نجاح نظام الديموقراطية الوفاقية الذي يأخذ به لبنان يقتضي وجود تحالف حاكم كارتل يضم قادة الجماعات الرئيسية في البلاد. وقيام هذا الكارتل يتطلب توافر شرطين رئيسيين: الاول هو ان تملك هذه القيادات سلطة حقيقية بين مؤيديها بحيث تستطيع الزامها بما تقرره. الثاني، وجود تفاهم متين بين قادة هذه الجماعات حول جملة القضايا العامة الكبرى. فحتى ولو كان التباعد كبيراً ومؤثراً بين قواعد هذه القيادات، وحتى ولو كانت هذه القواعد والجماعات البشرية لم تألف التعاون و"العيش المشترك"و"الانصهار الوطني"، وحتى ولو لم تذق طعم"الوحدة الوطنية"الحلو المذاق، فانه يكفي ان تكون القيادات مقتنعة بهذه القيم ومتفقة على المواقف العامة، يكفي ذلك حتى تتمكن من التوصل الى تشكيل تحالف حاكم. ويمكن قياس متانة هذا التحالف اذا صمد زمناً طويلاً واخذ يتحول من اتفاق على مستوى القيادات الى نظرة تتسرب الى المواطنين العاديين فيتأثرون بها من دون الرجوع، بالضرورة، الى ارشادات وتوجيهات اولئك القادة. فالى أي مدى تسهم الانتخابات النيابية اللبنانية الحالية في توفير هذين الشرطين؟ الى أي مدى تسهم في ترسيخ الديمقراطية الوفاقية؟ وجهت الى الانتخابات النيابية اللبنانية انتقادات كثيرة وقوية، ولكنها تظهر وكأنها من اكثر الانتخابات اللبنانية تحقيقاً للشرط الاول لقيام كارتل وفاقي حاكم. فالانتخابات التي غلب عليها الطابع الطائفي والمذهبي انتجت تكتلات دينية على درجة عالية من التماسك والاتساع. وتقف على رأس هذه التكتلات قيادات تتمتع بقدرة ملحوظة على التعبير عن قواعدها وعلى توجيهها وتسييرها. ربما لا يكون هذا المشهد جديداً في الطائفتين الدرزية والشيعية اللتين تنتشران انتشاراً واسعاً في الريف اللبناني. فقد سبق للزعيم الشيعي كامل الاسعد ان حقق مثل هذا النجاح خلال الستينات. ونجح الميني - كارتل الذي ضم حزب الله وامل في الامساك بمقاليد الزعامة الشيعية بشكل محكم خلال دورات انتخابية فائتة. وتمكن كمال جنبلاط ومن بعده وليد من تعزيز زعامة عائلتهما ومن تحجيم منافسيهم من آل ارسلان خلال دورات انتخابية بدأت في المرحلة الشهابية. بالمقارنة مع المشهد الانتخابي في الطائفتين الشيعية والدرزية، فان الانتخابات اسفرت عن ولادة ظاهرة مماثلة لدى الطائفة السنية، بعد ان اكتسح تيار المستقبل لوائح الرئيس الشهيد رفيق الحريري اكثر المقاعد المخصصة لهذه الطائفة. المشهد نفسه تكرر تقريباً لدى الطائفة المارونية حيث حصد التيار الوطني الحر الجنرال ميشال عون اكثرية المقاعد النيابية المخصصة لها في جبل لبنان وزحلة فبات قادراً على النطق باسم الطائفة والتفاوض نيابة عنها. صحيح ان مرشحي تيار الوطني الحر وحلفاءهم في الشمال من الشخصيات المارونية والمسيحية لم ينجحوا في الانتخابات. صحيح ان المرشحين والمرشحات الموارنة الذين فازوا بالانتخابات لا تنقصهم المصداقية السياسية. الا ان الاصوات التي نالها مرشحو التيار الوطني الحر وحلفاؤه بين المسيحيين تكفي لاضفاء صفة زعيم الطائفة المارونية على ميشال عون. وصحيح ان الجنرال عون يشدد على صفته الوطنية وليس الطائفية فحسب، ولكن حتى الآن فان النظرة الغالبة اليه هي انه زعيم ماروني، بل زعيم الموارنة، اكثر من أي شيء آخر. ان توفير الشرط الاول لترسيخ نظام الديموقراطية الوفاقية اي بروز زعامة قوية لدى كل طائفة من الطوائف الرئيسية الفاعلة في البلاد ضروري ولكنه، كما اشرنا اعلاه، ليس كافياً لتكوين تحالف يضم تيار المستقبل وحزب الله وحركة امل والحزب التقدمي الاشتراكي جنباً الى جنب مع التيار الوطني الحر. فحتى يكتمل الشرطان ينبغي ان تشعر القيادات الاربعة بانها مضطرة الى التحالف في ما بينها وإلا خسرت مواقعها السياسية. ولكن قيام تحالف يضم المنتصرين في الانتخابات مرهون الى حد كبير بمواقف القيادات الفائزة بالانتخابات تجاه القضايا الرئيسية التي تمس مصالح اللبنانيين وتثير اهتمامهم، أو أهتمام قسم واسع منهم، على الاقل. وابرز هذه القضايا على صعيد السياسة الخارجية هي الموقف من سورية واسرائيل والولايات المتحدة. اما على الصعيد الداخلي فهي مسألة الشراكة الطائفية والمديونية والفساد والاوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة. كل قضية من هذه القضايا تؤثر في تشكيل التحالفات بين القيادات الاربعة. وقد يبدو التفاهم ممكناً اذا بقي الموقف من هذه القضايا في حدود العموميات، ولكن بناء التحالفات المتينة يتطلب الاتفاق على الكثير من التفاصيل، وحيث ان"الشيطان هو في التفاصيل"، كما يقولون، فانه يمكن القول بان المفاوضات من اجل قيام كارتل حاكم تحتاج الى جهد كثير يتجاوز ما بذل في تكون التحالفات الانتخابية. ومثل هذا الجهد لن يكون ضرورياً لتذليل الخلافات والتباينات المعلنة والصريحة بين التيار الوطني الحر، من جهة، والافرقاء الآخرين من جهة اخرى، بل انه من الارجح ان تبرز الحاجة اليه لتجاوز تباينات بين القيادات السنية والشيعية والدرزية ايضاً. فعلى صعيد المواقف تجاه التدخل السوري في لبنان، في الظاهر، على قدر كبير من التشابه. فهناك شبه اجماع على ضرورة الحد من هذا التدخل. ولكن باستثناء ذلك، فان بين الجماعات الاربعة الرئيسية مواقف متنوعة. فهناك من يرى ان معركة حماية لبنان من التدخل السوري تخاض في بيروت، بينما يراها آخرون تخاض في دمشق وكأنها صراع صفري بين اللبنانيين والسوريين. وبين النظرتين فارق كبير ينبغي تسويته قبل اقامة أي حلف حاكم. واذا كانت الحساسية تجاه التدخل الاميركي في لبنان لم تصل حتى الآن الى مستوى الحساسية نفسه تجاه التدخل السوري، فمن الواضع انها في تصاعد مستمر مع اتساع مظاهر تدخل واشنطن في الشأن الداخلي اللبناني. تبلورت هذه المظاهر في نشاطات كثيرة مثل التدخل العلني في تركيب اللوائح الانتخابية وفي نصرة قيادات سياسية معينة في موسم الانتخابات، وفي توجيه ارشادات الى اللبنانيين تتناول تفاصيل خياراتهم السياسية، هذا فضلاً عن قدوم بعثة عسكرية اميركية للمساهمة في اعادة تأهيل الجيش اللبناني وبعثة اخرى من مكتب التحقيقات الجنائية الفيديرالي الاميركي للتحقيق في مقتل الصحافي الشهيد سمير قصير. ولقد تحول هذا التدخل الى قضية استوقفت اطرافاً سياسية متعددة منها النائب اللبناني باسم السبع الذي وصفها بانها"… صورة من ابشع الصور الديبلوماسية التي تثير حساسية المواطنين واشمئزازهم من ازمة الوصاية الخارجية المتعاقبة على لبنان"، وملاحظات مماثلة صدرت عن قيادات سياسية ودينية اخرى مثل النائب السابق اسعد هرموش والمرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله. فاذا استمرت الظاهرة وردود الفعل على حاليهما فانها ستصل الى مستوى يفرض على اطراف التحالف الحاكم اللبناني المرتقب ان يحدد موقفاً منها ويؤثر بالتالي في العلاقات بين اطراف التحالف نفسه. ان الموقف تجاه اسرائيل يبدو موحداً وقد يشكل اساساً جيداً لقيام التحالف اذ ان وجود خطر خارجي محدد يعتبر عاملاً مهماً في نجاح تجارب الديموقراطية الوفاقية. ولكن للوصول الى مثل هذا الموقف لا بد من الاتفاق على استراتيجية وطنية تتطرق الى مسائل انقاذ الاسرى اللبنانيين من السجون الاسرائيلية، ومقاومة مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وحماية الثروات الطبيعية الوطنية وبخاصة المياه ووضع حد لقيام اسرائيل بانتهاك الاجواء اللبنانية. كل ذلك لا يتطلب تعزيز القدرات اللبنانية الرادعة، وهو قد يسهل الاتفاق عليه، ولكن قد يتطلب اتباع سياسة تعرضية وممارسة ضغط متعدد الاشكال على اسرائيل وهو ما قد يستدعي جهداً حثيثاً للوصول الى تفاهم حوله. واذا كانت قضايا العلاقات الخارجية جديرة بالتأثير في تركيب التحالف اللبناني الحاكم، فان القضايا الداخلية هي الاكثر تعقيداً وتأثيراً على هذا التركيب. فهناك قضية العلاقات بين الطوائف والتراتبية الطائفية. وعلى هذا الصعيد فانه يوجد بين اللبنانيين من أمل، بعد"انتهاء الحقبتين الفلسطينية والسورية"من التاريخ اللبناني، في اعادة التراتبية الطائفية الى ما قبل اتفاق الطائف حتى ولو دأب على اعلان تمسكه بالطائف. ولقد تجسد التعبير الاقوى عن هذه الآمال في الحملة العنيفة ضد قانون الانتخاب لعام 2000 القائم على اساس الدائرة الانتخابية الموسعة مع ان اتفاق الطائف يؤيد مثل هذه الدائرة. مقابل هذا الفريق من المواطنين الاقوى حضوراً بين المسيحيين اللبنانيين، يتمسك فريق آخر اكثره من المسلمين اللبنانيين باتفاق الطائف ويعارض أيه محاولة لاحياء التراتبية الطائفية التي سبقته. وكما قاد بعض قادة التحالف الانتخابي الفائز حملة اخراج السوريين من لبنان، فانه يطالب ويعد اليوم، كما جاء في تقرير لمجلة"نيوزويك"الاميركية بتجريد حزب الله من سلاحه. واذا كان هذا الفريق يستجيب في هذه الوعود الى ضغوط خارجية، فانه ينظر في الوقت نفسه الى مسألة سلاح حزب الله من منظار العلاقة بين الطوائف. في المقابل فإن هناك شعوراً متفاقماً ومحقاً لدى فريق آخر من اللبنانيين خصوصاً من مؤيدي حزب الله، ان المطالبة بتجريده من السلاح، كما هي مطروحة الآن وخارج أي افق وطني، تندرج في اطار استراتيجية اميركية - اسرائيلية من اجل ضمان امن اسرائيل وتعزيز هيمنتها على منطقة شرق المتوسط على حساب المصالح والحقوق الوطنية اللبنانية والعربية. ولا تقل القضايا الداخلية عن قضايا العلاقات الخارجية مثل مكافحة الفساد والمال السياسي اهمية ودقة وتعقيداً. فلهذه القضايا وجه وطني عام ووجه آخر طائفي، وفئوي. فالمطالبة بفتح ملفات الفساد والمال السياسي حافز يمكن ردها ايضاً الى الرغبة في اضعاف قيادات طوائف اخرى امسكت بزمام الحكم خلال الحقبة السورية وفي ما بعد الطائف. فاذا نجح هذا المسعى، افسح في المجال امام احياء نظام ما قبل الطائف او على الاقل استرجاع بعض جوانبه الرئيسية. في هذا السياق يمكن للطائفة المارونية استعادة وزنها ونفوذها السابقين. في المقابل فإن هناك دعوة الى مكافحة الفساد ووضع حد لتأثير المال السياسي على الحياة العامة على اساس انه لا يمكن بناء دولة عصرية وديموقراطية اذا لم تضع النخبة الحاكمة الجديدة نصب اعينها تخليص لبنان. ان المواقف تجاه هذه القضايا ستؤثر تأثيراً كبيراً في احتمالات قيام تحالف رباعي يحكم لبنان ويؤمن استقرار الديموقراطية الوفاقية فيه. ولقد كان مفروضاً ان تكون هذه القضايا موضع حوار هادف بين القوى اللبنانية الفاعلة، وكان حرياً بهذا الحوار ان يصل الى تجديد الميثاق الوطني اللبناني في ضوء المستجدات والمتغيرات الكثيرة التي المت بلبنان على كل صعيد سياسي واقتصادي واجتماعي وديموغرافي. ولكن الذين اداروا معركة اخراج سورية من لبنان ابقاء اكثر هذه القضايا في الظل، وآثروا اختزال التحديات التي تواجه لبنان بتحد واحد فحسب الا وهو الوجود السوري في لبنان. واعتبر هذا الفريق ان اية دعوة لمناقشة القضايا الساخنة الاخرى بمثابة عملية التفاف على"معركة اخراج السوريين من لبنان"، ومحاولة لتطويل عمر النظام"الامني السوري - اللبناني". بالمقارنة اعتبر دعاة التركيز على مسألة العلاقات السورية - اللبنانية ان الموقف الموحد من هذه القضية يمكن اعتباره اساس الوحدة الوطنية اللبنانية الجديدة ومعركة بناء الاستقلال الثاني. لقد خرج السوريون من لبنان، ولكن المعضلات التي تواجه اللبنانيين لم تخرج معهم. وتجد القيادات اللبنانية المعنية نفسها مضطرة الى التحاور حول هذه القضايا خلال زمن قصير لا يكفي لانضاج استراتيجية وطنية جادة لمواجهتها. كذلك يطلب الى هذه القيادات التوصل الى تفاهم حول هذه القضايا في ظروف غير مناسبة. فهناك بعد المعركة الانتخابية معارك انتخابات رئاستي المجلس النيابي والوزراء وكل ذلك يشحن الاجواء بعناصر المنافسة والصراع الحاد. ولقد لمسنا بعد انتخابات الشمال اللبناني شيئاً من هذا التوتر في التراشق اللفظي الحاد بين وليد جنبلاط وسليمان فرنجية. وبديهي ان تتوتر العلاقات توتراً حاداً بين القيادات المعنية وان تؤثر هذه العلاقات في نظرتها الى القضايا الوطنية. قد تصل قيادات الطوائف التي ربحت المعارك الانتخابية الى مواقف مشتركة حول المعضلات الوطنية ومن ثم الى تشكيل تحالف حاكم. ولكن بعد وقت طويل تقضيه في التحاور والتفاوض حولها. خلال هذه المدة الطويلة ستكون ابواب الساحة اللبنانية مشروعة امام شتى انواع الازمات والمتاعب. ولعل في ذلك بعض الخير اذا قيض للبنانيين ان يستنتجوا من ذلك كله انه من الافضل لهم التخلي عن العصبيات الطائفية، وان ينتقلوا ببلادهم من نظام الديموقراطية الوفاقية الى نظام اساسه المواطنة والمساواة. كاتب لبناني.