يقع الوعي التاريخي العربي بالقدس في اطار السردية العربية - الإسلامية التي ترى في الإسلام ختاماً للوحي ووريثاً لرسالات أنبياء العائلة الإبراهيمية، اذ دمج الإسلام القدس في جغرافيته الروحية المقدسة، المكونة من المدن الثلاث: مكة والمدينة والقدس، وفي مقابل توحيده للقدس ودمجه لها في فضائه الروحي المقدس، فقد وحّدها هذا الوعي في الزمان والمكان العربيين. 1 - التاريخ الأقوامي ما نستخلصه من النموذج الأقوامي السلالي العربي ان منطقة الجزيرة العربية والشام ووادي الرافدين تشكل وحدة جغرافية بشرية تصدر في تعدديتها القبَلية عن أصل واحد يرتد الى سام بن نوح"أبي العرب"، ويتضح موقع القدس في هذه الوحدة الجغرافية البشرية، في أن جميع المؤرخين العرب - المسلمين يجمعون على أن العماليق الكنعانيين الذين ينتسبون، وفق نموذجهم السلالي، الى العرب البائدة، هم أول من استقر في بلاد الشام. واذ ينفرد بعض المؤرخين بنسبة الكنعانيين سلالياً الى حام بن نوح الحاميين، فإنهم لا يخرجون عن ذلك الإجماع في أنهم أول من استقر في القدس والشام. ومن هنا يسمي المسعودي في بعض رواياته بلاد الشام بپ"وطن كنعان"ويقول:"ونزل كنعان بن حام... بلاد الشام، منهم الكنعانيون، وبهم تعرف تلك الديار ببلاد كنعان"، والكنعانيون وفق ابن الأثير هم"الجبابرة بالشام"، ويتتبع أصولهم وفق طبقة العرب البائدة"فكانت طسم والعماليق"الكنعانيون"وأميم وجاسم قوماً عرباً لسانهم عربي". ويجذّر المؤرخ العربي أحياناً النسب الإبراهيمي الذي يرتد اليه العرب المستعربة، عرب الدعوة الإسلامية سلالياً في الكنعانيين، فيشير الطبري الى ان ابراهيم تزوج امرأتين عربيتين كنعانيتين،"ان ابراهيم تزوج بعد سارة امرأتين من العرب، إحداهما قنطورا بنت يقطان، فولدت ست بنات، والأخرى حجور بنت أرهير". وعمليق كنعان يحضر هنا في رواية الطبري بوصفه"أول من تكلم بالعربية"ومن قومه كان"الملك نمرود الجبار الذي يحكم ما بين النهرين". وأشار ياقوت الحموي، الى ان"كنعان بن سام بن نوح اليه ينسب الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية"، أي تقع في منظومة ما يسمى حالياً باللغات"السامية". أما أبو الفداء فيؤكد ان الكنعانيين"هم أهل الشام... وانما سمي الشام شاماً لسكن سام بن نوح به"، وأما ابن الأثير الذي راكم مجمل السرديات التاريخية التي سبقته، فيقول:"وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام، ثم جاء بنو اسرائيل... ثم وثبت الروم على بني اسرائيل فأجلوهم عن الشام القدس ونابلس الى العراق إلا قليلاً منهم. ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام". ويرى ان الإسرائيليين حين قدموا الى فلسطين واجهوا الكنعانيين العمالقة:"إن بني اسرائيل لما طال عليهم البلاء، فطمع فيهم الأعداء، فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين، وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين، فضرب عليهم الجزية. وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني اسرائيل حتى كادوا يهلكونهم". والواقع ان المؤرخين العرب الاسلاميين يجمعون على أن اليهود وجدوا أمامهم الكنعانيين. وعندما يذهب هؤلاء المؤرخون بعيداً في تاريخ بناء القدس، فإنهم يعيدونه الى"أبي العرب"سام بن نوح الذي تفرعت الطبقات السلالية العربية من ذريته، أو الى ملكي صادق الكنعاني ملك أورشليم مدينة السلام. ولعل رسوخ هذه الرؤية العربية - الإسلامية الكنعانية في القدس الأصلية أو التأسيسية هو ما يعبر عنه مجير الدين الحنبلي في سرديته لتاريخ القدس ما قبل دخول داوود، وقد وحّد ما بين سام بن نوح وبين ملكي صادق الكنعاني:"أما مدينة القدس فكانت أرضها في ابتداء الزمان صحراء بين أودية وجبال، وهي خالية لا بناء فيها ولا عمارة، فأول من بناها واختطها سام بن نوح عليهما السلام، وكان ملكاً عليها، وكان يلقب ملكي صادق...". 2 - موقع القدس في الجغرافيا الشامية لم تبتكر السردية التاريخية العربية - الإسلامية وحدة الجغرافيا البشرية الشامية في اطار الوحدة العامة لمنطقة وادي الرافدين والشام والجزيرة العربية بقدر ما تأسست عليها. فثمة دلائل حاسمة تشير الى الموقع الروحي الخاص للشام عند العرب - المسلمين، وقد استمد هذا الموقع قيمته المعيارية بكلمة واحدة من وجود القدس فيه، التي تشكل الشام حدود الأرض التي بارك الله حولها وفق النص القرآني، من العريش الى الفرات، فضلاً عن أن العرب المسلمين قبل فتح القدس في العهد العمري كانوا ينظرون الى القدس كجزء لا يتجزأ من الوحدة الإثنية العربية. يحدد ابن سرور المقدسي الشام بما يأتي:"اعلم ان حدود الشام أربعة، فحدّه من الغرب البحر المالح المتوسط وعلى ساحله مدائن عدة. وحدّه من الجنوب رمل مصر والعريش، ثم تيه بني اسرائيل وطور سينا، وتبوك ودومة الجندل. وحدّه من الشرق، من بعد دومة الجندل، برية السماوة، وهي كبيرة ممتدة من العراق ينزلها عرب الشام، ومما يلي الشرق أيضاً الفرات فيخوض الفرات الى بلاد الجزيرة. فطوله من العريش الى الفرات عشرون يوماً، أو أكثر". وأما ابن حوقل فيحدد جغرافياً في كتابه"صورة الأرض"ما يسميه"ديار الشام"بالشكل الآتي:"وأما الشام، فإن غربيها بحر الروم، وشرقيها البادية، من إيلة الى الفرات، ثم من الفرات الى حد الروم، وشماليها بلاد الروم، وجنوبيها مصر، وتيه بني اسرائيل، وآخر حدودها مما يلي مصر رفح، ومما يلي الروم الثغور المعروفة". وهو ما يذهب اليه شهاب الدين المقدسي في بيان حدود الشام. ان الشام والشآم التي حاول المؤرخ العربي أن يعيد أصل تسميتها الى سام بن نوح"أبو العرب"وفق السردية العربية - الإسلامية، هو الاسم الذي أطلقه المؤرخون والجغرافيون العرب على بلاد الشام. ولعل الاصطخري ت 321ه والمقدسي ت 380 ه كانا من أوائل الجغرافيين الذي أعطوا الشام وحدة جغرافية خاصة في اطار الوحدة الجغرافية العربية العامة ما بين الشام ووادي الرافدين والجزيرة العربية، اذ عنون الاصطخري الفصل الخاص بالشام بقوله: أرض الشام. أما المقدسي فقد استعمل تعبير"اقليم الشام"قاصداً بذلك وحدة جغرافية وإقليمية، والواقع ان هناك اجماعاً في المدونات التاريخية الكلاسيكية الكبرى، مثل مدونات الطبري والمسعودي وأبي الفداء واليعقوبي وابن الأثير وابن كثير، على النظر الى الأصقاع الشامية، وفي قلبها القدس، كوحدة اقليمية متصلة جغرافياً وبشرياً مع الجزيرة العربية اتصالاً تاماً.