا بيتروفنا، دخول حجرة نومه. فدخلت، ورأته منطرحاً أرضاً، ونائماً أسفل السرير. فحمله الحرس، ووضعوه على أريكة. وافترضوا أنه في حال سكر، ولا ينبغي لهم أن يروه على هذه الحال، فتركوه ينام. وعاد مالنكوف وخروتشيف أدراجهما، كل إلى جناحه. ويروي قائد الحرس، من جهته، ان ستالين أنار الضوء في حجرته، في الساعة السادسة والنصف مساء. وانقضت خمس ساعات تامة من غير أن يتناهى صوت من حجرة النوم الى سمع قائد الحرس اليقظ. وفي الحادية عشرة والنصف دخل نائب مفوض الجناح، وهو أحد أمناء سر ستالين، أو سكرتيريته، لوزغاتشيف، الحجرة. فوجد صاحب الكرملين أرضاً، وغير قادر على الكلام، ولكنه مفتوح العينين وواعياً. فهاتف لوزغاتشيف، بعد مشاروة ريبين قائد الحرس، إيغناتييف، وزير أمن الدولة. فأشار إيغناتييف بمكالمة بيريا ومالنكوف. ويروي خروتشيف أنه، ومالنكوف، بعد توسيد ستالين الأريكة، ومغادرتهما الجناح، هاتفه مالنكوف، وأخبره أن الحرس قلقون من جديد. فقد أصبح يوم الإثنين، وهو اليوم الثاني من آذار، من غير أن يفيق ستالين، أو أن يدعو أحداً. فاتفق الإثنان على اللقاء في جناح سيد الكرملين، وعلى دعوة فوروشيلوف، مارشال الإتحاد السوفيات وأحد قدامى المعاونين، وكاغانوفيتش، من قدامى الخلصاء قبل جفاء ينذر بالويل. واتفقا كذلك على استدعاء أطباء يعالجون المريض العي والمتردد بين الغيبوبة والإفاقة. وأما قائد الحرس فيقول أنه، ولوزغاتشيف، حاولا مهاتفة بيريا ومالنكوف، على ما نصح وزير أمن الدولة. فهاتف مالنكوف، فوصل سريعاً. وتعذرت مكالمة بيريا، وكان غائباً عن جناحه، فلم يأت إلا الساعة الثالثة صباح الإثنين. وجاء من غير طبيب معه. وهو أمر، بالهاتف، ألا يدعى طبيب الى سرير المريض. وغادر الجناح مصراً على أن "الرفيق الأعظم" في حال لا تستدعي الخشية والخوف. فتأخرت دعوة الأطباء، على رواية ريبين وبنت ستالين، سفالتانا أللِّيليوفا، الى الساعة التاسعة من صباح الاثنين. وجاءت سفالتانا، وهي الإنسان الوحيد الذي أثار في ستاليه أحاسيس تمت الى "الضعف" والعاطفة، مع الأطباء. فقطعت درساً في اللغة الفرنسية، على ما قالت، وركضت الى سرير أبيها. ولم تُعلَم بحاله قبل ذاك. وتأخر إبلاغ ابن ستالين المتبقي من زواج ستالين الثاني بناديا اتليليوفا التي قتلت نفسها شأن كثرة حاذوا الرجل، فاسيلي، كذلك. وكان هذا سكيراً. فجاء وهو على سكره، وأخذ يصرخ أن أباه قضى اغتيالاً. الفولغا والقمر... وشخص الأطباء نزيفاً في دماغ المريض. وكانت أعراض ارتفاع ضغط الشرايين ظهرت عليه اضطراباً في اليدين ولهاثاً في أعقاب خطوات قليلة، قبل نيف وسنة. فاضطر الى ترك التبغ، على رغم شغفه به وإدمانه. وأصيب بالتهاب متكرر في مسالك التنفس، وفي الحلق. وكانت الالتهابات تقعده. فلما دعا المؤتمر التاسع عشر الى الانعقاد، في الثلث الثاني من تشرين الأول اكتوبر 1952، بعد انقطاع دام ثلاثة عشر عاماً، لم يحضر الجلسات إلا لماماً. وعجز عن قراءة التقرير السياسي، وهي امتياز الأمين العام، وأوكل الأمر الى مالنكوف. وجلس هو على منصة تعلو المنبر الذي وقف مالنكوف وراء مكبرات صوت مثبتة فيه، ونظر ساهماً الى وكيله وخليفته المفترض. فلما أصيب بالنزيف الذي أودى به لم يفاجئ الأمر حاشية المقربين، وأولهم وأقواهم نفوذاً لافرينتي بيريا، خليفة كوكبة سوداء من قادة أجهزة الاعتقال والاغتيال والتعذيب. وفي أثناء الأيام الأربعة التي قضاها سيد الاتحاة السوفياتي معلقاً بين الحياة والموت، تناوب المقربون الستة - وفيهم مقربان سابقان - على قضاء الليل، كل اثنين ليلة، بقربه. وكان يفيق بين الوقت والآخر، ويتصفح وجوه من يحفونه بعينين غائرتين قرأ بعضهم فيهما الهلع، بينما لمح آخرون فيهما وميض ابتسام آفل. وعلى حين اشترك المقربون كلهم في إظهار الامتثال واللوعة، انفرد بيريا، أقوى المقربين وأكثرهم خوفاً على نفسه من انقلاب الأمين العام عليه، بالجثو على ركبتيه بمحاذاة السرير، عند إفاقة ستالين من غاشيته، وتقبيل يديه. فإذا غرق المريض في سباته أظهر بيريا الاستخفاف والبرم. ويروي خروتشيف أن بيريا بصق على سرير ستالين حين ثبت ان هذا لفظ أنفاسه الأخيرة. وتولى بيريا، في 3 آذار، صوغ أول خبر أزاح السترَ عن طرف من حال ستالين الصحية. فأذاع أن ستالين أصيب، في اليوم نفسه، بنزيف في الدماغ بينما كان يعمل في مكتبه. وفي 4 آذار أذيعت توصية باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجلس الوزراء، أي باسم رأسي الحزب والدولة المفترضين، دعت الشيوعيين و"الشعب السوفياتي"، أي شعوب الجمهوريات، الى الوحدة والتضامن واليقظة في الأيام العصيبة هذه. ومنذ اذاعة التوصية المشتركة اقتصرت الإذاعة على بث موسيقى باخ. وفي الرابعة صباح يوم الجمعة، بعد خمس ساعات وعشر دقائق على فصله، سبق قرعُ طبول خفيف إعلان الإذاعة أن قلب "مرشد الحزب الشيوعي والاتحاد السوفياتي، يوسيب فيساريونوفيتش ستالين، رفيق سلاح لينين، وحامل لواء عبقريته وقضيته..." توقف عن الخفقان. وثوى على الأريكة، على قول سولجنتسين في روايته "الدائرة الأولى" وهي الأولى من دوائر الجحيم، على استعارة دانتي، رجل رُسمت صورته بالزيت والماء والحبر الصيني والطبشور والصلصال" وجُمعت بواسطة حجارة الشواطئ وفتات الصخر ومربعات السيراميك وحبوب القمح وحبات الصويا" وقُصّت في العاج، وشذبت في العشب، ونسجت في السجادة وثبتت على الأشرطة، على نحو لم يسبق له مثيل ولا شبه منذ فجر تاريخ البشر" واسم هذا الرجل سطر على صفحات الصحف في أنحاء الأرض المعمورة، وتهجأه آلاف المذيعين في مئات اللغات" وكان فاتحة ما لا يحصى من التقارير الإعلامية والحزبية وخاتمتها" ورفعت عقيرتها بإنشاده أصوات الجراميز النحيلة، ورتله الخوارنة في تبريكاتهم" وتجمد اسمه على شفاه الأسرى المروّعة، ولثَّات المعتقلين المتورمة" وسميت به المدن والساحات والشوارع والجادات والقصور والجامعات والمدارس والبيمارستانات، وسلاسل الجبال، والممرات المائية والمصانع والمناجم وتعاونيات الإسكافيين وحضانات الأولاد والسوفكوزات والكولخوزات والدارعات والمراكب" ولم يسلم إلا الى الفولغا والقمر من حمل اسمه، وهما اقترح صحافيون موسكوبيون تسميتهما باسم ستالين. وحين إعلان موته، مع ساعات الفجر الباردة، خرجت الجموع في مدن الإتحاد السوفياتي المترامي الأطراف، وفي مزارعه الجماعية التي حلت محل قراه - بمرسوم من ستالين أنزل في الأرياف الروسية والأوكرانية، بين 1929 و1933 مع أول خطة "خمسية"، كارثة إنسانية واقتصادية قتلت خمسة الى ستة ملايين مزارع وفلاح زُعموا "كولاك" أو مزارعين وملاكين أثرياء - ذاهلة باكية أو دامعة. وكان السؤال: "والآن، بعد ستالين ماذا قد يحل بنا؟"، على ما أقر أحد كبار الروائيين الفرنسيين المعاصرين، على كثير من الشفاه والوجوه. فمَن شأنُ مئات الملايين من الناس معه - واتحاد الجمهوريات الاشتراكية والسوفياتية كان يعد نحو مئتين وخمسين مليوناً منهم وحده - على ما وصف سولجنستين، يُتوقع أن يكون لموته، بعد ربع قرن من السلطان الشخصي الساحق على أحد أرجح بلدان العالم موقعاً قلب أوراسيا وأكثرها تنوعاً، الأثر العميق والمدوي. ومن أفرطت الدعاوة الحزبية في تلقيبه الألقاب العظيمة "أبو الشعوب"، "المرشد العبقري للبروليتاريا العالمية"، "ميكانيكي قاطرة التاريخ"، البلشفي الصخري"، "صدر العلوم"...، وأدى أدواره الكثيرة والمتناقضة أداءً مسرحياً ماهراً، قام من جمهور عريض من الناس، معظمهم من ضحاياه المباشرين وهؤلاء بلغوا خمسة عشر مليوناً من البشر أو غير المباشرين، مقام المثال والمرشد وصاحب الكلمة الفصل. ولعل صنيع أقرب المقربين إليه آخر أيامه، أقوى تمثيل على لغز الرجل، من وجه، وعلى إبهام محل السلطة من المجتمعات وعلاقة المحكومين بها، من وجه آخر. فبيريا، المرتعد خوفاً بين يدي سيده وهو المخيف وملقي الرعب في قلوب أقرانه، يعود انتسابه الى الحزب الاشتراكي - الديموقراطي البلشفي فالشيوعي، الى 1917، وكان في الثامنة عشرة. وفي 1934، غداة انجاز "تجميع" الأرياف السوفياتية بثمن بشري وسياسي باهظ، وغداة اغتيال كيروف أمين منظمة الحزب الحاكم في لينينغراد وخليفة ستالين المتوقع، أدخل ستالين بيريا عضواً تام العضوية الى اللجنة المركزية. وكان بيريا، شأن مولوتوف وكاغانوفيتش وفوروشيلوف ومالنكوف وخروتشيف وآخرين وكلهم، فيما بعد، "رؤساء" النظام وقادته وأعيانه، وجهاً من وجوه الجيل الثاني من قيادات الحزب الحاكم والواحد. وتوسل ستالين بهذا الجيل الى خلافة الجيل الحزبي الأول ووجوهه مثل تروتسكي وبوخارين وزينوفييف وكامينيف وبياتاكوف وغيرهم، جيل الاستيلاء على روسيا، والثورة على القيصرية، والانقلاب على الديموقراطية "البورجوازية" تحت لواء لينين. وآذن اغتيال كيروف الغامض بمحاكمات موسكو الكبيرة، وبتصفية أعيان الثورة الشيرعية. ومن تقدمت أسماؤهم من "رفاق لينين" و"قدامى البلاشفة"، الى ستالين نفسه، دوَّن لينين أسماءهم في ما عرف ب"وصيته". ففند عيوبهم وفضائلهم. وقال في ستالين إنه "مفرط الفظاظة، وجمع بين يديه سلطاناً غير مقيد، وليس أكيداً أنه في وسعه على الدوام استعماله استعمالاً متأنياً". وفي 4 كانون الثاني يناير 1923، كتب لينين - وكان مريضاً منذ نحو السنة، ولا يقوى على النطق، ولا يفيق من غيبوبة دماغه إلا في أوقات متباعدة - فيمن سماه "الجورجي الرائع" جزاء إسهامه في مالية الحزب من السرقات في 1907 - 1912 وولاه هو قبل عام الأمانة العام لجهاز الحزب: "أقترح على الرفاق تدارس إقالة ستالين من منصبه". نذر انعطاف فلما أزمع ستالين، وهو سيد الجهاز الحزبي منذ فكه حلفه مع نيقولاي بوخارين "اليميني" أي نصير سياسة اقتصادية معتدلة لا تؤمم التجارة الخارجية ولا الحرف ولا تصادر المزارعين بالقوة - وهو آخر حلفاء ستالين وشركائه في قمة الحزب والسلطة، في 1928 - لما أزمع ، في 1934، استئصال البقية الباقية من قيادات االثورة والحرب الأهلية، رفع الى مناصب الحزب و"الدولة" والقوات المسلحة والبوليس السياسي والإدارة الاقتصادية، أعواناً عرفهم وخبرهم وعركهم في أثناء الحرب الأهلية 1918-1922، وتولى معظمهم مهمات "أمنية". فكانوا نواة وكان بيريا، الى آخرين مر بعضهم، من هؤلاء، ومن أخلصهم وأكثرهم ولوغاً في الأعمال القذرة، "دفاعاً عن الحزب والثورة". واجتاز بيريا المحاكمات الكبرى. وكانت له يد طولى في إخراجها على نحو دمر المتهمين معنوياً وإنسانياً. فحملهم، بعد ترويعهم وتهديدهم في أقرب أرحامهم ووعدهم الوعود الكاذبة، على تهمة أنفسهم ب"التآمر"، و"الخيانة"، و"التخريب"، و"التجسس" و"العمالة" النشطة لبريطانياوألمانيا، و"الفاشية" عموماً. وهلل بيريا والأعوان الآخرون لتصديق الصحافة الأجنبية التهمة وإخراجها. واجتاز الحرب الثانية، وفظائعها، وتهددها شعوب الاتحاد وأقوامه بالإبادة. وخرج من الفصل الذي جاء بعد الحرب الثانية، ومن تجدد اضطراباته، وإزماع ستالين، المسن والمتعاظم السلطان والانفراد والتعسف، العودَ على سياسة الاعتقال الجماعي والنفي الداخلي والتصفيات والمحاكمات، من غير أن يمسه سوء مباشر. ولكن القرائن على انعطاف ستاليني جديد تكاثرت. فضعفت حظوة ميكوبان ومولوتوف، وهما من رعيل الحرب الأهلية وصنائع "الريس" وأطوع مواليه له، في أواخر 1952. ودان ستالين "خضوعهما لأميركا خضوع العبيد"، وعمالتهما للاستخبارات البريطانية - على ما غمغم في المؤتمر التاسع عاشر تعليقاً على تحفظهما عن خطته "تعجيل التحول الإشتراكي في الريف"، وجعل المبادلات العينية بين الريف والمدينة محل المبادلات النقدية الرأسمالية -. وظن في فوروشيلوف، من الرعيل نفسه وأداة "الريس" في تصفية قادة الجيش الأحمر عشية الحرب الثانية، "التجسس" لأميركا. وصرف أمين سره الخاص، بوسريببييف، وأمر باعتقاله في منزله، في الأسبوع الأول من كانون الأول 1952. وأتبعه بإحالة حارسه الشخصي منذ 1919، نيقولاي فلاسيك، الى التحقيق والاستجواب عن يد جهاز بيريا، في 16 من الشهر نفسه، إثر تهمته بإفشاء أسرار الدولة الى "متآمرين يهود". وتوج ستالين ظنونه وشكوكه المتكاثرة بتحميل بيريا المسؤولية عن ضعف اليقظة الأمنية، وتردي المناعة "الثورية" بإزاء "الثورة المضادة". والحرب المستميتة بين الاثنتين، الثورة والثورة المضادة، مع فروعها، هي جوهر السياسة الستالينية ولبها في مراحلها المتعاقبة: 1927 "مؤامرة الملكيين" و1928 "مؤامرة المهندسين و1929-1933 "مؤامرة الكولاك"... وخطا ستالين، في 13 كانون الثاني يناير 1953، قبل شهر ونصف الشهر من إصابته ، خطوة جديدة زادت مخاوف بيريا وزملاءه من صنائع ستالين الآخرين. فأذيع بيان، في ذلك اليوم، يندد بتآمر أطباء وعرفت الحادثة ب"مؤامرة المراويل البيض" "إرهابيين"، تعمدوا علاج بعض القادة علاجات ضارة أودت ببعضهم، مثل جدانوف قضى في 1948 وتشيرباكوف في 1945. و"علل" البيان الإرهاب والتآمر على حياة القادة بعمالة الأطباء ومساعديهم، ومعظمهم من اليهود الروس، لمنظمة إغاثة أميركية - يهودية. وتذرعت الدعاوة الستالينية، الصحافية والاذاعية والحزبية وتنم مراسلات ستالين وأعوانه المقربين، في 1926 الى 1936، التي رفعت الدولة الروسية الحظر عن شطر منها، بمراقبة ستالين ما تذيعه الصحافة والشيوعية، الى الصحافة الروسية المنفية، مراقبة دقيقة، بالروابط السوفياتية والأميركية في أثناء الحرب الثانية، وبتولي مواطنين من الدولتين تجمع بينهم أواصر الدين اليهودي وتقاليده، تذرعت بالأمرين الى تجديد حملة تنديد عنيفة ب"الكوسموبوليتية"، الغربية واليهودية على التأويل الستاليني. وهو تأويل قومي وعامي "شيوعي"، كان ستالين ابتدأه في 1949، وفصل من فصول معارضته "الشعب" و"العمال" و"الحزبيين البسطاء" ب"الأرستقراطيين" و"الخبراء". ولما أزاحت الستر عن "مزدوجي الوجوه"، بحسب عبارة "مركزية" في الحملة اختصرت "ماركسية" ستالين "النقدية"، الطبيبة الحزبية ليديا تيمايبوك، وقصد جهاز بيريا عن الأمر، نبه ستالين الى التقصير. نهج انتقال واتصال وكان هذا دأبه في كل مرة عزم فيها على تصفية رأس جهاز الإرهاب السياسي السابق. فهو صفع فيليب ميدفيد، مفوض الشعب الى الشؤون الداخلية، حين نزل من القطار في محطة لينينغراد مساء اغتيال كيروف في 29 كانون الأول/ ديسمبر 1934، جزاء تقصيره عن استباق الاغتيال. وقتل خلفه، غينديش ياغودا، في آذار 1938، بعد إدانته بالتروتسكية وكان من منظمي التهجير والتجميع الريفيين، ثم من منظمي المحاكمات الكبرى. وقتل، في شباط 1940، نيقولاي ييجوف، خلف ياغودا في أيلول سبتمبر 1936 الى أيلول 1938 وهو "مخرج" محاكمات بوخارين وريكوف في آذار 1936 حين خلفه لافرينتي بيريا. وفي ضوء الحلقات المتماسكة من صور الخلافة. وفي ضوء "نهج" الانتقال من حلقة الى أخرى، لم يساور الشك حلقة الأعوان والموالي المقربين في مصيرهم. فاتصال الحملة على "الكوسموبوليتية" بالحملة على "المراويل البيض"، وبإبقاء مليون و200 ألف من أسرى الحرب الناجين من المعتقلات النازية الألمانية في الاعتقال، منذ إطلاقهم غداة الحرب وهم اتهموا ب"الاتصال بالعدو" واستبطانهم "عدواه" و"أفكاره"، اتصال الحلقات هذا كان نذير كارثة جديدة على شاكلة "أمواج" سولجنتسين الإرهاب المتعاقبة منذ فجر الثورة البلشفية اللينينية فالستالينية. ففي غضون أيام قليلة برزت معالم مؤامرة أوسع من "المراويل البيض"، ضلع فيها، على زعم ستالين وجهاز الظل الذي أداره مالنكوف، وسوسلوف واغناتييف وريومين، مثقفون - "انتلجنتسيا"، على معنى "الأطر" أو "الكوادر" الذي صاغه ستالين وعممه في الثلاثينات، وتوسل به الى حلول الحزبيين والناشطين والعمال المبرزين في الصناعة والكولخوزارت، طبقة شعبية جديدة، محل النخب السابقة - وعسكريون وقادة حزبيون وأمنيون. وندب ستالين وزير أمن الدولة منذ 1951 وهو فصل الجهاز من وزارة الداخلية في 1946، سيميون اغناتييف ومساعده ريومين، الى التحقيق في المؤامرة المزعومة. وكان متوقعاً أن يؤدي التحقيق، على مثال سوفياتي معهود، الى تهمة ارتجاعية تتطاول الى فكتور آباماكوف، رئيس جهاز أمن الدولة الأول وأحد خواص بيريا. فآباماكوف، وهو قتل بعد إدانته في تموز يوليو 1951، أنشأ، في أثناء الحرب، إبان التقارب الأميركي - السوفياتي في 1942، اللجنة اليهودية المعادية للفاشية. وجمعت اللجنة بعض أعلام "الثقافة" السوفياتية مثل إيليا أهرنبورغ وفاسيلي غروسمان وهما روائيان، وبيوتر كابيستا مصمم القنبلة الذرية السوفياتية الأولى، وإميل غيلز عازف بيانو ذائع الصيت. وترأسها سالومون ميخولز، مدير مسرح موسكو باللغة اليدّيش، لغة يهود شرق أوروبا المحكية. ووجد هذا مقتولاً في كانون الثاني 1948. وتولت اللجنة ما عهد به اليها من نسج علاقات بمنظمات وجمعيات يهودية، عملاً بسياسة "الجبهات" الموضعية والمناهضة للفاشية أو الامبريالية، أو الثأرية الألمانية أو العدوانية الأميركية، أو الصهيونية... من بعد. وكَنَى بالتنديد بآماكوف، واجتماع "جداول" الضحايا المحتملين عند عقدة "مجارٍ" و"أقنية" على حد قول سولجينتسين كذلك صدرت كلها عن يهود، أو أفضت إليهم، كنى عن وشك الإيقاع ببيريا ومحنته البرمكية، بعد تطاول عهده البوليسي والإرهابي أربعة عشر عاماً طويلة، على نحو لم يسبق إليه أحد غيره، ولم يخلفه أحد إذا استثني ربما أندروبوف، "راعي" غورباتشوف وخليفة بريجينيف في ظروف مباينة. وأُوقف الأطباء المتهمون، سراً، في أوائل تشرين الثاني نوفمبر 1952 غداة المؤتمر الستاليني الأخير. وسبقت الاعتقالات هذه حملة تطاولت، في تموز 1952، الى آلاف اليهود والعاملين في الصحافة والتعليم والطب. ودين 125 وأعدم 25 منهم. وفي 22 تشرين الثاني افتتحت على عجل محاكمة رودولف سلانسكي، أمين عام الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، وثلاثة عشر متهماً آخرين، دينوا بإنشاء "عصابة تروتسكية - تيتوية نسبة الى تيتو، الشيوعي اليوغوسلافي ورأس الدولة المزمع زيارة بريطانيا - صهيونية". وقتلوا شنقاً مساء صدور الحكم، على جاري السُنّة الستالينية في المحاكمات الكبرى. وكان أحد عشر متهماً من أصول يهودية. وتخللت المحاكمة العلنية الخاطفة مرافعات لم تتستر على عصبيتها على السامية. فكان خوف بيريا، ومعه المقربون وآخر الصنائع والموالي وبعض الستالينيين المبعدين، مثل مولوتوف وامتحنه ستالين في أثناء الحرب، بقتله زوجته وميكويان، مسوغاً. وكذلك استعجاله هو خصوصاً موت الطاعية. ومهما كان دور بيريا على وجه الدقة في تعجيل فصل ستالين، ولفظه النفس الأخير، فالإجراءات التي اتخذها الستة، وهم آخر أربعة سهروا معه الى الاثنين المبعدين، غداة جنازة سيدهم الرهيب على شاكلة القيصر إيفان الذي خصه آيزنشتاين، السينمائي السوفياتي الكبير، بشريط كنى به عن القيصر الشيوعي الفظ، أظهرت إجماعاً على استبعاد الإرهاب الجماعي والتصفيات الحزبية على شاكلة "الأمواج"، من سياسة الحزب والدولة. فدعيت اللجنة المركزية، ودعي وزراء الحكومة، الى اجتماع مشترك في 5 اذار، قبل أن تبرد جثة الطاغية. وأقر مالنكوف على قيادة الحزب ورئاسة السوفيات الأعلى، وخروتشيف على أمانة اللجنة المركزية. وجُمع الى مالنكوف أربعة نواب: بيريا على رأس وزارة الداخلية، ومولوتوف على رأس السياسة الخارجية، وبولغانين على رأس الإدارة، وكاغانوفيتش قطباً من أقطاب المكتب السياسي الذي قلص من 25 الى عشرة أعضاء وأربعة مرشحين. وسجي جثمان ستالين في بيت النقابات بموسكو، مسرح المحاكمات في الثلاثينات. وأعلن الحداد العام أربعة أيام، من 6 ا لى 9 آذار، وكان خمسة أيام على لينين. وتقدم خروتشيف التشييع. وخطب الجمهور مالنكوف وبيريا ومولوتوف. وفي يوم التشييع أدى تدافع الجموع الى مقتل 500 مشيع دهساً بالأقدام. وفي 14 آذار اختار مالنكوف من منصبيه رئاسة الحكومة، فحل خروتشيف محله. وفي 26 آذار أرسل بيريا كتاباً الى المكتب السياسي أشار فيه بإطلاق سراح 2،1 مليون معتقل في "الغولاغ" إدارة المعتقلات من أسرى الحرب وبقي 3،1 مليون معتقل سياسي في "الغولاغ". وفي 4 نيسان ابريل أعلنت وزارة الداخلية أن قضية "المراويل البيض" ملفقة، واعترافات المتهمين انتزعت بالإكراه. وأقرت اللجنة المركزية، في توصية خاصة، بجري الأجهزة البوليسية السياسية على انتهاك "الشرعية الإشتراكية". وفي عيد النصر، في 9 أيار مايو 1953، حظر رفع صور القادة. وكان متوقعاً أن تتصدرها صورة ستالين. وفي 14 منه ألغي حظر الإقامة والتنقل إلغاء جزئياً، على عشرات الملايين من "الرعايا". وكان جوازاً الإقامة والتنقل من الإجراءات التي بعثها ستالين إبان حملات "الإرهاب الكبير"، في الثلاثينات. وندد الحزب بالشوفينية الروسية، ودعا الى قومنة القيادات المحلية، وناقش مع ميتروبوليت الكنيسة الموحدة الكاثوليكية شروط إجازة الحياة الكنسية. واقترح بيريا إبطاء الإجراءات السوفياتية في ألمانياالشرقية. فخرج عمالها، في 16 حزيران يونيو الى الشوارع، وتظاهروا منددين بالاحتلال السوفياتي وبتقسيم ألمانيا. فأمر الكرملين بقمع الحركة. واعتقل بيريا في 26 حزيران. وقتل في 23 كانون الأول بذريعة عمالته لدول غربية، واتهم باغتصاب الفتيات اليافعات. "أليس لهذا من نهاية؟" على قول راوي غونتر غراس الألماني في رواية "على شاكلة السرطان". * كاتب لبناني.