بعكس معظم السائد تقليدياً في الفكر السياسي، جاء التوسع الأخير في عضوية منظمة حلف شمال الاطلسي ليقلب الآية. في الأصل يوجد العدو أولاً، ولمواجهته تتشكل الأحلاف. في هذه المرة ليس هذا ما يجري بالضبط. لقد أقامت الولاياتالمتحدة أصلاً حلف شمال الاطلسي في سنة 1949 بتصور محدد هو أن التوسع السوفياتي في أوروبا هو الخطر، ولمواجهته يحتشد الحلفاء بقيادة أميركية لمنعه من تجاوز شرق أوروبا الى غربها. كان الخطر الأحمر اذن هو العدو ومنع الاتحاد السوفياتي من تغيير الأمر الواقع في أوروبا هو الهدف. في المواجهة أقام الاتحاد السوفياتي حلف وارسو كرد فعل مضاد. وبتعادل الفعل ورد الفعل تمتعت أوروبا كلها بأربعين سنة من السلام. بسقوط حائط برلين في 1989 وانتهاء الحرب الباردة وإلغاء حلف وارسو وانسحاب الاتحاد السوفياتي من أوروبا الشرقية وتوحيد المانيا وتفكك الاتحاد السوفياتي ذاته، بدا حلف شمال الاطلسي وقد أصبح بغير هدف ولا عدو ولا وظيفة. لم تعد هناك نظم ماركسية حاكمة حتى في موسكو بطبعتها الجديدة. لم يعد هناك ايضاً خطر مواجهات حربية في المسرح الاوروبي. وحتى بعض القواعد العسكرية جرى إغلاقها وزعم ميخائيل غورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفياتي قبل تفككه أن لديه وعداً من الرئيس الأميركي بعدم تقدم حلف شمال الاطسي شرقاً في أوروبا لملء الفراغ السوفياتي، ان لم يكن بتفكيك حلف شمال الاطلسي ذاته أو نزع الطابع العسكري من مضمونه. من المنظور الاستراتيجي السائد كان هذا تطوراً منطقياً، فالأحلاف تنشأ من الخوف وتتآكل بالطمأنينة. وباختفاء الخطر المشترك أو العدو المحتمل تكون مهمة حلف شمال الاطلسي قد انتهت، وبنجاح. وتأكد هذا مرة اخرى على ضوء ميزانيات عسكرية مرهقة فرضتها سنوات الحرب الباردة وتطلع الشعوبة - في أوروبا على وجه الخصوص - الى التخفيف اخيراً من تلك الاعباء لصالح أحلام الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية المؤجلة، تلك بالضبط كانت "غنائم السلام" التي جرى التبشير بها في سنوات الفوران الكبير مطلع سنوات التسعينات من القرن الماضي. لكن المفارقة المدهشة سرعان ما جاءت من أصوات معارضة لهذا التطور المنطقي، أصوات جاءت في البداية على استحياء، وكما لو أن الأمر يتعلق برياضة ذهنية فقد أشاعت تلك الأصوات تخريجات خلاصتها أنه اذا كان الخطر الأحمر - الشيوعي - قد اختفى فإن الخطر الأخضر - الإسلامي - هو الذي يحل محله كعدو يبرر بقاء حلف شمال الاطلسي، بل تدعيمه بميزانيات اضافية. آخرون قالوا إن الحرب الباردة كانت بطبيعتها مواجهة بين الشمال والشمال، وبنهايتها أصبح الطريق مفتوحاً ليلتئم شمل "العائلة" ويصبح الشمال جبهة واحدة في مواجهة الجنوب. يعني دول العالم الثالث التي كانت مواردها الطبيعية محل صراع مباشر أو بالوكالة طوال الحرب الباردة. فريق ثالث تكلم عن نظام عالمي جديد لما بعد الحرب الباردة وان يكن تحت عنوان الأممالمتحدة كتجسيد للشرعية الدولية فتصبح هي والمنظمات الاقليمية المعنية - بما فيها حلف شمال الاطلسي ان كان لا بد من استمراره - في خدمة الشرعية الدولية الجديدة المؤجلة سابقاً والممكنة لاحقاً بعدما تنفس العالم الصعداء. تقاطعت التخريجات إذن وتنوعت الاجتهادات لكي يتابع الجميع في النهاية - وبالتصوير البطيء - تحرك الأمر الواقع في اتجاه مختلف. أولاً: استمرار حلف شمال الاطلسي بميزانياته العسكرية ذاتها، بل وبإلحاح أميركي على زيادتها. ثانياً: التحرك شرقاً لتوسيع نطاق عضوية الحلف بإضافة ثلاث من دول أوروبا الشرقية قبل ثلاث سنوات وسبع دول أخرى أخيراً. وبهذا التوسع لم يتمدد حلف شمال الاطلسي ليحتوي كل أوروبا الشرقية فقط، وإنما وصل الحلف الى حدود روسيا في البلطيق والبحر الاسود. في طبعة اولى انكمشت موسكو الى ما قبل الحرب العالمية الثانية. وبانضمام دول البلطيق الثلاث أخيراً الى حلف شمال الاطلسي تنكمش روسيا الى ما قبل الحرب العالمية الأولى. وبانضمام أوكرانيا لاحقاً تكون روسيا قد انكمشت الى ما قبل خمسمئة سنة سابقة. البعض فسّر ذلك بأنه حرص على ألا تقوم لروسيا قائمة مستقبلاً وتمتنع عليها نهائياً العودة الى المناطحة دولياً كقوة عظمى أو شبه عظمى. يكفي موسكو أن تستوعب ما جرى وتكتفي بالحياة في الحرام كعضو ناقص الأهلية والحقوق في الأسرة الغربية، وهو ما كانت عليه أصلاً قبل ان تأخذ روسيا الماركسية من الغرب كرداء تواجه به الغرب نفسه. لقد فرضت ظروف الحرب العالمية الثانية على الغرب أن يتعاون مع موسكو الماركسية بحكم الضرورة، ثم وصلت موسكو بسطوتها الى برلين في قلب أوروبا بثمن فادح هو خمسة وعشرين مليون قتيل، وباللحاق بأميركا في التسلح النووي واقامة صناعة عسكرية وفضائية تضاهي أميركا وتسبقها احياناً، حصلت موسكو السوفياتية على اربعين سنة من الاعتراف بها بالمساواة والندية، الآن انتهى كل هذا. ارجع كما كنت. البعض فسّره أيضاً بالتوجه استراتيجياً لقطع الطريق على أي تمرد جديد خارج الليبرالية بمفهومها الأميركي في أوروبا. هؤلاء فسروا ذلك التوجه بفكرة "نهاية التاريخ" التي لا بد من التأكيد عليها خصوصاً وقد اصبحت الشركات متعددة الجنسيات وعابرة القارات هي حاملة الراية وتريد التخلص من كل القيود التي فرضت عليها سابقاً حتى من داخل النظام الرأسمالي الأميركي ذاته أيام فرانكلين روزفلت، الآن يطب رأس المال يداً طليقة من أي قيود ومعفاة من كل مسؤولية اجتماعية، وهو ما يستلزم بالضرورة إعادة صياغة مفهوم الدولة ليتم اختصارها في كيان قمعي وظيفته حماية رأس المال الدولي العابر للقارات وإقامة المزيد من السجون محلياً للمعترضين من الطبقات العاملة والمتوسطة. هناك أيضاً من فسّر الأمر بالتوجه الى قيام النظام العالمي الجديد بعد نهاية الحرب بعد نهاية الحرب الباردة عبر تقسيم العمل دولياً، هناك دول معدودة لها وحدها أن تحتكر التكنولوجيا المتطورة وتصدر منها الفائض الى الآخرين بأسعار مضاعفة، ودول صناعية تنتج وتوزع في الحدود المناسبة لمصالح الشركات عابرة القارات التي يوجد لتلك الدول فيها النصيب الأصغر، فهي تفيد وتستفيد. ثم هناك في قاع الهرم قاعدته العريضة المتسعة من غالبية دول العالم التي هي في حال من اثنتين او كلتاهما معاً: مُصدّر للمواد الخام رخيصة الثمن، أو جمهور عريض من المستهلكين محددة إقامته في عصر ما قبل الصناعة. بوافتراض أن بعض هذا أو كل هذا قابل للحدوث والاستمرار ضد منطق التاريخ، فإنه يحتاج الى ذلك النوع من السلطة الذي كانت تمثله روما القديمة في عز سطوتها، حين كان العالم يتشكل من مواطنين أحرار - وهم الاقلية - ثم اتباع عبيد خارجها وهم كل الآخرين. بالعودة الى حلف شمال الاطلسي وتوسعه ليشمل 26 دولة تحت قيادة ورئاسة وهندسة الولاياتالمتحدة نصبح أمام حلف جديد مختلف جذرياً عن الحلف الدفاعي الذي قام في سنة 1949، هذا تحالف من دون عدو، لكن مع الوقت، وكل حالة بحالتها، سيتقرر له من العدو، وكمرحلة انتقالية يتقرر له عدو هلامي غامض اسمه الإرهاب نعود اليه لاحقاً، انما هو ايضاً تحالف تطلع اليه من انضموا، بل حتى من كانوا اعضاء اصليين، بمفاهيم مختلفة. المفهوم الوحيد المستقر هو التطلع اصلاً الى التخفيف من اعباء الموازنات العسكرية بإلحاح من شعوبهم. بعض تلك الدول - حتى في ذروة الحرب الباردة - لم تكن لديه اصلاً موازنات عسكرية ذات بال. لكن من الآن فصاعداً اصبح على الجميع زيادة ميزانياتهم العسكرية بحد ادنى اثنين في المئة من مجمل الناتج القومي، وتخصيص الاعتمادات الجديدة لحيازة اجيال جديدة من الاسلحة يتم شراؤها من الشركات الأميركية تحديداً على حساب مشاريع اوروبية منافسة، وأقل تواضعاً، وكبداية عملية، يبدأ الحلف بتشكيل قوة للانتشار السريع من 21 ألف جندي بلوازمهم من وسائل النقل والاتصال والاستطلاع والتعبئة والقتال في قارات اخرى خارج أوروبا. ولا بد من شرائها من أميركا تحديداً من دون داعٍ للتفكير في انتظار صناعات عسكرية اوروبية مشتركة عالية التكنولوجيا. بهذا الشكل، وبالاجتماع الاخير في براغ لقادة دول حلف شمال الاطلسي، اصبحت المفارقة التاريخية واضحة وغير مسبوقة، هذا حلف يمثل أكبر تجمع وحشد قتالي في التاريخ وقت السلم، حيث مجموع القوات المسلحة لدوله الستة والعشرين يتجاوز الاربعة ملايين مقاتل، ونطاقه الجغرافي المباشر يمتد من كنداوالولاياتالمتحدة غرباً الى حدود روسيا شرقاً وفيما بينهما المحيط الاطلسي. مع ذلك فإن هذا التحالف غبر المسبوق، وبعد زوال الخطر المشترك الذي قام لمواجهته اصلاً، يبدأ بإعادة تعريف الخطر المشترك من اول وجديد، وهو ما يعني اختراع عدو جديد غير محدد الملامح بعد، ويقع في قارات اخرى، وبميزانيات اضافية جديدة تتحملها الشعوب المعنية، وبغير الرجوع مسبقاً الى السلطات النيابية المختصة في كل دولة، او طرح هذا التحول الجذري في نقاشات عامة توازن فيها الشعوب بين مصالحها. المطروح أميركياً، حتى الآن على الأقل - هو عدو هلامي اسمه الإرهاب الدولي، وقبل اجتماع براغ تواترت التقارير الاستخباراتية الأميركية والبريطانية عن احتمال ضربات إرهابية وشيكة داخل لندن وباريس وبرلينوروما، ربما لمساعدة المترددين على القبول بالتشخيص الأميركي. لكن حتى في حال قبول هذا التشخيص - يعني الإرهاب هو العدو - فإن هذا لا يتماشى مع أنواع الأسلحة التي تريد الشركات الأميركية الكبرى بيعها الى دول حلف شمال الاطلسي، أسلحة من نوع طائرات النقل العسكرية الضخمة وطائرات الإمداد بالوقود جواً لاستكمال التوجه الى قارات اخرى والصواريخ الموجهة بالليزر والقنابل كثيفة الانفجار وأجهزة الاتصال بالأقمار الاصطناعية الأميركية اساساً ونظم الرادار المحمولة جواً. تلك كلها اسلحة باهظة الثمن ومعروفة المنتج مسبقاً ومخصصة اصلاً مواجهة جيوش نظامية ومواقع حصينة تحميها نظم تسليح متكاملة، وليس لمواجهة افراد يقال انهم شبكات سرية متناثرة تتحرك داخل مدن ووسط سكان مدنيين. فإذا لم يكن الإرهاب - حتى بتعريفه الأميركي الغائب الى اللحظة - هو العدو الحقيقي وانما مجرد غلاف للبضاعة، فما البضاعة ذاتها، السؤال جوهري والاجابات مفتوحة، لكن الى أن تجيء الاجابات الحقيقية يكفي أن نتذكر موقتاً أن حلف شمال الاطلسي في طبعته الجديدة أصبح من الآن على حدود روسيا ذاتها في البلطيق والبحر الاسود، اما اذا اضفنا الاتفاقات التكميلية المنفصلة الاخرى التي ابرمتها الولاياتالمتحدة منذ سنة 1994 تحت عنوان "الشراكة من أجل السلام" وتتضمن من جيران الصين كل من روسيا وكازاخستان وقيرجستان وطاجيستان، فسنجد صورة جديدة تماماً. فالتحالف الذي اقامته الولاياتالمتحدة بقيادتها في سنة 1949 لمحاصرة الاتحاد السوفياتي في قلب أوروبا تحول في سنة 2002 الى تحالف يحاصر كلا من روسيا - حتى في طبعتها المسخوطة من الاتحاد السوفياتي السابق - والصين في حدودها الشمالية والغربية، انه أمر واقع جديد يتم فرضه بقوة السلاح وتحت عنوان السلام او المشاركة فيه او التغني به. في القصة خاسرون عديدون وبعض الرابحين. لكن من الآن أصبح الرابح الأكبر والأقوى سطوة هو شركات صناعة الاسلحة، وبمنطق تلك الشركات سابقاً ولاحقاً فإن صناعة السلاح هي كأي استثمار آخر، مفيدة للاقتصاد ومحركة فعالة لدورة رأس المال. قبل عشر سنوات تطلع العالم الى "غنائم السلام"، الآن يحصل على "أعباء الحرب".. وبغير حرب. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.