الموضوعية والعقلانية سمتان غالبتان في كتاب عصام نعمان "أميركا والإسلام والسلاح النووي - حاضر الصراع ومستقبله في دنيا العرب والعجم" عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت، ومع السمتين هناك الدعوة المتواصلة الى المنطق والرشد والعمل لإزالة التناقضات السائدة على الساحة العربية من جهة، والساحة الإيرانية - العربية من جهة أخرى، من أجل اخراج العرب من حال الوهن وانعدام الوزن وهم في خضم التجاذب الحاد في المنطقة بين المحور السوري - الإيراني والمحور الإسرائيلي - الأميركي. ويسعى المؤلف في تحليلاته الى ارساء دعائم تضامن ثابتة وراسخة بين ثلاث دوائر رئيسية: العربية والعجمية والإسلامية. وهنا يمكن توجيه شيء من النقد الى المؤلف لأن المنطق ليس هو الذي يسيطر على عالم السياسة، خصوصاً في الشؤون الدولية. فالسياسة متميزة دائماً بهيمنة العواطف غير المنطقية وحب السلطة واظهار القوة الى درجة الجنون في كثير من الأحيان. وهذا الجنون هو الذي يولد الحروب الشعواء والمدمرة التي لا تكترث بقيمة الحياة الانسانية. ففي فترات التوتر والجنون، مَن تراه يستمع الى كلمة العقل والمنطق؟ أما قلم المؤلف فلا يحركه الا التحليل الموضوعي الرشيد. لماذا لا تتسم السياسة بالعقل والمنطق؟ هذا هو التساؤل الذي يقضّ مضاجع كل انسان عاقل. مؤلف الكتاب شخصية سياسية لبنانية معروفة، مارست العمل الوطني والسياسي على مدى عقود، وهو متمسك بمبادئ نهضوية عروبية يؤسس عليها منهجاً متماسكاً في تحليل الأحداث الضخمة التي تعيشها المنطقة منذ سنتين. وهو اختار في كتابه جمع سلسلة من التحليلات والمقالات كتبها ما بين الفصل الأخير من العام 2004 والحرب الاسرائيلية - اللبنانية الأخيرة في صيف 2006. نادراً ما تكون المؤلفات المبنية على جمع تحليلات وتعليقات على أحداث سياسية معينة جذابة للقارئ أو ممتعة للقراءة، ذلك أن الأحداث موضوع التحليل تكون قد ولّت وحلّت أحداث أخرى محلها لا تقلّ عنها أهميةً, غير ان عصام نعمان نجح في تجربته باجتذاب القارئ وجعله يتمتع بالقراءة، بل يُدخله في نظام ادراك متماسك للأحداث الموصوفة والاستنتاجات التي يمكن أن تستخلص منها. ولعل مردّ ذلك الى عاملين أساسيين. أولهما، تناسق ترتيب المقالات في أجزاء خمسة، تسهّل القراءة والفهم. ثانيهما، تمسك المؤلف بثوابت سياسية لم تتغير لديه خلال حياته السياسية أو في مؤلفاته السابقة. فهو مؤمن بالعروبة المنفتحة حضارياً، وكذلك بقيم الديموقراطية الحقيقية التي لا يمكن أن تمارس فعلياً خارج اطار التوجه الوطني والقومي الرافض الهيمنة الخارجية، أما تبويب المقالات فهو منطقي للغاية ومتدرج، اذ يبدأ المؤلف بقسم أول حول"حال العالم: بوش جعل الإرهاب مرادفاً للإسلام"، حيث التحليلات والمقالات تعالج المواقف الأميركية من دول منطقة الشرق الأوسط وتحركات الولاياتالمتحدة فيها وصعود الايديولوجية الجديدة للمحافظين الجدد الذين يرون في الإرهاب والإسلام مقولتين مترادفتين، تبريراً للهيمنة العسكرية والسياسية على المنطقة، والعمل من أجل"تحرير"الشعوب العربية والإسلامية من تلك الفاشية لإرساء الدعائم الديموقراطية على النسق الليبرالي الأميركي. أما القسم الثاني من الكتاب فيتضمن ما كتبه المؤلف حول الأوضاع العربية ووضع له عنواناً جذاباً:"حال الأمة: ضعف وهوان وانعدام وزن". في هذا القسم نجد مقالاً رائعاً في عنوان:"دور الأجنبي في التاريخ العربي"يذكّر فيه بمدى تدخل غير العرب في الشؤون العربية عبر التاريخ. والقسم الثالث يتضمن ما كتبه حول الأحداث السياسية وهو في عنوان تقليدي:"حال الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي"، حيث يبرز الكاتب تعنّت السياسة الإسرائيلية وهمجيتها وتواطؤ الولاياتالمتحدة مع الدولة الصهيونية في اضطهاد الشعب الفلسطيني. ويأتي القسم الرابع وهو في عنوان"حال العرب والعجم"ليلقي أضواء متعددة على الأوضاع السائدة بين الأقطار العربية وايران المتزايد نفوذها في المنطقة في السنين الأربع الأخيرة، ليس فقط بسبب امكان قدرتها على امتلاك السلاح النووي مستقبلاً وقدرتها على المناورة الديبلوماسية والسياسية في مواجهة السياسة الأميركية العدوانية فحسب، بل أيضاً بسبب تبنيها المتزايد للقضايا العربية المركزية، وعلى رأسها قضية فلسطين، ومهاجمتها بلا هوادة للصهيونية، والتنديد المتواصل بها. ومن خلال التحليلات المجمعة في هذا القسم، يسعى المؤلف الى تفسير موضوعي، بعيد من التشنجات والتوترات، لما يجب أن تكون عليه العلاقات العربية - الإيرانية من تضامن ونظرة مشتركة للتصدي لما يقوم به المحور الأميركي الإسرائيلي في المنطقة من سياسات جائرة مبنية على نظرية الفوضى البناءة للمحافظين الجدد. وفي القسم الأخير في عنوان"حال البلدين التوأمين: لبنان وسورية"، يتعرض المؤلف الى المشاكل التي نتجت عن الحقبة السورية في لبنان وما خلّفت من مرارة متبادلة عند انسحاب الجيش السوري وأجهزة استخباراته من لبنان، وذلك تحت الضغط الدولي اثر قرار مجلس الأمن الرقم 1559، ومن ثم الاغتيال الغاشم الإرهابي الطابع لرفيق الحريري. لا بد من طرح مسألتين أساسيتين لم يتناولهما المؤلف إلا عرَضياً. المسألة الأولى تتعلق بما يسميه"الإسلام الراديكالي"كما درجت العادة في كثير من الكتابات العربية والغربية، من دون أن يتفحص معاني هذه العبارة أو يفككها نظراً للغموض الهائل الذي تحتويه. فهل يجوز ادخال حركات مقاومة شرعية، مثل"حزب الله"في لبنان وپ"حماس"في فلسطين، تحت عنوان"الإسلام الراديكالي"الى جانب تلك الحركات الجهادية التي تمارس العنف العبثي تحت شعار محاربة الإمبريالية والتحالف اليهودي - المسيحي الغربي، وهي حركات تقتل من العرب والمسلمين أكثر مما تقتل من أفراد العدو الصهيوني أو من العدو الأميركي في العراق؟ مما لا شك فيه أن حركتي"حماس"وپ"حزب الله"لهما طابع نهضوي على رغم ما يمكن أن تبديانه من محافظة في ميدان التقاليد الاجتماعية، لذلك لا يمكن أن تنطبق عليهما صفة الراديكالية، إلا اذا اعتبرنا، وهذا خطأ جسيم، ان محاربة العدو المحتل هو موقف راديكالي! في أي حال، هل للعرب، مسلمين او مسيحيين، مصلحة في محاربة العدو الاسرائيلي والجيش الأميركي في العراق تحت راية الدين الاسلامي خصوصاً أن المحور الأميركي - الاسرائيلي يقدم الصراع على أنه صراع ضد الفاشية الإسلامية التي ترفض الاعتراف بالوجود اليهودي في الشرق، أو بالتعامل مع الدول الغربية المسيحية"بشكل حضاري"و"ديموقراطي"؟ يبدو لي مهماً أن تظهر للعالم أن الصراع لا يمت الى الأديان بصلة. فلو كان الغزاة من الديانة البوذية أو الهندوسية أو حتى من الديانة الإسلامية، لكان الفلسطينيونواللبنانيونوالعراقيون قد حاربوهم بالشراسة نفسها. أما المسألة الأساسية الأخرى التي تعرض اليها المؤلف عندما تحدث عن دور الأجنبي في حياة العرب، فلا بد من توسيع إشكالية هذه القضية لتناول ظاهرة"فراغ القوة"الهائل الذي يميز الأقطار العربية المشرقية حيث الجيوش النظامية لم تتمكن، منذ غزو نابليون بونابرت لمصر مروراً بغزو الجيوش البريطانية والفرنسية، وانتهاء بالغزو الأميركي الأخير للعراق، من إلحاق أي هزيمة بالجيوش الغازية. بينما نجح الأتراك بقيادة مصطفى كمال بدحر كل الجيوش الغربية عن أراضي الاناضول ومنع تفتيت الدولة التركية الى دويلات عرقية ومذهبية، مع ان ذلك كلّف أبناء الأقليات كالأرمن واليونانيين غالياً، إنما من الواضح أن المسؤولية مشتركة في هذه المجازر بين تركيا والدول الغربية التي وظفت تلك الأقليات واستغلتها. وعند العرب، يبدو أن هناك ميلاً غرائزياً الى الانقسام. فقبل الرسالة النبوية الشريفة كان بعض القبائل متحالفاً مع فارس والبعض الآخر مع بيزنطية، ومن ثم ترك العرب الشؤون العسكرية في ظل الخلافة العباسية الى العنصرين الفارسي والتركي مما افقدهم استقلالهم. ومن اللافت أنه فور نيل الاستقلال في القرن العشرين تفرقت الأنظمة العربية محاور متنافرة متناقضة في ما بينها من جهة، كما أن بعض الأنظمة محضت ولاءها للولايات المتحدة في السياسة الخارجية، بينما أنظمة اخرى اتجهت نحو الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى. وهذا ايضاً عمّق"فراغ القوة"في المنطقة، الأمر الذي أدى الى ما نحن فيه اليوم من وهن وضعف والى انقسام حاد بين من ينجذب نحو الولاياتالمتحدة وبين من يتحالف مع ايران. ويُطرح سؤال: هل عصيّ علينا التغلب على مثل هذه الحال الانقسامية المتكررة؟ هاتان مسألتان اساسيتان تبحثان عن حل. * كاتب لبناني