ربما لم يكن من قبيل المصادفة أن تأتي زيارة المستشارة الالمانية أنجيلا مركل الى الاراضي المحتلة نهاية الشهر الماضي، في وقت يعاني فيه الكيان العبري مخاضًا عسيرًا، يتمثل، داخلياً، بالازمة السياسية التي خلفها مرض ارييل شارون المفاجىء، وخارجيًا، بإنتصار حركة"حماس"في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية. والمفارقة أن زيارة مركل"الاستثنائية"، وإن كانت ُحددت منذ أكثر من شهر، جاءت قبل موعدها المحدد تعويضًا عن زيارة أخرى كانت مقررة لوزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير، أجلت لاسباب تتعلق بفضيحة تورط الاستخبارات الالمانية في حرب العراق. وأرادت مركل من هذه الزيارة، في الدرجة الاولى، طمأنة اسرائيل من أي تهديد بعد تصريحات الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد"النارية"، ووصول"حماس"الى السلطة. أما السبب الثاني للزيارة، فهو المحافظة على بروتوكول قائم بين البلدين منذ سنوات طويلة، اذ يقوم رئيس الحكومة في كل بلد، بعد تسلمه المنصب، بزيارة البلد الاخر. وللزيارة في هذا الوقت أهميتها وحساسيتها في آن، خصوصاً أنها تأتي من أرفع مسؤول في بلد يغطي النسبة الاكبر من الدعم الاوروبي للفلسطينيين، والبلد الأكثر شعورًا بالذنب تجاه ما يسمى"محرقة اليهود"الاوروبيين. لذلك شددت مركل في تصريحاتها في اسرائيل وغزة على ربط المساعدات الاوروبية بتغير موقف"حماس"لجهة الاعتراف باسرائيل ووقف العنف والتأسيس على ما وصلت اليه صيغة أوسلو من مفاوضات. وكللت هذا الدعم غير المحدود للاسرائيليين برفض مقابلة أي مسؤول من"حماس"التي لا تزال في نظرها"منظمة ارهابية". ما تحدثت به المستشارة الالمانية في الزيارة، لم يكن في الواقع تعبيرًا حقيقيًا عن الشارع الالماني الذي تباينت أقوال صحفه وتصريحات أحزابه، تجاه الموقف من"حماس". اذ كانت هناك مواقف أكثر واقعية عبر عنها سياسيون، طارحين سؤالا مفاده: كيف يمكن تجاهل من وصل الى السلطة بعملية ديموقراطية نزيهة وحقق أكثر من 60 في المئة من نسبة عدد أعضاء البرلمان بأصوات الشعب؟ وفي هذا السياق طالبت زعيمة حزب الخضر كلاوديا روت المستشارة مركل بتقديم عرض مشروط للاتصال مع الحركة التي"اختيرت في شكل ديموقراطي نزيه". ويساند حزب الاشتراكية الديمقراطية الشيوعي سابقًا الفلسطينيين بقوة، ويقف الى جانب مطالبهم باقامة دولتهم وعودة حقوقهم. أما الحزب الاشتراكي الديموقراطي فدعا على لسان أحد مسؤوليه مركل الى"أن تؤكد من جديد ثوابت السياسة الخارجية الالمانية"المتمثلة"في الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود وبحق الفلسطينيين في اقامة دولتهم الى جانب اسرائيل". وفي المقابل يتماهى الحزب الليبرالي الديموقراطي مع المحافظين"المسيحيين". فقد صرح فولفغانغ غيرهارد، رئيس كتلة الحزب الليبرالي في البرلمان، بأن على مركل أن تبين للاسرائيليين بشكل لا يرقى الى الشك"ان المانيا تقف الى جانبهم"، وأن توضح للفلسطينيين"ان الاستقرار الدائم في المنطقة لا يمكن أن يتأتى الا باعتراف جميع الاطراف الفلسطينية باسرائيل وباستعدادها لسلوك طريق التفاوض والحوار فقط". الصحافة أيضًا كانت لها تعليقاتها المتباينة على وضع المنطقة. اذ كتبت صحيفة"برلينر تسايتونغ"اليسارية:"الى جانب المسؤولية الخاصة لألمانيا تجاه إسرائيل هناك أيضا مسؤولية لا تنفصل عنها، وهي الالتزام تجاه الفلسطينيين، لا سيما أن من يؤيد حق إسرائيل في البقاء بهذا الشكل القوي يجب عليه أيضا أن يؤيد قيام الفلسطينيين ببناء دولة مستقلة سياسيا وذات اقتصاد قادر على البقاء. وهذا ليس فقط لأن إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 صاحبه تشريد الفلسطينيين، وإنما الأهم من هذا هو أنه يمكن اعتبار حق إسرائيل في البقاء أمراً مضمونا بشكل نهائي حينما لا يعود لدى جيرانها سبب للعداوة والثأر، وهذا مبدأ لم يفقد أهميته يوما ما، بل اكتسب قيمة جديدة بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية". ومن جانبها، حذرت صحيفة"نورنبرغر تسايتونغ"من وقف المساعدات الاوروبية للفلسطينيين، ومن ان"يدفع ذلك حماس لتصبح أكثر ارتباطا بايران والدول العربية".پ والمصادفة الأكثر أهمية في زيارة مركل لاسرائيل أنها جاءت قبل ثلاثة أشهر من الذكرى الاربعين لاقامة البلدين علاقات ديبلوماسية. ومعروف أن هذه العلاقات إحتاجت الى عملية"قيصرية"بعد العداء الضاري بين البلدين على خلفية ممارسات الحزب النازي الالماني في حق اليهود. وأسس لها اللقاء الشهير بين المستشار الألماني كونراد أديناورفي عهد ألمانيا الغربية ورئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون . وقد عمل المسؤولان بجهد كبير من أجل إقناع النخب السياسية في البلدين بأهمية اقامة هذه العلاقات. ومنذ ذلك الحين تتبنى ألمانيا سياسة الحفاظ على أمن الكيان اليهودي كاستمرار لسياسة الاعتذار عن المحرقة، عملا بما تسميه الدول الاوروبية"المسؤولية الاخلاقية تجاه الشعب اليهودي". ولعل موقف مركل، بعد تسلمها مهمات المستشارية بساعات، حين وصفت العلاقة مع اسرائيل ب"الكنز الثمين"، كانت تجسد هذا الالتزام وهذه المسؤولية. غير أن ما يثير الانتباه أكثر في هذا المضمار هو اعلان المسؤولين الالمان عن"هدية مميزة"لتل أبيب، طالما ماطل الحزب الاشتراكي سابقا في الموافقة عليها، وتتمثل في صفقة بيع غواصتين لاسرائيل بأسعار ُمخفضّة. في المحصلة، هل يمكن وصف هذا الكرم السياسي والعسكري الالماني تجاه اسرائيل باستمرار المسؤولية الاخلاقية، أم أن تصريحات نجاد والقنبلة النووية الايرانية، اضافة الى تسلم"حماس"مقاليد السلطة الى جانب حدود دولة اسرائيل، دفعا المانيا ومعها الدول الاوروبية الى إيجاد مناسبة ملائمة لهز العصا في وجه كل من يقف في وجه المشروع الأميركي في المنطقة؟ پ * كاتب لبناني متخصص في الشأن الألماني