ربما يتعذر على الكثيرين فهم الأبعاد الحقيقية للنزاع العربي - الاسرائيلي من دون العودة الى فكر ميشال شيحا. ومع اني من المدمنين على قراءة ميشال شيحا باعتباره أحد رواد الفكر اللبنانوي البارزين، فقد حظيت بشرف التكليف من مؤسسة ميشال شيحا لوضع ترجمة عربية جديدة لكتابه "فلسطين". وقد تسنّى لي، عبر مئة مقالة كتبها شيحا عن فلسطين خلال تسع سنوات 1945-1954، ان أتابع هذا الرجل في فكره السياسي أزاء المسألة الفلسطينية، منظوراً اليها من ثلاثة محاور: معنى قيام دولة اسرائيل في فلسطين. المخاطر التي تشكلها هذه "المغامرة" على فلسطين والدول العربية المجاورة والسلام العالمي وحتى على اسرائيل ذاتها. والسؤال عن العمل، عربياً ودولياً، لتجنب مثل هذه المخاطر... وضمن اي حدود، وشروط. يطرح شيحا مسألة جوهرية في نشوء وحياة الدول ألا وهي: الدولة والحيز Espace أي العلاقة بين الدولة كمؤسسة سياسية وبين قاعدتها الجغرافية. فلقد راعه ان توصي لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الجغرافيا الى اثنتين او ثلاث عربية ويهودية ودولية. واعتبر "أن هذا البلد الصغير لا يمكن ان يجزأ إلا بضرب من الجنون"، وان حصل ذلك ففيه "اساءة للمنطق وللنظام الخلقي". ولطالما تساءل شيحا "لماذا هذه "الفلسطين" الصغيرة الضيقة الهزيلة القاحلة التاعسة، والتي على وشك ان تكتظ بالسكان، تكون الى هذه الدرجة، مادة للمطامع والشهوات في حين ان حيزات في العالم الجديد وخارجه يطيب العيش فيها لا تزال خاوية؟". وعنده، انه سيأتي يوم تدرك فيه اميركا وبريطانيا "ان فلسطين هي حقاً جدّ صغيرة لاستقبال الدياسبورا اليهودية". فإن تم ذلك فسيكون "عمل عنف في مواجهة الطبيعة". لذلك فهو ينتظر بفارغ الصبر "ان يقوم الاميركيون بعملية مسح لأرض فلسطين وان يقيسوا مجالها الضيق، مقارنة بمجالهم الوسيع، وان يروا بأمّ العين انه لأمر يفوق التصور ذاك الذي يهدف الى حشر الفائض من يهود اوروبا وأميركا في هذه البقعة! إلا إذا عُلِّب الناس فيها كما تُعلَّب أسماك الارض الجديدة". ويرى شيحا ان فلسطين هي "واحدة لا تتجزأ" وهو ما ستراه وتدركه الأمم في شكل نهائي ولو متأخرة. وكل تقسيم لها سيكون قراراً "فيه الكثير من العنف والتعسّف" وسيتم على حساب مصالح سكانها العرب واليهود في آن. يستخدم ميشال شيحا تعبير LصEntreprise أي "المشروع" ويردده كلما تناول ما يخططه اليهود في فلسطين. ويتجنب استعمال لفظتي Plan وProjet بمعنى رسم او مسودة خطة، ولم يكن لديه ميل الى استعمال المفردات العسكرية "الاستراتيجية". إن عمق إلمامه بالفرنسية وظلال المعاني في الألفاظ جعله يستخدم دائماً لفظة Entreprise لسبب لغوي جوهري وهو ارتباطها بمعنى المغامرة، ومن هنا القول Esprit dصentreprise أي عقلية مغامرة. فالمشروع الصهيوني هو مشروع مغامرة مبنية على الحلم. ولكن اي حلم؟ يجيب شيحا: "تعيش اسرائيل الحلم المدهش بانشاء مملكة تصل الى حدود الفرات وتجمع ما بين "أور" في أرض الكلدان وأورشليم. ان مشاريعها هي مشاريع امبراطورية. فهي في هذا تواجه مخاطر جمة، وقد تدفع غالياً ثمن مجازفتها تلك. ومع ذلك، فهذا هو حلمها"... ومع اعترافه بأن مشروع قيام اسرائيل هو "أغرب مشروع سياسي في العالم"، فهو يحذر من ان ما يخطط له اليهود الصهاينة ليس "مجرد وهم". وشيحا لا يقول ان كل حلمهم سيتحقق "وانما نقول بأنهم سيحاولون تحقيقه"، "فإذا ما نجح المشروع فسيأخذ فوراً شكل سوبر-دولة انطلاقاً من فلسطين الضيقة". وستضحي اسرائيل "دولة عالمية وليست تلك الحفنة من المبعدين المضطهدين الباحثين عن ملجأ تحت السماء كما شاؤوا ان يصوروها لنا". ومع ذلك يؤكد شيحا، على رغم السوبر-دولة والعالمية "ان المغامرة اليهودية بكليتها انما هي عرقية مبنية على دين". حتى ولو اعطيت غطاء عالمياً لأسباب معروفة. ذلك ان اسرائيل "هي قوة عالمية متفرعة على كوكبنا بكامله ولها من المطامح المعلنة او المضمرة ما يتخطى كل شيء"، يضاف اليه ان شعبها الشعب اليهودي "يمتلك قوة تكاد تكون غير محدودة، اذ هو مدعوم من اهم حكومات الارض". ومع كل ذلك تبقى اسرائيل "الدولة الاكثر عرقية والاكثر طائفية في العالم"...! لكن شيحا يعتبر "ان قرناً جديداً بدأ بمولد اسرائيل السياسي. وهذا الحدث سيتخطى في اهميته التاريخية تكوين اوروبا الغربية وتوقيع الحلف الاطلسي. فلقد ابصرت قوة عالمية النور ولم يكن يعوزها سوى الرأس والسيادة الوطنية". ويعترف شيحا: بقدرات اليهود الفكرية والعلمية والفنية "ليس من ينكر على اليهود ذكاءهم وحدة ذهنهم. ان كفاءتهم في مجال العلوم معروفة والسلاح الذري بالذات لم يكن غريباً عنهم. وأما فن الإثراء فقد حذقوه حتى درجاته العليا"... ومع ذلك فإن مشروعهم هو "المشروع العرقي الاكثر تجرؤاً، والاكثر لامعقولية، والاكثر هولاً في هذا العصر"! ولعل الصورة المعبرة التي يرتاح اليها ميشال شيحا لوصف مشروع الدولة الصهيونية هي انه مشروع مجسيّ Une entreprise Tentaculaire بما يعني انه مشروع توسعي بالغريزة. فصفة المجسية في العربية تعطى للكائنات المائية ذات الزوائد والأذرع كالأخطبوط وبعض الديدان القدرة على إرسال أذرعها أمامها في جميع الاتجاهات إما للقبض على فريستها وإما لالتماس طريقها. فإما ان تتمكن فتنجح وإما ان تُصد فتتراجع وفي جميع الحالات فهي تعبر عن غريزة التوسع لديها حيث امكن ذلك. وهي لا تفعل ذلك لمرة واحدة، بل تعيده باستمرار وباصرار! وعند شيحا "ان الدولة اليهودية أنشئت كي تتوسع باستمرار"، والمشروع المجسي الاسرائيلي يتسع في جميع الاتجاهات... ولدى اسرائيل في مخططاتها القريبة والبعيدة تحقيق توسعات اقليمية". وهي مخططات تستهدف الهيمنة على الشرقين الأدنى والأوسط: "لقد جعل اليهود الشرقين الادنى والاوسط منطلقاً لحلم الهيمنة المعروف". فاسرائيل كما رسمتها الأممالمتحدة في قرار التقسيم هي مجرد "رأس جسر، ونقطة انطلاق وبداية"... ودعاء اليهود معروف: "العام المقبل في أورشليم"!... وما بعدها! هذه المجسية التوسعية تستند في الذهنية الصهيونية الى مبررين يشدد عليهما ميشال شيحا: الأول: مبرر لاهوتي ايديولوجي توراتي حول اسرائيل الكبرى وأرض الميعاد او ارض اسرائيل كما تحدثت عنها التوراة. "فإذا كانت مملكة اسرائيل، في عهد سليمان، تبدأ من على الشاطئ، من الكرمل، فإنها كانت تبسط نفوذها حتى الفرات وصولاً الى الرقة. وابراهيم كان مجيئه من "أور" في ارض كلدان الواقعة جنوبي بغداد. كل هذا يشكل سلسلة من احلام الفتح بالنسبة الى شعب اسرائيل". الثاني: مبرر ديموغرافي عنوانه الكبير: هجرة اليهود الى فلسطين من كل اصقاع الارض. ولهذا يجزم شيحا قائلاً: "ستبقى قضية زيادة السكان في اسرائيل قائمة ما بقيت دولة اسرائيل قائمة. والحال، ان الهجرة الدائمة هي مبرر وجودها". وينبه شيحا باكراً الى كلام اطلقه بن غوريون، وقد تحقق الآن بعد نصف قرن من "ان القدس ستكون عاصمة اسرائيل كما واشنطن عاصمة الولاياتالمتحدة، وان الهجرة سترفع عدد سكان اسرائيل اليهود الى خمسة او ستة ملايين. ويضيف محذراً: ان هذا سيزيد القلق والاضطراب في الشرق الادنى". اسرائيل... وجيرانها! عندما يجمع ميشال شيحا مقومات الحلم الصهيوني: مملكة اسرائيل، السوبر دولة والمجسية التوسعية والهجرة، فإنه يتوصل الى استنتاج جوهري مؤداه: "ان نمو اسرائيل لا يتم، ولا يمكن ان يتم، الا على حساب جيرانها". وبهذا المعنى تقوم جدلية واضحة لديه بين مفهومي الوجود والحدود: فالوجود رهن بالحدود، والحدود شرط للوجود. فالصراع هو صراع وجود وحدود في آن اي ان ضمان الوجود يكمن بتوسيع الحدود اي بالضغط على حدود الدول المجاورة! يقول شيحا: سيزداد الضغط عبر جميع حدود الدولة اليهودية بما فيها حدودنا بالتأكيد يقصد الحدود اللبنانية وهو ضغط لن يكون بمقدور احد ان يتبين مدى تطوره ونهائيته... فعلى كل لبناني كما على كل سوري ان يتذكر اننا الجيران المباشرون لهذا المطمع ولهذه القوة وان المشروع اليهودي لن يعرف التوسع المأمول إلا بمروره على جسدنا". وعنده "ان اول هدف للمؤامرة هو مضاعفة عدد اليهود في الارض المقدسة بحيث يضغطون على الحدود ثم يصدعونها لتحقيق حلمهم بالهيمنة". إزاء ذلك يحذر شيحا اللبنانيين بالقول: "نحن، اللبنانيين، مدعوون الى رؤية هذه القدرة تنمو على حدودنا والى تحمل العبء الساحق لحضورها ولمحاولاتها". كما يؤكد "ان الضغوط التي لا تحتمل ستزداد على الدول العربية وهي ضغوط ستكتسب اشكالاً لا حصر لها مما يستدعي في شكل دائم التيقظ والدفاع المشروع عن النفس". يتحدث ميشال شيحا بأسلوب ساخر، وهو نادر لديه، عن الدول التي تبرر توسعها الاقليمي بحجة حماية أمنها المزعوم، شأن اسرائيل، مستعيناً بكلام لجيمس بيرنز في مذكراته: "عن الاشخاص الذين يشترون المزرعة او البيت المجاور ليحموا مزرعتهم وبيتهم. والمشكلة انه يوجد دائماً منزل ومزرعة في الجوار"... ويضيف شيحا: "نحن الآن وسنصبح أكثر فأكثر غداً مباشرة او مداورة المنزل والمزرعة المجاورة. فلنتيقن من ذلك، وليعلم شركاؤنا السوريون وغيرهم، الذين يجهلون قسماً من التاريخ، كم انهم معرضون للمخاطر". يتخطى شيحا الوجه الأمني لمشروع التوسع الاسرائيلي كاشفاً عن خلفيته الاقتصادية التجارية من انه مشروع استعمار للشرق الادنى برعاية اميركا. وفي هذا حدس مسبق "بمشروع الشرق الاوسط الكبير" الذي سيكون حكماً تحت الهيمنة الاسرائيلية. انه في رأيه "مشروع جَسور لوضع يد اقتصادية ومالية وصناعية وتجارية وهو لن يتوقف الا بتحقيق توسعات ارضية وسياسية وارتهان اكتافنا بحمل النير الأكثر ثقلاً، وأخيراً بالاستعباد.. انه مشروع جهنمي لاستعمار الشرق الادنى برعاية اميركا". وفي وضع كهذا لن تعرف بلداننا الراحة والازدهار والسلام اذ "كيف يمكن لدولة اسرائيل، وقد اضحت على حدودنا مرفأ ارتباط لجميع يهود العالم، ان تدع الدول العربية ولبنان في مقدمها، تعيش وتزدهر بسلام؟". "لقد جعل اليهود من الشرقين الادنى والأوسط منطلقاً لحلم الهيمنة المعروف والذي يدّعون انهم بنوه على مزاياهم الطبيعية وعلى ثرواتهم وعلى قدرتهم وأخيراً على الكتاب المقدس". إن فرض الأمر الواقع على الشرق الادنى افقده توازنه "وبفقدانه توازنه، اصبح الآن خطيئة في عنق الأمم"، عنق الدول الكبرى وهيئة الأمم نفسها وهي جميعاً لا تزال الى الآن عاجزة عن إيجاد حل يعيد الشرق الادنى الى هدوئه وتوازنه!! القلق... والاحتراز... والمقاومة كيف يشرح ميشال شيحا، ويبرر علمياً في آن، عوامل القلق التي تنتاب شعوب المنطقة بفعل قيام اسرائيل، وبالتالي كيفية الرد على الضغوط، من كل نوع، التي يفرضها المشروع الصهيوني على دول المنطقة؟ لنقرأ بتمعن ما يقوله شيحا في هذا الصدد انطلاقاً من وعي كامل وعميق لحقائق التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية والصراعات الجيو-اتنو-دينية: "إن الضغوط التي لا تحتمل ستزداد على الدول العربية، وهي ضغوط ستكتسي اشكالاً لا حصر لها، مما يستدعي، في شكل دائم، التيقظ والدفاع المشروع عن النفس". في هذه الاسطر الثلاثة المعبرة، خمسة امور يجدر التوقف عندها؟ أ- إن الدول العربية ستواجه في المستقبل ضغوطاً يصعب احتمالها. إنها ضغوط قاسية وصعبة ومتزايدة على الجميع. ب- أما طبيعة هذه الضغوط فهي متنوعة: ضغوط عسكرية وسياسية واقتصادية ومائية ونفسية وثقافية ومالية وتجارية واعلامية... ج- إن هذه الضغوط ستبقى قائمة ما دامت دولة اسرائيل قائمة، اي انها ضغوط دائمة ومستمرة. وهذا "يستدعي في شكل دائم" اي ان يكون العرب في استنفار دائم! د- في مواجهة هذه الضغوط، بحسب شيحا، على العرب ان يتمرّسوا بأمرين: التيقظ، والدفاع المشروع عن النفس. فاليقظة ضرورية كي لا نفاجأ بالعدو وبخططه. والدفاع المشروع عن النفس له شرعيته في القانون الوضعي والقانون الدولي والشرائع الإلهية. ه- وهذه الضغوط ستطاول كل الدول العربية التي "لن تذوق طعم الراحة. فلقد كتب عليها الأرق وحوادث الحدود التي ستتكرر الى حد الانفجار". ومع ان مروحة الضغوط تشمل الدول العربية، فإن شيحا يميز لبنان عن غيره كميدان مفضل للتجربة الصهيونية. "فنحن ها هنا الجيران المباشرون لهذه "الاسرائيل" العجيبة. لقد نمت على حدودنا نمو زهرة مسخ، وعلى قاب قوسين منا سيزدهر حقل اختبارها في الظل او تحت نور الشمس... فلدينا كل الاسباب التي تجعلنا نقلق من المستقبل وان نرى ما لا يراه الآخرون ابداً". ... أجل، لقد كان شيحا يرى بالفعل ما لا يراه الآخرون! فهو منذ البداية يحاول "إظهار اسرائيل على حقيقتها" ويشتكي منذ سنوات "الخطر الكبير الذي يتسع على حدودنا. فإذا نحن لم نحترز، واذا لم يكن رد فعلنا كما ينبغي ان يكون، علينا ان ننتظر من جانب تل أبيب مفاجآت غير سارة". ولعل اولى هذه المفاجآت وضع اليد على نهر الليطاني "هذا المجرى المائي، هذا النهر الصغير يضاعف من هواجسنا بسبب مشاريع اسرائيل ومطامعها... فإن ضاع الليطاني من يدنا او تقسّم، أفنلقى في نهر الاردن بفضل أريحية اسرائيل تعويضات عنه ومكافآت له؟". ويضيف شيحا منبهاً: "اننا بحاجة الى الريّ والطاقة بمقدار حاجة اسرائيل... ولذا نخشى من مشروعات الدول الكبرى لتقاسم الكهرباء والري مشروع البنك الدولي بين اسرائيل ولبنان. "فنحن في لبنان طالما كنا ميالين الى الاستخفاف بهذه الامور الخطيرة. وغالباً ما تخلينا او كدنا نتخلى عن حقوقنا المقدسة مقابل ما هو اقل من صحن عدس...". ويذهب شيحا الى حد القول انه مهما كانت الفوائد كبيرة لمشاريع الجوار الصالح بين الدول "ومهما كانت القضايا الاقتصادية حيوية، فلا بد من إخضاعها للنطاق السامي للروح ولصيانة الأرض والحرية". بهذه الروحية الوطنية السامية جعل شيحا كل المنافع الاقتصادية امراً ثانوياً بالنسبة الى الحفاظ على أغلى قيمتين مقدستين لدى اللبنانيين: الارض والحرية! ومهما حاولت الولاياتالمتحدة ان تجعل القضية بيننا وبين اسرائيل اقتصادية فهي على خطأ، "ان قضية اسرائيل هي قضية سياسية قبل ان تكون اقتصادية، انها عشر مرات سياسية اكثر منها اقتصادية". إزاء كل هذه المخاطر ماذا على العرب أن يفعلوا؟ جواب شيحا واضح وصريح: "ان يستفيقوا من شبه الغفوة التي يستسلمون لها، وان يتمالكوا انفسهم اكثر فأكثر، وان يناضلوا مستخدمين كل قوتهم وجميع الوسائل المشروعة". والسبب في ذلك "ان ما يحدث هو اشد المغامرات هولاً في تاريخهم. فعليهم ان يدركوا ذلك وان يقتنعوا به فخصمهم يمتلك قوة تكاد تكون غير محدودة، وهو مدعوم من اهم حكومات الارض". ما هي هذه الوسائل المشروعة؟ انها قبل كل شيء: المقاومة. "بل عليهم ان يمضوا الى آخر حدود المقاومة". فمنذ عام 1947 اكد شيحا انه ليس امام الفلسطينيين والعرب سوى المقاومة. ففي مقال شهير له بعنوان "الاسباب الجلّى لنشوء مقاومة" يبرر شيحا اخلاقياً وحضارياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً ضرورة قيام مقاومة عربية ضد اسرائيل لأن نجاح مخطط اسرائيل سيكون بداية تهجير جماعي او عبودية حقيقية تصيب الدول العربية... وسيكون من المفجع ان نحل محل اليهود كلاجئين في السير العكسي على طريق العالم" بفعل الدياسبورا، وبالاستناد اليه، "ليست المقاومة العربية ضرورية وحسب، انها لأمر حيوي فهي حقاً وشرعاً، على المدى الطويل، مسألة حياة او موت". ويذهب شيحا الى ما هو ابعد من مجرد تصور مقاومة لدولة اسرائيل وحدها. انها مقاومة ذات جذور انسانية تدافع عن وجدان الدول الكبرى التي فقدت هذا الوجدان كما تدافع عن قضيتين ساميتين: العدالة والسلام. يقول: "اذ ندافع هنا عن انفسنا فإننا نشعر اننا ندافع عن القوى الكبرى ذاتها"، وندافع قبل كل شيء عن قضية لا تشيخ هي العدالة وحتى عن السلام العالمي المهدد". ويصف شيحا هذه المقاومة: بأنها "ثروة العرب التي لا حدود لها والتي ستبدو اكثر إلحاحاً وستشتد مع الايام". القدس في خطر في مقال له بعنوان: "القدس في خطر" يتوجه شيحا الى المسيحية والاسلام شارحاً البعد الايديولوجي لموقع القدس المركزي في العقيدة الصهيونية وبالتالي الى سعي اليهود الدائم لجعلها عاصمة للدولة اليهودية: "لتعلم المسيحية بأسرها... ليعلم الاسلام بأسره ان الدولة اليهودية ستظل تهدد القدس في شكل دائم... فلا صهيونية من دون صهيون، ولا اي دولة اسرائيلية يمكنها ان تستغني عن القدس. ان تاريخ اسرائيل هو تاريخ الشعب اليهودي، فإذا اسقطنا منه القدس، يكاد ان لا يبقى منه شيء. وعليه، فالقدس ستبقى عرضة لتهديد دائم من اليهود... والمطمح اليهودي سيكون في الاستيلاء على القدس وجعلها على مراحل حاضرة عاصمة لليهود". هذه الايديولوجية تبرر التحية الفصحية التي يتبادلها جميع يهود الارض، سراً وجهاراً، "العام المقبل نكون في القدس". ان "هذا الحلم الكوني يخفي توقاً الى الفتح يصعب تحديده" وهو يعني، "ان القدس مهددة من اسرائيل على المديين القريب والبعيد". تمثل القدس همّاً اساسياً لميشال شيحا في حياته وكتابه. وهو اذ يتحدث عن "مصير القدس" يتساءل بألم "كيف يمكن تسليم القدس "المدينة المثلثة التقديس" الى اليهود؟" وعنده، ان الرهان في فلسطين، انما هو "الرهان على القدس احد اكثر الاماكن شموخاً في العالم والمدينة التي ولدت فيها الحضارة التي يحيا بها قسم كبير من الانسانية". لذا يحذر في مقالتين من "فتح القدس" ويدعو في مقال الى "خلاص القدس" كجزء من حل وخلاص في فلسطين! رؤية للحل تنطلق رؤية ميشال شيحا للحل في فلسطين من قناعات فكرية منها: 1- ان قرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولة اسرائيل هو في جوهره قرار مناهض لمبدأ السلام. 2- "ان السلام الممكن مع اسرائيل هو بعيد ووهمي" و"السلم مع اسرائيل يتوقف على اسرائيل اي ان السلام يصبح ممكناً عندما تقتنع اسرائيل بضرورة التخلي عن مجموعة من الحماقات والأوهام". 3- ان كل حل بين العرب واسرائيل ينبغي ان ينطلق من معادلة واضحة "وضع حد لمطامع اسرائيل وقلق العرب في آن". 4- امام اصرار اسرائيل على تنفيذ مشروعها الاستيطاني التوسعي يعيش العرب حالاً من التردد والضياع والانقسام وهم "لم يعودوا يعرفون الى اي قديس او شيطان ينذرون انفسهم... وما يضيرهم في ذلك ثلاثة امور مجتمعة او منفصلة: تخلف العقل، وغياب الرأي، وإفلاس العدالة". 5- كانت لميشال شيحا رؤيتان للحل في فلسطين: الاولى لفلسطين من قبل التقسيم، والثانية لفلسطين ما بعد التقسيم. أ - الحل الفلسطيني ما قبل التقسيم: الحل اللبناني مع رياض الصلح. "إن الصيغة التي طالبنا بها منذ زمن بعيد هي: حكومة واحدة لفلسطين ومجلس واحد وأحوال شخصية مصوغة ضمن اطار من الانفتاح.. في المحصلة انه الحل اللبناني حيث الجمعية المشتركة هي التي تمثل ارادة العيش المشترك في بلد مؤلف من اقليات مشتركة". تلك هي "حظوظ العقل في فلسطين. وهذا هو الحل للمسألة اليهودية في فلسطين! وفي عز حمّى العمل للتقسيم، اشاد ميشال شيحا بتصريحات السيد رياض الصلح، رئيس وزراء لبنان، في باريس تشرين الاول/ اكتوبر 1948 حول مخاطر تقسيم فلسطين وضرورة اعتماد الحل البديل اي النموذج اللبناني. "فلقد كشفت الاقليات المترابطة، وهي التسمية التي عرّفنا لبنان بها منذ زمن بعيد، وعلى لسان السيد رياض الصلح بالذات، كشفت عمق وصلابة اخوّتها وتماسكها. ان ارادة الحياة معاً، والتسامح الاقصى والاحترام الكامل لحرية الضمير وهي امور طالما شرّفنا بلدنا الصغير بها، لجديرة، بل من الواجب ان تطرح على تفكير العالم، اقله لتكون حلاً انسانياً للمسألة اليهودية في فلسطين... حلاً قائماً على الحياة السياسية المشتركة وفيه انتصار للفكر بديل ان يكون انتصاراً للعنف والبؤس". هذه الرؤية لفلسطين الارض والمجتمع والدولة والصيغة، هي وحدها القادرة على إلغاء الجدران الفاصلة بين الشعبين. فمنذ ثمان وخمسين سنة هاجم شيحا فكرة "الجدار الفاصل" وحذّر بوعي عقلاني/ نبوي مما يحدث اليوم وهو إقامة الجدار الفاصل بين العرب واليهود، في الضفة الغربية، وقال ان الحل القائم على ارادة العيش المشترك "هو البديل لمنع الجدار الذي يفصل بينهما". ان الاختلافات السوسيولوجية تحل "في توسيع قوانين الاحوال الشخصية" وليس من المنطق اقامة جدار بين فرعين من العائلة السامية". غير ان لليهود نفسية اخرى، وحسابات اخرى تختبئ خلف جدران سميكة! اما نحن، "فديموقراطيون والديموقراطية الاتينية حية في ذهننا"، على حد قوله! ب - الحل ما بعد التقسيم: الحل العقلاني يعتبر ميشال شيحا تقسيم فلسطين بأنه "مشروع مناهض للتقليد والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد السياسي والفطرة السليمة وأخيراً طبيعة الاشياء". ولديه "ان كل عمل ضد هذه الثوابت هو عمل عنف ضد الحقائق"، وانه "في التصويت لتقسيم فلسطين فإن الأمم الموافقة على هذا التقسيم تكون قد صوتت "في شكل مخزٍ للدولة الاكثر عرقية والاكثر طائفية في العالم" ولكن شيحا يعترف بعد التقسيم بالأمر الواقع وان كان لا يبرره: "ونحن نعتبر وجود اسرائيل امراً واقعاً"، ولكن "بخصوص المفاوضات معها" للتوصل الى تسوية ممكنة او الى حل سلمي، وهذا صعب، يتمسك شيحا طوال حياته الباقية بثلاثة امور يعتبرها مفتاح التقدم نحو حسن الجوار ومواجهة حياة ممكنة عربية - اسرائيلية داعياً كل الدول العربية للتمسك بها وإلا تكون تقترف شكلاً من اشكال الجنون. وهذه الامور التي رددها في معظم كتاباته في الخمسينات حتى وفاته 1954 هي: "أن كل تفاوض مع اسرائيل، أين وأنّى كان، لا يمكن ان تكون نقطة البداية فيه سوى في ثلاثة: 1- الحضور الدولي في القدس، اي تدويل المدينة المقدسة، وهو يعني في نظره "وجوداً دولياً وقانونياً ودائماً ومسلحاً في فلسطين". 2- الضمانة الدولية التعاقدية للحدود العربية - الاسرائيلية "بوجه توسع اسرائيل". 3- ايجاد حل عادل وانساني لمشكلة اللاجئين المأسوية. فهل في كل ما يتم تداوله من مشاريع التسوية والحل اليوم، ما هو خارج هذه المبادئ الاساسية التي حددها وشرحها وأكدها ميشال شيحا منذ نصف قرن؟ يحذر شيحا اليهود قائلاً: "ينبغي ان يعلموا، ان هم مضوا في عنادهم، انهم سائرون لا محالة نحو حرب المئة عام". نحن الآن في منتصف الطريق! وإذا استمرت العدالة غائبة في فلسطين واستمر قصور الأممالمتحدة، "فسيظهر شبح الموت فوق حائط المبكى وفوق صهيون عاجلاً ام آجلاً. فليؤخذ كلامنا على محمل الجد، فليس فيه انشاء ولا رومانسية". وعلى عكس ما يقوله ويوحي به اليهود ويصدقه العرب، فإن قضية اسرائيل، في رأي شيحا، ليست قضية حضور Prژsence بل قضية قدرة Puissance. ففي الحضور اكتفاء وفي القدرة توسع وهيمنة! لذا يدعو شيحا الى اليقظة منذ الاربعينات "وأول الحكومات التي نود ان نراها متيقظة هي حكومتنا وبالقدر ذاته حكومة دمشق"، على ان تتيقن الحكومتان، ومعهما كل الحكومات العربية، من حقيقة راسخة وهي: "ان اسرائيل لا تريدنا مسلحين بل تريدنا ضعفاء في كل شيء اي ان ترانا من دون سلاح ومن دون حلفاء، ومحكومين بأسوأ الساسة". اليوم، وبعد مرور خمسين عاماً على وفاة ميشال شيحا، نتبين اكثر فأكثر من خلال كتابه "فلسطين" ومؤلفاته عن لبنان، كم كان عميقاً وملتزماً وواضحاً وذا رؤية. * كاتب لبناني.