لا يتجاوز الكلام على "حزب الله" سقف الكلام على لبنان، ذاك البلد المنكوب بعجز دولته عن القيام وعجز شعبه عن الإجماع. فشيعة الحزب لم يجترحوا جديداً نوعيّاً ولا أحدثوا قطعاً مع تركيبةٍ من طوائف كلٌّ منها احتضنت بذور دولة في ذاتها، وكان لكلّ منها رقصتها العنفيّة والسلاحيّة المناهضة للدولة أو النائبة عنها، كما اتّصلت كلٌّ منها بمشروع خارجيّ، إقليميّ أو دوليّ أو بين بين، كان هو ما يمنح مشروعها أنيابه وأضراسه، فضلاً عن مداه. يصحّ هذا، في حقب متعاقبة، في الطوائف المسيحيّة والسنّيّة والدرزيّة، إضافة إلى"الطائفة"الفلسطينيّة في لبنان. مع هذا، ومن تحت هذا السقف اللبنانيّ الجامع، يتّصف مشروع"حزب الله"بخصوصيّة حادّة لم تبلغ إلى مثلها مشاريع الطوائف الأخرى، الأمر الذي تنمّ عنه عناصر عدّة متفاوتة الوضوح والتأثير: فقضيّة الحزب المركزيّة ليست"المشاركة"مثلاً، ولا"الإصلاح السياسيّ"أو"الإداريّ"ولا"ضمان أمن المواطنين والجماعات"أو"إعادة توزيع الدخل"لمصلحة"المحرومين"ولا"مكافحة الفساد"أو"تحسين شروط التمثيل السياسيّ"، وهي كلها عناوين رفعتها الطوائف اللبنانيّة، بما فيها الطائفة الشيعيّة، في هذا الطور أو في ذاك. حتى"حزب الله"نفسه قد يستعير، من أجل الظهور مظهر المالك عدّةً سياسيّة متكاملة، أحد تلك العناوين تبعاً لظرف بعينه، إلا أن قضيّته المركزيّة تبقى... السلاح. فإذا كانت الطوائف قد استخدمت تلك الأداة العنفيّة في مناسبات شهيرة خدمةً لتلك القضايا، فإن الحزب لا يتورّع عن استخدام القضايا تلك، وآخرها"حكومة الوحدة الوطنيّة"، خدمةً لسلاحه. أما الفارق بين القضايا المذكورة وبين السلاح، فأن الأولى يُناط أمرها بالنظام السياسيّ، فيما الأخيرة ترتبط بالوجود الوطنيّ نفسه. ذاك أن مسائل الاقتصاد والفساد والعدالة، بل الأمن ايضاً، تفترض إصلاح نمط سياسيّ قائم، فيما ازدواج أدوات العنف والسيطرة عليها يهدّد قيام السياسة أصلاً وفي الجوهر. وغنيّ عن القول إن السياسة لم تنشأ أساساً لمكافحة الفساد، ولا لإعادة النظر في توزيع المداخيل، وهو كلّه ما يندرج في وظائف نظامها. لكنّها نشأت للحؤول دون العنف ومحاصرة مصادره. والتمييز هذا لا يلغي، بطبيعة الحال، حقيقة أن نظاماً أعدل وأشدّ مواكبة لمستجدّات عصره يساعد المجتمع المعنيّ على العبور من العنف إلى السياسة، غير أنه تمييز يستهدف التفريق الوظيفيّ والتعريفيّ بين المستويين. والحال أن مشروع"حزب الله"، في المعنى هذا، يبدو أقرب إلى مشروع"الطائفة"الفلسطينيّة قبل 1982، وأساسه السلاح، منه إلى مشاريع الطوائف اللبنانيّة، بما فيها الشيعة قبل صعود الحزب. وهو تحديداً ما يرقى إلى أحد أبرز المصادر التي تعزّز النظر إلى"حزب الله"بوصفه خارجيّاً أكثر منه داخليّاً، ووجوديّاً، أو قياميّاً، أكثر منه سياسيّاً. يزيد في تظهير الصورة هذه أن امتلاك طائفة ما سلاحاً في بلد يشمل 17 طائفة، ينطوي على معنيين صارخين سبق أن استعرضا نفسيهما بسخاء إبّان حقبة منظّمة التحرير في لبنان: فهو، من جهة عمليّة، دعوة إلى الطوائف الأخرى كي تتسلّح، ما يجعل مشروع"حزب الله"موصولاً علناً بحرب أهليّة مفتوحة لا حاجة بنا إلى نباهة خاصّة كي نتوقعّها. وهو، من جهة أخرى، عمليّة ونظريّة، إخلال صريح مدفوع إلى حده الأقصى بمبدأ التسوية الذي لا ينهض من دونه بلد مؤلّف من 17 طائفة لكلّ منها روايتها ونظرتها وثقافتها الفرعيّة. وليس من الصعب افتراض أن من يسعى إلى تعطيل التسويات في بلد تعدديّ، والى دفعه نحو حرب أهليّة مفتوحة، طرف خارجيّ غير معنيّ بسلامه واجتماعه. ثم إن المشاريع الطائفيّة تستند كلّها إلى تأويل ولائيّ مُحوّر للدين أو المذهب في نصّهما الأصليّ أو المفترض أصليّاً. والتأويل هنا آثاره رمزيّة وفعليّة على السواء، بعضها يتجسّد في طقوس وبعضها في حضّ ومناشدات أو في استعادة تكريميّة لآباء الدين أو الطائفة. أمّا في حالة"حزب الله"فيُلاحَظ أن المسافة أقصر بكثير بين المقدّمة الدينيّة - المذهبيّة وبين التنظيم الحزبيّ وايديولوجياه المعتمدة. وهذا لئن عاد جزئيّاً إلى أن الحزب دينيّ تعريفاً وتسميةً، فهو يعود ايضاً إلى أخذه بنظريّة خلافيّة ارتبطت بالخميني، هي ولاية الفقيه. فهذه ما لا يُجمع عليه الشيعة أصلاً وهي، في الحالات جميعاً، غريبة كليّاً عن الشيعيّة اللبنانيّة وتقاليدها. ما لا شك فيه أن ولادة"حزب الله"في زمن يتّسم بصعود الهويّات الدينيّة، وانبثاقه من نظام يسمّي نفسه جمهورية"إسلاميّة"يفسّران بعض جوانب صورته تلك. بيد أن التفسير لا يبدّد الغرابة بقياس التجارب الطائفيّة اللبنانيّة الأخرى: فهنا تتبدّى المسافة أبعد كثيراً عن النصّ الدينيّ/المذهبيّ الأصليّ، فيما النسخة المعتمدة منه لا تحتلّ حيّزاً ملحوظاً في المسارين السياسيّ والإيديولوجيّ للقوى الطائفيّة المعنيّة. فما من مشروع طائفيّ حلّت قيادته في أيدي رجال الدين، بما في ذلك المشروع المارونيّ الذي لعبت الكنيسة دوراً قياديّاً في إطلاق صيغته الأولى أواخر القرن التاسع عشر. وما من مشروع انطوى على احتدام فقهيّ/لاهوتيّ كالذي شهدناه في خلاف"حزب الله"والسيّد محمد حسين فضل الله حول"ولاية الفقيه". ولئن بدت هذه دلالات غير مسبوقة في لبنان، فإنها حتماً مسبوقة في إيران، حيث قاد رجالُ الدين الثورةَ والسلطةَ كما ارتبط الكثير من السجال السياسيّ بسجال فقهيّ، منذ شريعتمداري إلى منتظري، أو أن السجالين تماهيا حتّى صارا واحداً. والراهن أن الإيرانيّة المنسوبة إلى"حزب الله"ليست كالأميركيّة أو الفرنسيّة المنسوبتين إلى قوى 14 آذار. فهذا اللون من العلاقات يتبدّى امتداداً"طبيعياً"لتقاليد بلد لم تنفصل نشأته، صغيراً ثم كبيراً، عن السفراء والقناصل وأحياناً الأساطيل. لكن الباحث عن وحدة ايديولوجية وتنظيمية بين الحزب الحريري والحزب الديغولي، أو بين الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الجمهوري الأميركي، فإلى عبث سخيف يفضي به البحث. فالقفز من فوق المقدّمات والعوائق الأهليّة اللبنانيّة في حالة الأحزاب الآذاريّة، وافتراض تناظُر بينها وبين مثيلات غربيّة لها ضرب من غباء حداثويّ يذكّر باعتبار بعض الصهاينة الحاجَ أمين الحسيني نازيّاً لأنه حالف ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فيما الحاج لا في عير التيوتونيّين الجرمان ولا في نفير روما الامبراطورية. فكيف وأنّ التحالفات القائمة لا تلغي قدرة أحزاب 14 آذار على اتّخاذ مواقف مخالفة للموقف الأميركي من كلّ قضايا الأرض قاطبة باستثناء لبنان، ولا تنفي قدرتها على أن تنتقد الولاياتالمتحدة لمواقفها من تلك القضايا كلّها. ولقائل ان يقول: لكن المهمّ عمليّاً هو الموقف من لبنان تحديداً. وهذا، على صحّته، لا يبدّد الفارق الضخم الذي يميّز القوى المذكورة عن"حزب الله"في ما خصّ علاقته بإيران وسورية، حيث يستحيل، تبعاً لعضويّة الارتباط ومتانته وشموليّته، أن نسمع رأياً نقديّاً في أكثر مواقف الحلفاء الكبار هامشيّةً وثانويّةً. لقد اعترى العلاقة المارونيّة بإسرائيل، في أواخر السبعينات ومطالع الثمانينات، درجة من التوتّر الذي بلغ ذروته المتفجّرة في لقاء نهاريا بين بيغن وبشير الجميّل. ومنذ زيارة دين براون أواسط السبعينات حتى"حرب التحرير"التي أعلنها ميشال عون بعد عقد ونصف العقد، عرّض المسيحيّون اللبنانيّونالولاياتالمتحدة لبعض أشرس الهجاء وأقساه. وفي طوري تحالفهم مع جمال عبد الناصر وياسر عرفات، انخرط بعض قادة السنّة، لا سيّما صائب سلام، في خلافات معروفة مع عبد الحميد السرّاج، رئيس جهاز الأمن في سورية، حين كانت جزءاً من"الجمهوريّة العربيّة المتّحدة"، ثمّ مع عبد الحميد غالب، سفير عبد الناصر في بيروت، كما لم تخلُ العلاقات مع عرفات من تشنّج يعلو ويهبط تبعاً للظرف القائم. وغنيٌّ عن التذكير بأن كمال جنبلاط ذهب في اعتراضه على النهج السوريّ، وكان نهجَه هو ذاته حتّى أشهر خلت، حدّ الموت قتلاً على يده. والواقع أن الحزب لا يستطيع، بسبب نهوضه على"المقاومة"، الانفكاك عن حلفائه الكبار حتى لو تطوّرت فيه رغبات مغايرة. هكذا تعمل عسكريّته، بوصفها علّة وجوده، على تضخيم خارجيّته وامتصاص نسبه الداخليّ. ولأن"حزب الله"موازٍ للدولة جيشاً واقتصاداً وسياسة وثقافة وعلاقات خارجيّة، أقوى منها في بعض هذه الدوائر، فذلك ما يُخرجه من سويّة الصراع على الدولة، على ما هي حال الأحزاب، ليدرجه في خانة النيابة عنها المتعالية عليها. والمظهر الخارجيّ هذا يعزّزه القطع مع تقاليدها، وتقاليد مجتمعها، في التسويات والمرونة. فإذا لاح، مثلاً، المقاتل الميليشياويّ المعهود أدنى من الجنديّ الرسميّ، سلوكاً وولاء وجديّة وانضباطاً، لاح مقاتل"حزب الله"أعلى منه على الأصعدة المذكورة، مَسوقاً بنظاميّة مركزيّة غير مسبوقة في حديديّتها ومربوطاً بالمقدّس أو ما يُتوهَّم مقدّساً، ناهيك عن صلاحه وحده لمقارعة إسرائيل وتحقيق"نصر إلهيّ"عليها. وهذا وذاك من معالم القطع مع الماضي، ومع الداخل، والتأسيس لحقبة جديدة وتقاليد أخرى، على ما فعلت أحزاب لينينيّة وفاشيّة وصمت كل ما هو متعارف عليه من تقاليد بالبائد الذي يستحق النار مصيراً أوحد. ولهذا نرى الحزب لا ينطلق من تراكم شيعيّ متحقّق، على ما تفعل أحزاب الطوائف، بقدر ما يبدّد ذاك التراكم. فباستثناء صور يتقلّص عددها للإمام موسى الصدر، لا يشكّل مثقّفو الشيعة ولا أثرياؤهم كتلة ضغط عليه، هم الذين كانوا المرشّحين لأن يجدّدوا لبنانيّةً تصلّبت شرايينها المارونيّة وصارت لغتها مجرّد عود على بدء رومنطيقيّ سقيم. فالحزب، في لحظة من تغافل الجماعات عن ذاتها، يأخذ طائفته بعيداً الى مكان موحش أكثر بكثير مما تستطيع هي أن تردّه إليها.