كما هي العادة بدا رئيس وزراء بريطانيا توني بلير وهو المحامي المختار، أو المتطوع، لإطلاق المسميات الضخمة الفخمة على"المشروع الاميركي"بعد إلباسه ثوباً عالمياً. فمن أفغانستان، حيث كان توني بلير يقوم بزيارة جنود بلاده العاملين هناك تحت راية حلف شمال الأطلسي، أدلى بلير بتصريحات جرى منع نشرها فقط حتى مغادرته، لتخوفات أمنية. في التصريحات قال بلير للجنود البريطانيين:"هذه القطعة من الصحراء جنوب أفغانستان ستقرر مستقبل ومصير الأمن العالمي خلال العقود الأولى من القرن الحالي"، ثم طالب بلير حلف شمال الاطلسي بأن"يركز بقوة على مهمته في أفغانسان"، مؤكداً وجوب استمرار قوات الحلف هناك إلى أن يتم"إنجاز العمل". كان هذا تحضيراً دعائياً للقمة التالية الوشيكة للحلف في ريغا عاصمة جمهورية لاتفيا، والتي تمت فعلاً بعد كلمات بلير بأسبوع. في القمة تابعنا كلمات يكسوها الغضب من الرئيس الاميركي جورج بوش منتقداً فيها رفض بعض الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي إرسال قوات إلى مناطق مستعرة في أفغانستان، مطالباً اياهم بضرورة القبول ب"واجبات صعبة"هناك. أما الامين العام للحلف فقال إنه"من غير المقبول"أن يستمر وجود نقص بنسبة عشرين في المئة في القوات الضرورية في جنوب أفغانستان لمواجهة هجمات"حركة طالبان"، كان المطلوب من الدول الأعضاء في الحلف المساهمة ب2500 جندي إضافي الى جانب رفع الدول الأعضاء القيود التي تفرضها على إرسال قواتها إلى مناطق في أفغانستان لا تنتشر فيها. للوهلة الأولى يبدو مثل هذا الطلب متواضعاً داخل حلف عسكري يضم 26 دولة وجيوشه العاملة تضم 2.4 مليون جندي، بل ربما يبدو الطلب أكثر تواضعاً مع معرفة أن الولايات المتحدة بمفردها، كعضو في حلف شمال الاطلسي وقائدة له، تصل ميزانيتها العسكرية السنوية الأخيرة إلى 472 بليون دولار، بينما إجمالي الميزانيات الدفاعية للخمس والعشرين دولة الأخرى تصل إلى 265 بليون دولار. لقد انشئ حلف شمال الأطلسي أساساً في سنة 1949 لمهمة وحيدة هي التصدي لعدو مشترك هو الاتحاد السوفياتي، وبحكم معاهدة الحلف فإن تلك المهمة بدت في حينها دفاعية تماماً، حيث تلتزم الدول الأعضاء باعتبار أي عدوان عسكري على إحداها بمثابة عدوان على جميع الدول الأعضاء. وبعد أحداث 11/9/2001 عبرت دول الحلف عن تضامنها مع أميركا تلقائياً بتوسيع المفهوم الصارم للمادة الخامسة من معاهدة التحالف كي تسمح لقواتها بالعمل خارج المسرح الأوروبي للمرة الأولى. مع ذلك ففي غزو أفغانستان اختارت أميركا الذهاب بمفردها مكتفية ب"الراغبين"من حلفائها، إلى أن نجحت تالياً في جرجرة الحلف، كمنظمة جماعية، للحاق بها في افغانستان. في ما بين سقوط حائط برلين سنة 1989 وانتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وما بين غزو افغانستان في اواخر 2001 كان الحلف تدخل عسكرياً في البلقان بعيداً عن مظلة الاممالمتحدة. الآن توجد قوات الحلف في افغانستان، ومرة اخرى بعيداً عن غطاء الاممالمتحدة، وهي تقاتل في بلد سبق لجيوش اخرى أن تعرضت للهزيمة على ارضه، بما في ذلك البريطانيون في القرن التاسع عشر والروس في القرن العشرين، ومع هذا التطور استمر الحلف كمنظمة للعمل الجماعي يراجع نفسه مرة بعد مرة بهدف إعادة تعريف مهمته - أو مهماته - الجديدة بعد زوال الخطر المشترك السابق: الاتحاد السوفياتي. من المهم هنا أن نلاحظ أيضاً أن هذه القمة الاخيرة لقادة الدول الاعضاء في حلف شمال الاطلسي هي أول قمة للحلف تعقد في جمهورية سوفياتية سابقة، وكان الامين العام للحلف حريصاً على الاشارة الى هذه الاهمية الرمزية الكبرى بقوله إن هذه القمة، وفي هذا المكان تحديداً، هي تكريس للانتصار على المعسكر الشيوعي. تزامنت تلك القمة ايضاً مع قمة اخرى، لها ايضاً اهمية رمزية، هي اجتماع زعماء رابطة الدول المستقلة في مينسك عاصمة روسيا البيضاء، وهي الرابطة التي نشأت اصلا قبل 15 سنة في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من روابط بين الدول الخارجة لتوها من عباءة الاتحاد السوفياتي السابق. مع ذلك فبينما الرابطة الاخيرة تصحو يوماً كي تنام عشرة فإن حلف شمال الاطلسي توسع وتوسع حتى اصبحت قواته تلامس حدود روسيا الاتحادية نفسها. لقد حاول الروس مرة بعد مرة الاعتراض على هذا التوسع بلا جدوى، مما جعل الروس يعتبرون أن تعمد حلف شمال الاطلسي عقد قمته الاخيرة في لاتفيا تحديداً، وهي الجمهورية السوفياتية السابقة، يهدف الى ممارسة ضغوط اضافية على موسكو، التي لم تستوعب من الاصل هذا التطور، بل وتتخوف اخيراً من احتمال قبول الحلف طلب جمهوريتي جورجيا وأوكرانيا الانضمام الى عضويته، فتكتمل نهائيات عملية"تحزيم"ومحاصرة روسيا... حتى في طبعتها الجديدة المتواضعة، وهو تطور - إذا تم - فقد توجس منه الروس شراً مستطيراً بما جعلهم يحذرون علنا بأنهم في تلك الحالة سيتصرفون"برد قوي ومتكافئ". في صراع الفيلة هذا بدا ان كل ملاطفات روسيا الاتحادية لأميركا لم تضمن لها فرصة لالتقاط الانفاس فالرئيس فلاديمير بوتين، منذ أوائل سنة 2000، حرص على ممارسة سياسة معتدلة ومرنة من المنظور الاميركي تحديداً، مقرراً من جانب واحد إلغاء محطة الرصد الروسية في كوبا التي كانت شوكة خطرة في الخاصرة الاميركية طوال سنوات الحرب الباردة، ثم ألغى محطة مماثلة في فيتنام وعندما احتاجت القوات الاميركية في طريقها الى غزو افغانستان الى قواعد عسكرية تشن منها الحرب على حركة"طالبان"و"القاعدة"لم يعترض على انشاء قواعد عسكرية اميركية في اوزبكستان وكازاخستان، ومقابل تلك"الهدايا"الاستراتيجية الثمينة توقعت موسكو أن تمتنع أميركا على الاقل عن التدخل في شؤون الاتحاد السوفياتي السابق أو دول"الجوار المحيط"لروسيا حسب القاموس المستجد، لكن ما جرى هو أن الوجود العسكري الاميركي المباشر والصريح تقدم أكثر وأكثر، فدشنت اميركا قاعدتين عسكريتين في جمهورية جورجيا، مدعمة بقوة ما اسمته"الثورة الوردية"هناك في كانون الاول ديسمبر 2003 التي قلبت النظام الحاكم هناك دافعة بنظام جديد يقوده حاملون للجنسية الاميركية ويوالي صراحة أميركا كما سارع الى طلب الانضمام لعضوية حلف شمال الاطلسي، وعملياً هذا يعني أن ارمينيا ستلحق بها وبعدهما جمهورية اذربيجان... وحينها لا يبقى في القوقاز كلها بلد واحد خارج التحالف الاطلسي ووراء القوقاز، حزام آسيا الوسطى. لم يكن شيء من هذا باديا في الافق في سنة 1991 حين تفكك الاتحاد السوفياتي، وتنفس العالم الصعداء في حينه من انتهاء الحرب الباردة وتكلفتها الباهظة من سباق على التسلح. وللحظات قصيرة تاريخياً تطلع العالم إلى سلام يبدو في الافق، بل وحتى الى جني ثمار هذا السلام من خلال تخفيض جذري لميزانيات التسلح في الدول الكبرى وتوجيهها الى ما هو افضل داخلياً، بل وربما توجيه جزء منها الى مساعدات حقيقية للتنمية خارجياً. في حينه بدا منطقياً توقع تحول حلف شمال الاطلسي الى أي شيء آخر غير عسكري، بل وحتى إلغاؤه على ضوء انتهاء حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفياتي. لكن ما جرى في تلك الفترة بين 1991 و 1995 هو سرعة البحث عن مهمات جديدة لحلف شمال الاطلسي وجرى تضخيم اخطار جديدة وحتى اختراعها لتبرير التوجه الجديد، ولأن الاحلاف العسكرية يصنعها الخوف وتنهيها الطمأنينة فقد بدأ البحث عن مصادر جديدة للخوف تتناسب مع ضخامة الميزانيات العسكرية لحلف شمال الاطلسي، واستباقا لدعوات اوروبية معلنة بالتخفف من اعباء الميزانيات العسكرية والاستغناء عن حلف شمال الاطلسي وقيادته الاميركية تابعنا الملاحقات الاميركية لدول اوروبا كي تزيد من ميزانياتها العسكرية لأن"زمن الركوب المجاني"انتهى. وخرج منظّر استراتيجي بحجم زبغنيو بريجنسكي مثلا يطرح التساؤل التالي:"ماذا سيحدث لو أن الكونغرس الاميركي تبنى الدعوة الى الانكماش العاجل في القوة العسكرية الاميركية من مراكز انتشارها الاجنبية الثلاثة الحاسمة: اوروبا والشرق الاقصى والخليج؟"ثم طرح بريجنسكي اجابته الخاصة على ذلك السؤال بقوله:"إن العالم سيغوص في فوضى سياسية عارمة"فأوروبا التي"لا تستطيع ان تكون آمنة من دون اميركا، لا تستطيع التوحد ضد اميركا، وستندفع بعض دول اوروبا الى اعادة التسلح وايضاً نحو التوصل الى ترتيبات خاصة مع روسيا". اوروبا ستصبح مرة اخرى"عرضة للمنافسات الداخلية والاخطار الخارجية والبناء السياسي الاوروبي كله سيواجه الاخطار"حيث"ستضطرم من جديد، وبسرعة المخاوف التقليدية من القوة الالمانية وكذلك العداوات المتجذرة تاريخياً، أما في الشرق الأقصى فربما تنشب الحرب في شبه الجزيرة الكورية بينما اليابان ستمضي في برنامج سريع لإعادة التسلح بما في ذلك التسلح النووي، أما في منطقة الخليج فستصبح ايران هي القوة المسيطرة وستقوم بترويع الدول العربية المجاورة". كان مثل هذا التنظير المعتمد على التخويف من المجهول موجهاً للأوروبيين اساساً وللداخل الاميركي بدرجة أقل، فالمؤسسة العسكرية الاميركية، ومعها المجمع الصناعي البترولي يعرفان أنها لن تقوم بإغلاق قواعدها العسكرية في أوروبا ولن تتخلى عن حلف شمال الاطلسي لوقت طويل جداً ما لم يتم اجبارها على ذلك، طالما ان تلك القواعد اصبحت بعد انتهاء الحرب الباردة لازمة لأميركا بأكثر مما هي ضرورية لأوروبا. إنها قواعد لازمة للعمليات الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط ووسط وشرق آسيا، وعضوية اميركا لحلف شمال الاطلسي وقيادتها له يعطيانها نفوذاً غير مسبوق في الشؤون الاوروبية، فبغير وجود هذا الحلف لا يصبح لأميركا الحق في اقامة قواعد وجنود لها في اوروبا بأكثر مما لألمانيا او فرنسا الحق في وجود قواعد عسكرية لأي منهما في اميركا. اكثر من ذلك فإن ضم دول حلف وارسو السابق وكذلك بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة الى عضوية حلف شمال الاطلسي يعني حتمياً التحول من التسلح السوفياتي الى التسلح الاميركي، وحينما استقبل الرئيس الاميركي جورج بوش رئيس بولندا للمرة الاولى في البيت الابيض كان هذا احتفالاً بأول واكبر صفقة بولندية لشراء طائرات عسكرية اميركية بديلاً عن الطائرات السوفياتية، وبقدر ما كانت تلك ضربة قاصمة للمؤسسة العسكرية الروسية فإنها ضمنت اسواقاً جديدة أمام صادرات الاسلحة الاميركية، بل إن الإلحاح الاميركي المستمر على دول أوروبا لزيادة ميزانياتها العسكرية بحجة تحديث جيوشها يقصد منه اساساً شراء الاجيال الجديدة الاحدث في صناعة السلاح الاميركية. مع ذلك فإن تلك الاسباب الاقتصادية وراء استمرار حلف شمال الاطلسي وتوسعه لا تلغي الاهداف الاستراتيجية الاكبر وفي مقدمتها هدفان، اولاً تحزيم روسيا الاتحادية بقواعد عسكرية اميركية او اطلسية ضماناً لاستمرار موسكو في طبعتها الجديدة داخل"القفص الاستراتيجي"المحدد لها. ثانياً: التفرغ لوضع اليد على الموارد الطبيعية الكبرى في دول العالم الثالث، وفي مقدمتها البترول. والاختيار الاميركي الافضل هنا هو الاحتكار أو العمل المنفرد، لكن حربي افغانستانوالعراق اوضحتا عمليا حدود القدرة الاميركية على الاحتكار والقيام بدور رجل الشرطة العالمي، من هنا تزايد التركيز الاميركي يوما بعد يوم على حلف شمال الاطلسي. فبحرب باردة أو بغيابها، يجب ضمان استمرار هذا الحلف وتوسيعه ليصبح تاريخياً اول حلف لكل العصور سعياً ليصبح هو رجل الشرطة العالمي بقيادة اميركية وبخطر سوفياتي زال نهائيا، وخطر اسلامي يتم اختراعه، يصبح الخوف هو الاسمنت المضمون لتماسك حلف لم يحتج طوال الحرب الباردة الى اطلاق رصاصة واحدة، لكنه الآن متورط في عمليات قتالية للمرة الاولى وخارج حدوده الجغرافية الاصلية. وإذا كانت افغانستان هي الجزء المتكرر في نشرات الاخبار فإن الحلف اصبحت له بعثة تدريبية في العراق كما أن مهماته - المحدودة في البداية - تمددت الى مناطق عديدة اخرى في العالم، بدءاً من السنغال المطلة على المحيط الاطلسي، وحتى جيبوتي على خليج عدن مروراً بمنطقة الصحراء الكبرى، وصولا الى الإلحاح على تدخل عسكري متنكر وراء الاممالمتحدة في دارفور في غرب السودان. * كاتب مصري