يقول غراهام فولر ورند رحيم فرانك ان كتابهما "الشيعة العرب: المسلمون المنسيّون" سانت مارتينز، يحاول الاجابة عن الاسئلة التالية: من هم الشيعة العرب وعماذا يبحثون؟ وما طبيعة دورهم في المجتمع الشرق اوسطي وسياساته؟ وما طبيعة "المشكلة الشيعية" من وجهة نظر المجتمعات والحكومات السنيّة؟ وكيف ستؤثّر ديناميات سياسات الدول ومواقف الشيعة على التطورات الداخلية والاقليمية؟ وما هي الاستراتيجيات التي يرجّح ان تتبناها الشيعة والدول في التعامل مع الموضوع الشيعي، وما الذي يجب ان تفكّره الحكومات الغربية بالنسبة الى الشيعة في سياق سياساتها المستقبلية للمنطقة، لا سيما ما اتصل منها بعمليات الدمقرطة؟ لكن هذا الكتاب المهموم بالعالم العربي والذي يقدّم معلومات ثمينة عنه وعن شيعته خصوصاً، يحدد، منذ صفحات مقدمته، صعوباته. ذاك ان الموضوع غير مرغوب فيه وحسّاس في العالم العربي، وهناك الكثيرون الذين ينفون وجود المشكلة اصلاً كما يتهمون من يتناولها بنكء الجروح وربما بما هو اكثر كتنفيذ الاجندات التآمرية. لكن الكاتبين يمضيان مؤكدين ان الطريقة الفضلى لخدمة المصالح الاميركية هي العمل على تطور المنطقة بسائر شعوبها واديانها وجماعاتها، خصوصاً من خلال الديموقراطية. و"مشكلة الشيعة" ليست، ببساطة، ذاك الموضوع العادي والتقليدي عن الاقليات في مجتمعات بعينها. فهم، في العراق والبحرين مثلاً، اكثريات الا انهم في وضعية اقلية. كما انهم كثرة كبيرة في لبنان. هكذا فحساسية موضوعهم تمضي عميقاً لتمس بعض المبادئ التأسيسية للاجتماع السياسي في المجتمعات التي يعيشون فيها. ذلك ان سيادة فكرة "الأمة" والتأويل السائد لها انبثق منهما تنميط طال الشيعة كانشقاق أول. وقد اضافت السنوات الاخيرة، لا سيما بعد الثورة الايرانية، تنميط النظرة الغربية اليهم بصفتهم جماعة متراصّة لحمتها العنف والتطرف. والأمر أعقد طبعاً، اذ بعد كل ذاك التاريخ المديد للجماعات الشيعية في ما لا يحصى من مناطق وبلدان عربية، وبالاحتكاك مع ما لا يُعدّ من الهويات الوطنية، بات من المشروع ان نتساءل ما اذا كانت هناك فعلاً هوية شيعية واحدة جامعة. اذ يفترض أمرٌ كهذا مسبقاً وجود رابطة تتعدى الجغرافيا والتاريخ والسياسة، لا بل الاصول الاثنية ايضاً. واذا كان الشيعة يشاركون السنة ايمانهم باعمدة الدين الاسلامي، تبقى الدراما المركزية في الشيعية ممثلة بمأساة الحسين. وهنا، واكثر بما لا يقاس من السنّة، حوّل الشيعة معتقداتهم الى ثقافة ونظام مرجعي يتألف من نصوص وطقوس وممارسات واساطير شعبية. ومثل الكنيسة المسيحية القروسطية يتميز العام الشيعي بفصول من المحطات والتذكارات والواجبات التي غالباً ما تؤدي جميعاً، كعاشوراء وشهر محرّم وعيد الغدير. والعنصر الآخر الذي يميز الهوية الشيعية، اذا صح التعبير، هو المرجعية. اذ يفترض بكل شيعي ممارس ان يتبع مجتهداً ما او اكثر في سائر جوانب حياته. والمرجع، تبعاً لنيابته عن الإمام، يحمل ثقلاً سياسياً يزيد او ينقص تبعاً للظرف. الا ان الدور البارز للمرجع والذي لم يتحصّل الا في القرون القليلة الماضية، غدا بالغ الاهمية في تقرير مدى التقارب بين التأويل الديني وأسئلة العصر. وهذا، من حيث المبدأ، وسم الشيعية بسمة الانفتاح لا سيما وأن موت مرجعٍ بعينه يلغي الالتزام بفتاواه وتأويلاته فاتحاً الباب للأتباع كي يختاروا خلفاً له. والحال ان الشيعية، في القرن العشرين، عاشت خارج المراكز الكبرى التي صُنع فيها التاريخ العربي، كالقاهرة ودمشق وبغداد والرياض. وهذا ما جعل الهوية الشيعية تتشكل، الى حد بعيد، على يد الضغوط الخارجية التي املتها البيئة المحيطة على الشيعة، فضلاً عن المواصفات الجمعية المتوارثة. وقد كان الاضطهاد النازل بهم اقوى هذه المكوّنات. فما يعزز البُعد الثقافي - الديني في الهوية الشيعية هو تعريفهم الاجتماعي ما بين جنوبلبنان والبحرين. وهذا الاحساس بالاضطهاد وضعف العدالة مَلمح قوي في الادراك الذاتي للشيعة كما في التضامن ودعواته. بل هذا ما يحسّه حتى اولئك الذين لا يتقيدون الا في الحد الادنى باملاءات المذهب وفروضه. لكن على رغم ان للشيعة دوراً قليلاً في تشكيل الحياة العامة في دولهم، فان ما يزيد في تقسيمهم الخلافات التي تطرأ بين انظمة الدول التي يعيشون فيها. وتمثل العلاقات الايرانية - العراقية خير مثال على هذا. بيد ان معظم الفوارق بين طوائفهم تنبعث من اسباب طائفية داخلية. فالمكوّنات الكثيرة للهوية الدينية والثقافية الشيعية، والمعاناة المشتركة، تعمل على احداث درجة من التلاحم وتبدي الطائفة، للوهلة الاولى، كبوتقة مغلقة. الا ان الواقع ان المعتقد والتجربة الواحدين لا يكفيان لتجاوز التنوع البعيد القائم، ناهيك عن افتراض اهداف واحدة بعيدة. اكثر من هذا فالكثير من العوامل التي توحّد الشيعة تقسمهم في الآن نفسه: والمواقف من المرجعية مثال جلي اذ ان درجة الالتصاق بالتعاليم الدينية سبب اساسي في خلافاتهم. كذلك فالاشكال الكلاسيكية للتراتُب الاجتماعي تقسمهم ما بين كثرة فقيرة وقلة غنية او متعلمة او مدينية. ذاك ان الطبقة الاجتماعية عنصر قوي في الهوية. وهكذا جميعاً يجعل من المستحيل الكلام على هوية متجانسة. لكن ما الذي تسبب بالانبعاث الشيعي؟ عوامل عدة لا يتفرد بها الشيعة. فهم والسنة يشتركون في خيبة امل حيال الحداثة والايديولوجيات الغربية وهزائم العرب في فلسطين وتفتت المجتمعات نتيجة للتمديُن والبقرطة. وبالنسبة اليهم تحديداً ارتبط هذا كله بجذور في تجربتهم التي فاقمت مرارتَها الهامشيةُ والوضع الاقتصادي وباقي العوامل. فتقليدياً ابتعدت القيادات الشيعية عن السياسة، لكن استمر وجود النشاطية من دون انقطاع. وكان للشعور بالمظلومية والحرمان ان شكل قاسماً مشتركاً بين كل مداخلاتهم ومداخلات احزابهم في السياسة. فالمرحلة المبكرة من الانخراط، في بدايات القرن، عبّرت عن التذمر الاقتصادي الاجتماعي وطلب الحكومة "العادلة". وفي منتصف القرن تترجم هذا الى مفاهيم اوروبية عن النظام الطبقي، وذاك بالانتساب الى احزاب اشتراكية وشيوعية محظّرة. لكن الطور الثالث انتج طرحاً شيعياً صريحاً ومباشراً فيما اتسع الخطاب الاقتصادي ليطول جوانب السلطة السياسية والحصة الذاتية في مؤسسات الدولة. وانعكست الحرب الباردة في العالم العربي مواجهةً بين معسكرين: المحافظ المتحالف مع الغرب، وذاك المائل الى سياسات يسارية وقومية. وبدا الانتقال من الطور الثاني الى الثالث ذا سمات ملحوظة، اذ ما ان انحاز شبان شيعة الى المعسكر الثاني والى ايديولوجياته الاكثر راديكالية، كما تدل العلاقة مع الحزب الشيوعي العراقي خصوصاً، اصيبت المرجعية بالذعر، وربما تعاونت مع البعث في اوائل الستينات لاصدار فتوى تصم الانتساب الى الشيوعية بمعاداة الاسلام. وفي مطالع العقد نفسه نشر السيد محمد باقر الصدر كتابه المفصلي "فلسفتنا" الذي قدّم كلاً من الشيوعية والرأسمالية كايديولوجيتين اجنبيتين ترتكزان على المادية التي تحقّر الكائن الانساني الذي يُعليه الاسلام. ثم كان تشكيل "حزب الدعوة" الذي وفّر الشكل الشيعي العراقي في الاستجابة لاخفاق بناء الدولة واحداث التنمية، فضلاً عن الهزائم العربية وتراجع اليسار. والحق ان ما عبّر عنه باقر الصدر في العراق، وما عبّر عنه السيد موسى الصدر في الفترة نفسها في لبنان لم يكونا متماثلين. الا انهما، مع هذا، انتجا خلاصة واحدة هي توليد منبر للتعبير السياسي الشيعي المستقل. وهكذا، وعلى عكس ما يُظن، فالثورة الايرانية لم تكن ما انجب الانبعاث الشيعي ولو انها عززته وقدمت له نقطة ارتكاز للهوية التي كانت قطعت شوطاً في تشكّلها. وبالمعنى العريض، يمكننا موضَعة المشكلة الشيعية ضمن الاطار الاوسع لقضية الاقليات في المنطقة. لكن طرح الامر هكذا يلقى رفضاً اجماعياً بالنظر الى ثقافة تأبى الاقرار بالانقسام الى اكثرية واقليات. وفي ما خص الشيعة المشاركين في هذه الثقافة فالامر يطرح عليهم معضلة مفادها ترددهم في تبني مبدأ المطالبة بحقوقٍ اقليةٍ على ما هي حال المسيحيين او الاكراد، خصوصاً ان هذا يجرّ عليهم ما لا يجرّه على الآخرين من تهم بالطائفية وتجزئة وحدة الجماعة الاسلامية. والحال ان التهمة الاهم التي وجهتها الدولة العربية الحديثة للشيعة تطول مسألة "الولاء". لكن اذا وجد هذا القاموس علاجاته في الغرب ب"العقد الاجتماعي" بين الشعب والحكومة ومن ثم بوثائق تأسيسية كاعلان الاستقلال الاميركي حيث يُشرّع حق المواطنين في الثورة، فان هذه المفاهيم ليست غريبة عن الاسلام، لا سيما مفهومه عن "البيعة"، علماً ان اعمالاً وتصورات كهذه لم تحظ بالعناية والتطوير النظريين. وعملياً ففي معظم البلدان التي يقطنها شيعة لا توجد مواثيق واتفاقات معلنة تحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ما ترك الباب مفتوحاً لتصوير الشيعة كبرّانيين او خارجيين. وقد تفاقمت هذه الصورة بسبب شيعية ايران خصوصاً وقد اضحت مدنها الدينية المقدّسة، في العقود الاخيرة، اهم من مثيلاتها العراقية واوسع تأثيراً لاسباب تتصل بالانظمة التي تعاقبت على بغداد اتصالها، من ناحية اخرى، بقيام النظام الخميني في طهران. والراهن ان علاقة الشيعة المضطربة بالدولة الحديثة تشرب من ماء البدايات، حين "الانشقاق" الاول مع الامام علي. ثم كان لتوالي الهزائم والخيبات ان غيّر تركيب الشيعية في اواخر القرن التاسع اذ راح الائمة يكرّسون انفسهم للدرس والتفقّه والقيادة الروحية بعيداً من الانتفاضات والحركات المعارضة. بيد ان اصطباغ الحكم بالظلم ظل محفوراً في بسيكولوجيا شيعية جمعية ما. واذا صح اننا بتنا نرى أخيراً، وفي صورة مفارقة، حركات اصولية سنية تستعير "الوعي الشيعي" عن مظلومية الحكم والدولة وضرورة مقاومتهما، بقي أن الشعور الشيعي بالهامشية وجد ما يغذّيه في الحكم العثماني والادارات السنية المحلية والمدينية التي اعتمد عليها. حتى اذا انقضى العهد المذكور استأنفت الدول الاوروبية المنتدبة، من موقع انشائها للدولة الحديثة، موقف التهميش اياه حيالهم. اذاً، ومن غير ان يكون الاعتراض الشيعي حديث العهد، فان تحولاً نوعياً طرأ مع تشكيل "حزب الدعوة" في العراق الذي نشأ رسمياً في 1967 الا ان نُواته ظهرت في 1958. فقد خضع الحزب هذا لتنكيل عظيم في السبعينات كما اعدم باقر الصدر وشقيقته في 1980. وفقط بعد هذا الاضطهاد كله شرع الحزب ينتقل الى التظلل بايران، فيما كانت حركة "امل" ومن بعدها "حزب الله" من بنات النزاع الاهلي اللبناني. ولئن ابتدأ موسى الصدر مشروعه داعياً الى تجديد البناء الوطني واصلاحه فان النزاع اللبناني وتماديه فعلا بحركته ما فعله الاضطهاد بحزب الدعوة في العراق. وفي هذه الغضون كان للحرب الطويلة بين ايرانوالعراق ان قدمت المسرح الدرامي المطلوب لتبلور الهوية قبل ان تنفتح الساحة الاخرى في جنوبلبنان. وقصارى القول ان التمايزات الوطنية وغيرها داخل الشيعة لا تغني عن مبادئ عريضة تنهض عليها جوهرياً النضاليات الشيعية، ولو جرفها هذا الحدث او ذاك بعيداً منها، او اكسباها ملامح اخرى. وأهم تلك المبادئ حقوق متساوية في المواطنة، وانهاء للتمييز، واصلاحات ديموقراطية وحماية لحقوق الانسان، وضمان حقوق الاقليات، وتطبيق الطائفية السياسية بصفتها المعادل المحلي لنظام العمل بالكوتا "العمل الايجابي" الاميركي، وهو ما يتجسد هنا في التمثيل النسبي، لا سيما في لبنان. كذلك فمن تلك المبادئ العلمنة، ولكن بمعنى توفير الحريات الدينية للجميع من دون تدخل الدولة، اي بحسب الصيغة الاميركية لا الفرنسية ولا التركية. إن العلاقات بين ايران والشيعة العرب معقّدة ورجراجة. وهي شهدت تذبذبات عدة في السنوات الخمسين الماضية، وليس من المستبعد ان تشهد تذبذبات اخرى للسنوات العشرين المقبلة. ففيما تتجه طهران الآن ابعد فأبعد عن العقيدة والثورة نحو متطلبات الدولة والاصلاح الداخلي والتطبيع مع العالم الخارجي، فان علاقاتها بالجماعات الشيعية العربية ستكون انتقائية وأشد ارتباطاً بخدمة مصالحها. فهي من المرجح ان تتجاهلهم حيث تكون علاقتها جيدة مع انظمتهم، مستخدمة صلتها بهم حيث يعود ذاك بالنفع عليها. وهذا يطرح مشكلة نظرية وعملية تطول الاحزاب العابرة للحدود الوطنية، قومية كانت ام اسلامية، بعد اليوم. ففي زمننا المعولم يمكن للروابط اللغوية او الدينية الجامعة ان تلعب دورا كبيراً في الهويات الكبرى ماكرو هويات وتشكيلها، الا ان من الصعب ان تنعكس على الصعيد السياسي والدولتي الذي يتفرّع ويتعدد تعدد الدول والاوطان. ويُقدّر، في المقابل، ان يبتعد الشيعة العرب عن ايران مع احساسهم بتراجع الفائدة التي يمكن لهم ان يجنوها من هذه العلاقة، وكذلك بتزايد احتمالات الخسائر المترتبة عليها. وقد يتصاحب هذا مع امعان في التوكيد على الهويات السياسية الوطنية للدول التي ينشطون لتحسين اوضاعهم فيها. لا بل قد يتعاظم في اوساطهم عنصر العداء لايران رداً على سلبيات العلاقة الماضية وتوكيداً للقناعات الجديدة. والحق ان الشيعة العراقيين شديدو الانقسام حول هذا الموضوع تبعاً لعيش الكثيرين من العراقيين في ايران في ظروف لا يُحسَدون عليها. فاذا تحقق سقوط صدام لمصلحة نظام تعددي وديموقراطي في بغداد، فما يُرجّح هو احتدام التنافس بين العراقيينوالايرانيين حول الطرف الذي يتولى القيادة ويملأ الفراغ. اما من وجهة نظر غربية فان علاقات طهران مع الطوائف الشيعية العربية قابلة لأن تتبدّى ايجابية اكثر منها سلبية شريطة حصول تغيّر ديموقراطي ايراني يساعد على تخفيف الاحتقانات وفض النزاعات. وهذا من دون ان يغيب الافتراض القائل ان الشيعية، مثل اي مذهب او دين يتجاوز الحدود الوطنية، سترسو على تعددية في المراكز تفرضها الحدود المذكورة. وبالنسبة الى البلدان العربية كلها يمكن القول إن تراجع الولاءات الأهلية داخل النظام السياسي، وحلول السياسات المدنية المرتكزة على قضايا محددة محلها، سيكونان مفيدين للشيعة كما لغيرهم. وهذا انما يعود الى دور مثل هذا التغيير في تمويه خطوط الانقسام الديني والمذهبي، وفي توسيع دائرة الحوار بين الاقليات جميعاً، بما فيها الشيعة، وبين الاكثرية السنية. والشيعة تحديداً يملكون، نظرياً، كل مُحفّزات الدفع نحو الديموقراطية في العالم العربي. ولهذا فان التزاماتهم المنطوقة، وإن غير المُجرّبة بعد، بالديموقراطية هي مما ينبغي ان يطمئِن الغرب الذي ينظر الى الدمقرطة كشكل في الحكم يقود الى استقرار واعتدال اكبر. بطبيعة الحال لا يسع احداً ان يضمن ان الشيعة سوف يكونون، عند وصولهم الى سلطة ما، اكثر ديموقراطية من باقي الجماعات، خصوصاً اننا نتحدث عن منطقة لم يُعرف التقليد الديموقراطي فيها بأية قوة ملحوظة. وما نعلمه من تجارب سابقة كثيرة ان طريقة الوصول الى الحكم تؤثّر تأثيراً بعيداً في الكيفيات السياسية التي تُعتمد لاحقاً. مع هذا فالفرضية كلها تبقى قابلة للطعن لأن الشيعة لن يصلوا هكذا، وككتلة واحدة متجانسة، الى اية سلطة. فهم، من جهة، تقسمهم معطيات الطبقة الاجتماعية والمناطق والافكار وانظمة القرابة. وهم، من ناحية ثانية، مشدودون الى ما لا حصر له من ائتلافات وتحالفات مع قوى اخرى في المجتمع المعني. ثم ان كل اقتراب من السلطة سوف يطلق ما لا حصر له من تناقضات داخلية على ما هو ظاهر الآن في حالتي المعارضة الشيعية العراقية وشيعة الكويت. واذا كانت السياسات الراديكالية لايران، في العقدين الماضيين، قد لعبت دوراً كبيراً في تعقيد الوجود والدور السياسيين للشيعة العرب، يبقى ان مصالحهم تكمن اليوم في تطوير مراجع تقليد محلية. وهذا ما يطمئن السنّة الميّالين، لسبب او آخر، الى التخوف من "الارتباطات بالخارج". وما يُلاحظ ان الحالتين اللتين استطاع فيهما الشيعة العرب احراز درجة بعيدة من المساواة في الحقوق، اي حالتي لبنانوالكويت، فان ما تمّ فيهما تم من داخل سياق ديموقراطي. لكنْ لئن اختلطت نشأة هذين السياقين بخضّات كبرى، كالاجتياح العراقي للكويت والحرب اللبنانية، فالمطلوب ضبط هذه الخضّات الانتقالية وتقليل اكلافها الانسانية، وهو الجهد الذي يمكن ان يساهم الغرب فيه. بيد ان المشكلة المفتاحية في النهاية، وفي ما يعني المنطقة ككل، هي الحؤول دون هيمنة سياسات عدمية متبادلة في ما يتصل بعلاقات السنّة والشيعة. وقد يتجسّد احد العلاجات في اعتماد شكل ما من التمثيل النسبي او الطائفية السياسية على النحو المعمول به في لبنان. فاذا لم تكن الفلسفة السياسية الاميركية تجد في مثل هذه الميكانيزمات عنصراً جذاباً، يبقى ان الطائفية السياسية وضمان توزيع معقول للحصص يمكنهما تسهيل المعاناة في المرحلة الانتقالية المحفوفة بالمخاطر لبلدان كثيرة. وهذا من دون التغافل عن مشكلات عدة تلازم العلاج المذكور اهمها الميل الى تحويل التوازنات العددية الى واقع جوهري يصعب، مع الزمن، تعديل صيغه السياسية. وهذا، بطبيعة الحال، يسيء الى انماء تحالفات سياسية تتعدى المصالح الاثنية او الطائفية. * كاتب ومعلّق لبناني.