ليس خافياً ان الإدارة الاميركية بقيادة المحافظين الجدد سعت الى اعادة فك المنطقة وتركيبها على نحو يطيح بأنظمتها ويبني مكانها أنظمة"ديموقراطية"تنسجم مع المفهوم الاميركي للديموقراطية والاصلاح في إطار تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يعطي أميركا الحق الحصري بالسيطرة والهيمنة على المنطقة. والطريق الى تحقيق هذا الهدف الاميركي، الذي يشكل خطوة ضرورية لفرض السيطرة الأحادية على العالم، كان يرتبط بالسيطرة على العراق وتحويله الى قاعدة انطلاق لتنفيذ الخطة الاميركية القاضية بإطاحة الأنظمة الرافضة للمشروع الأميركي وتغيير النظم التي لا تتكيف مع الاستراتيجية الاميركية الشرق أوسطية بحيث يتم رسم خريطة سايكس بيكو من جديد، لكن وفق صيغة أكثر تفتيتاً وتقسيماً لدول المنطقة. لكن ما يحصل الآن ان إدارة بوش وعبر وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس تقوم بإعادة تعويم الأنظمة المعتدلة وإقامة حلف جديد على غرار حلف بغداد الذي انشأه ايزنهاور في الخمسينات من القرن العشرين الماضي، في ما يبدو عودة أميركية لسياسة الأحلاف في المنطقة. لكن لماذا حصل هذا التبدل في التوجه الاميركي؟ وما هي الأهداف التي تريد واشنطن بلوغها من وراء ذلك؟ ان المتابع للتطورات منذ احتلال العراق واطلاق مشروع الشرق الأوسط الكبير يلحظ بوضوح ان خطة الادارة الاميركية للسيطرة على المنطقة تعثرت في كل المواقع التي كانت تستهدفها: أولاً: في العراق عجزت القوات الأميركية عن فرض سيطرتها الكاملة على الوضع وغرقت في حرب استنزاف تشنها المقاومة منذ اليوم الأول لاحتلال بغداد وبات المعدل اليومي للقتلى في صفوف الجيش الاميركي خمسة جنود، وهو رقم مماثل للرقم الذي كان يسقط لها في المراحل الأخيرة من حرب فيتنام. في حين ان جهودها السياسية لترتيب الوضع في العراق لا تزال تواجه العقبات في السيطرة الكاملة على مقاليد المنطقة بفعل نتائج الانتخابات التي خلقت حالاً من عدم الاستقرار السياسي في غير صالح الاحتلال. وقد أدى هذا الفشل العسكري والسياسي في آن الى خربطة كل الخطة الأميركية المعدة للمنطقة، وهذا ما أقر به مسؤول اميركي رفيع المستوى، حين قال:"ان واشنطن تجد صعوبة كبيرة في الخروج من نار جهنم العراقية، وهي تدفع ثمناً باهظاً مادياً وبشرياً، فيما الحكومة العراقية تعاني من الضعف". ثانياً: بالنسبة الى ايران، فإن المحاولات الاميركية من أجل إحداث تغيير داخلي يؤدي الى مجيء التيار الاصلاحي فشلت حيث أدت الانتخابات الأخيرة الى فوز كاسح للتيار الراديكالي الذي توج بالانتصار الكبير للرئيس أحمدي نجاد، الأمر الذي شكل تجديداً للثورة الاسلامية ولنهج قائدها الإمام الخميني، وعزز ذلك من التوجه نحو مواصلة ايران سياسة امتلاك كل مقومات القوة التي تعزز استقلالها ونموها وتطورها في المجالات كافة وفي المقدمة امتلاك التكنولوجيا النووية ذاتياً حيث فشلت الجهود الاميركية في ثني ايران عن ذلك. ثالثاً: على مستوى سورية، ايضاً لم تنجح الادارة الاميركية في عملية الضغط والتهويل لدفع القيادة السورية للتسليم بالاملاءات الأميركية، فيما التهديدات بضرب سورية لم تفلح في اخافة سورية التي تماسكت كما يبدو أكثر من اي مرحلة سابقة في ظل قيادتها الشابة التي تميزت بخطاب راديكالي على المستويين الوطني والقومي ينسجم مع طبيعتها وبيئتها والواقع الشعبي. رابعاً: في لبنان، رغم تمكن واشنطن من إحداث اختراق إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلا ان حلفاءها لم يتمكنوا من السيطرة الكاملة على مقاليد الحكم، فيما الاستعانة الاميركية بالإدارة الاسرائيلية من أجل فرض ما عجز عنه حلف 14 آذار لم تفلح، حيث مني العدوان الاسرائيلي الاخير بهزيمة كبيرة أمام المقاومة التي دمرت اسطورته وأسقطت كل الرهانات الأميركية في القضاء على المقاومة لتحويل لبنان الى منصة لمحاصرة سورية والسعي الى إحداث انقلاب اميركي فيها وصولاً الى عزل ايران والمقاومتين الفلسطينيةوالعراقية وانقاذ اميركا من مأزقها العراقي. وقد أدى هذا الانتصار للمقاومة الى اسقاط مخطط الاستيلاء على لبنان وبالتالي خلق مقدمات للتغيير الوطني بالاتجاه الذي يكرس لبنان العربي المقاوم، فيما أحرجت تداعيات هذا الانتصار عربياً الأنظمة المتصالحة مع اسرائيل وعززت نهج المقاومة ضد الاحتلال وخطها. خامساً: في فلسطين أصيبت كل محاولات النيل من المقاومة بالفشل، حيث أدت الانتخابات الى فوز كاسح لخط المقاومة بقيادة حركة"حماس"مما وجه صفعة قوية لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي توسل الانتخابات الديموقراطية لإحداث الانقلاب ضد المقاومة والخط الوطني في المنطقة، وباتت المقاومة تحظى بالشرعية الرسمية الى جانب الشرعية الشعبية وشرعيتها المستمدة من الحق في مقاومة المحتل. وقد فشلت كل محاولات الضغط والحصار لإسقاط الحكومة الفلسطينية التي شكلتها"حماس". هذه الاخفاقات الاميركية في كل هذه المواقع التي استهدفها الهجوم الاميركي على المنطقة انطلاقاً من العراق، هي التي تقف وراء هذا التبدل الحاصل في التوجه الجديد للإدارة الاميركية، من تغيير النظم الى العودة الى السياسة السابقة في الاعتماد عليها ركيزة لتفادي حصول تداعيات تقضي على المصالح الاميركية في المنطقة وتخرج أميركا مهزومة من العراق من دون حفظ ماء الوجه. من هنا، فإن ادارة بوش تسعى في هذه المرحلة الى اقامة حلف أميركي - عربي - اسرائيلي من أجل تحقيق جملة من الأهداف تحول دون حصول هذه التداعيات، وهذه الأهداف هي: 1- الالتفاف على الانتصار الذي حققته المقاومة في لبنان والعمل على احتواء المد الكبير الذي خلقته في المنطقة. 2- اقناع الأنظمة العربية التي اجتمعت معها وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس بأن الخطر الذي يهدد العرب يأتي من ايران وليس من اسرائيل. 3- دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مواجهة الحكومة الفلسطينية التي ترأسها حركة"حماس"من أجل كسر شوكتها واخضاعها للشروط الأميركية - الاسرائيلية أو الدفع باتجاه تفجير حرب أهلية فلسطينية - فلسطينية لإسقاط المقاومة. 4- دعم فريق 14 آذار في لبنان والعمل على فتح معركة ضد المقاومة والتحريض ضدها لإجهاض الانتصار الذي تحقق. 5- خلق صراع عربي - عربي تحت عنوان ان هناك دولاً معتدلة ودولاً هدامة يجب محاصرتها بما يذكر بمرحلة الخمسينات عندما دعمت واشنطن إقامة حلف بغداد في مواجهة مصر عبدالناصر وحلفائه في المنطقة. والحلف الأميركي الذي يقام اليوم تحت عنوان الاعتدال يراد له ان يكون في مواجهة سورية والمقاومة العربية ضد الاحتلال الاميركي - الاسرائيلي. إن أهداف واشنطن تعكس من جهة استمرار الاتجاه نحو اثارة التناقضات والصراعات وحالة الفوضى في المنطقة لمحاصرة خط المقاومة والممانعة وانقاذ المشروع الاميركي من الانهيار، لكنها من جهة ثانية تشير الى مدى عمق المأزق الاميركي الذي يتبدى بشكل واضح في عودته الى الاعتماد على الأنظمة القريبة منه والتي بات بعضها غير متحمس للانخراط في هذا الحلف الاميركي لشعوره باقتراب الهروب الأميركي من العراق وبالتالي ضرورة أخذ مسافة من إدارة بوش وعدم استعداء الشارع الذي بات أكثر تأييداً للمقاومة بعد انتصارها الأخير على اسرائيل وسقوط منطق التسليم بقدرة القوة الاسرائيلية التي كان يُزعم انها قوة لا تقهر. * كاتب فلسطيني