طُرح سؤال، وتداولته منتديات الإنترنت: لماذا تخلّف السعوديون عن (أسطول الحرية)..؟ السؤال كان عنواناً لمقالة.. لكاتب يمني، وكان يمكن أن يكون تساؤلاً منطقياً ومشروعاً، لولا أن الكاتب حوّله إلى إسقاطات نفسية تعبر عن حالة مرضية، تنز منها رائحة العنصرية القبيحة، وتتبدى فيها عاهات الإقليمية الفجة. إزدراء لبلد بأكمله.. ثقافته ورجاله، الرسمي منه والشعبي. أكاذيب عن شيء سماه (فقه نجدي)، ولغة احتقار ممجوجة، وافتراضات مشوّهة.. صاغها خيال مريض، عن مدرسة الإمام أحمد بن حنبل الفقهية: بالعبث في اجتهاداتها، والسخرية من رجالها، وتنميطها بكذبة اخترعوها، يسمونها (الوهابية)..حيلة أهل الخرافة و(عبدة القبور)، في التشويش على (التوحيد). ثمة مشكلة حقيقية لدى بعض إخواننا العرب، عند الحديث عن موقف السعودية والسعوديين.. تجاه قضايا الأمة، وقضية فلسطين تحديداً. هناك خلط متعمد.. دائم ومتكرر، بين الموقف الرسمي والشعور الشعبي، وهناك انتقائية في تقييم المواقف الرسمية، منزوعة من سياق العلاقات الإقليمية والدولية..المتلبسة به، (كل) دول المنطقة. خاصة..العلاقة مع الغرب، وأمريكا تحديداً. ابتداء.. لا بد من الإقرار أن الموقف الرسمي السعودي، تجاه القضية الفلسطينية وحصار غزة، أدنى بكثير من الموقف الشعبي. قد يكون (الرسمي) مقيداً بحسابات السياسة الخارجية.. المحدودة هي أيضاً، بخطوط حمراء لقوى عظمى..! إلاّ أن هذا لا ينفي مسؤولية ذلك الرسمي، عن التضييق غير المبرر، على المبادرات الشعبية، وعلى جهود المؤسسات الأهلية والمجتمع المدني، تجاه القضية الفلسطينية، وحصار غزة بالذات. في المقال المذكور، استهزأ الكاتب اليمني بطريقة (كاريكاتيرية) بالسعودية والسعوديين، الذين لم يمثلهم أحد، ضمن المتضامنين مع غزة على متن (أسطول الحرية)، والذين ينتمون لأربعين جنسية.. بينهم عرب. كان مما ذكره ساخراً ومتهكماً.. في اختزال للموضوع، أن ما شغل السعوديون عن أسطول الحرية، استنفار واهتمام ب(الخطر الإيراني). المسألة الإيرانية.. مرة أخرى، واحدة من مشاكل بعض الإخوة العرب في فهمنا، وفي تحديد من هو (العدو الحقيقي). يُقال دائماً: هل العدو إسرائيل أم إيران..؟ طرح السؤال بهذه الطريقة.. لا يعبر عن سذاجة، بل عن لغة مخاتلة، وأحياناً خبيثة وغير بريئة. هل يمكن أن تسأل إنساناً: أيهما أهم لك.. عينك اليسرى أم عينك اليمنى..؟ هناك مشروعا هيمنة واستغلال يستهدفان المنطقة العربية، وكلاهما توسعي، عنصري.. وإقصائي: المشروع الصهيوني الإسرائيلي، والمشروع الإيراني الصفوي. كلا المشروعين يستندان إلى بعد تاريخي: (الحق المزعوم لليهود في فلسطين أرض الميعاد، وأحلام الهيمنة الإيرانية، واستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، التي أسقطها العرب المسلمون). كلاهما أيضاً.. يتحرك بوحي من (أيدولوجية)، وكلا الأيدولوجيتين تمتلئان بزخم هائل من الأحقاد والكراهية والثارات، وشعور (شوفيني) بالفوقية، وتستخدمان (خطاباً) تعبوياً متشابهاً، يتكئ على (المظلومية): المحرقة.. (الهولوكوست) عند اليهود، واستشهاد الحسين (رضي الله عنه)، عند الصفويين الإيرانيين. المشروع الصهيوني استيطاني ذو بعد حضاري، خطير.. وبعيد المدى، والمشروع الصفوي الإيراني طائفي تفتيتي، وخطير كذلك. المشروع الإيراني ناجز، وأكثر تهديداً للأمن القومي العربي، والأمن الوطني السعودي على وجه الخصوص. لذلك.. ليس غريباً، بل يجب أن يفزع السعوديين بمختلف توجهاتهم، من مشروع (باطني) منحرف كهذا. كما يجب أن يكون من أولويات السياسة الخارجية السعودية، والفكر الإستراتيجي السعودي، المتعلق بأمنها القومي.. إضعاف إيران، وتقليم أظافرها، وقطع (أذرعتها).. وحصارها، عبر القنوات الدبلوماسية، والاقتصادية، والثقافية، وليس بالتورط بأجندات أمريكية أو صهيونية. إيران تتمدد حيث ينكمش الوجود السعودي..أو يغيب. بل إن سياستها الخارجية قائمة على حصار المملكة وتطويقها، واختراق مناطق نفوذها الثقافي والاقتصادي. إضعاف إيران ولجمها، لا يقل أهمية عن لجم إسرائيل. إنه ليس مصلحة سعودية فقط، بل ضرورة قومية، وحماية للنظام العربي (المسلم) من التشظي والانهيار. إضعاف إيران يحقق مكاسب إستراتيجية هائلة للأمة. فهو يعني استعادة العراق العربي من الهيمنة الفارسية الصفوية، وإنقاذ لبنان من حالة الفوضى واللادولة، التي وضعه فيها المخلب الإيراني.. (حزب الله). كما أن إضعاف إيران سوف يعيد سوريا إلى محيطها العربي، ويغلق كل (الجيوب) الطائفية المتطرفة، التي فتحتها إيران، من غرب إفريقية، إلى شرق المتوسط.. وجنوب الجزيرة العربية. أسطول الحرية التركي، لم يعد (سفينة) لم يركبها السعوديون..مثل سائر أبناء الأمم الأخرى. بل صار (قدراً)..لهم وللمنطقة كلها، لا يملكون أن يتخلفوا عنه.. شعبياً ورسمياً. السياسة الخارجية السعودية، فيما يخص القضية الفلسطينية تحديداً..امتطت، لما يقرب من ثلاثة عقود، (العربة) المصرية المهترئة، التي قزمت الدور المحوري والأساسي لمصر.. والسعودية بالضرورة، وانتهت بالنظام المصري المتهالك، الذي يقدم غاز سيناء ونفطها، بسعر تافه للدولة اليهودية.. وغالبية الشعب المصري لا تجد رغيفاً مسوساً تأكله. انتهت به.. يقف بعربته الكسيحة، بحصان أعرج عجوز، يتسول على معبر رفح.. فتاتاً، تجود به الاستخبارات المركزية الأمريكية. فشل السياسة الخارجية المصرية، وإفلاس النظام المصري، ليس فقط في عجز النظام عن القيام بدور فاعل، يتناسب وأهمية وعظمة مصر البلد والأمة.. ودورها المحوري في المنطقة، بل كذلك في عدم امتلاك قرار مستقل لحضور قمة الدوحة، التي خُصّصت لوقف الحرب الإجرامية التي استهدفت المدنيين في غزة. إفلاس النظام وعجزه المخيف، بدا أكثر وضوحاً.. ومثيراً للاشمئزاز والشفقة، في تهديد دول هزيلة وهامشية، مثل إثيوبيا ويوغندا.. لمصر، في مسألة جوهرية وإستراتيجية.. مياه النيل، مصدر حياة مصر. بل إن النظام المصري.. مقابل كل هذا الذل والاستخذاء والهوان للسياسة الصهيونية الأمريكية، غير قادر على أن يعترض على سعي أمريكا لفصل جنوب السودان، على الرغم من جسامة الأمر وخطورته.. لو تم، على الأمن القومي المصري. واقع كهذا، يفرض على السعودية أن تعيد النظر في مسار دورها الحيوي والحضاري، ومكانتها الإسترتيجية..دينياً، واقتصادياً، وجغرافياً، وتترجل من (العربة) المصرية التي تتجه نحو الهاوية، وتصعد إلى (الأسطول) التركي.. (رباناً) وليس (راكباً) تابعاً، كما كانت في العربة المصرية. لو فعلت السعودية ذلك، فإنها ستضمن لنفسها موقعاً مرموقاً، مع (اللاعبين) الكبار في منطقة مهمة وحساسة وإستراتيجية، وتمثل خزان الطاقة للعالم.. تمتد من البحر الأسود إلى بحر العرب، ومن مضيق هرمز إلى مضيق البوسفور. كما أنها ستكون مع (حليف) يُتَّكأ عليه، في مواجهة مخطط تقاسم النفوذ.. الذي يتم (طبخه) الآن، بين إيران وأمريكا.. في العراق والخليج العربي، وأفغانستان وآسيا الوسطى، بعد هزيمة الأخيرة في العراق وأفغانستان. الأسطول التركي صار في المنطقة. ليس حقيقة فقط، بل حضوراً مؤثراً، لا يمكن لأحد أن يتجاهله. أصوات التهويل والتشويش، ارتفعت حول الدور التركي، لكنها أشبه بصراخ أطفال، للتعكير على هدير قاطرة جبارة. هناك طرفان في المنطقة.. وطرف ثالث (خارجها)، لن يسرهم هذا الحضور القوي للسياسة التركية في العالم العربي.. وفي القضية الفلسطينية تحديداً، وسنرى (أعمالاً) للتشويش عليها، ومؤامرات للكيد لها. الطرف الأول: (وكلاء) المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وهم فئة من صنفين: الأنظمة التي فقدت (شرعيتها) الجماهيرية، وتمسك ببعض أوراق القضية الفلسطينية، وتقتات من (رهن) تلك (الأوراق) لدى الراعي الأساسي للكيان الصهيوني.. الإدارة الأمريكية. الحضور التركي سوف (يحرق) هذه الأوراق، ما يجعلها..أي تلك الأنظمة، غير ذات جدوى، في خدمة المصالح الأمريكية.. فتنقطع الهبات والعطايا عن أركان النظام وأزلامه، ما يعني انتهاء دوره ومبررات وجوده. الصنف الثاني: ما يُسمّى بالليبراليين من (كتاب المارينز)، الذين رأوا في السياسة التركية (وجهاً) إسلامياً.. لا يتحملون رؤيته، فضلاً عن أن يكون له حضور مؤثر في المنطقة. لذا.. صرنا نسمع ونقرأ عن (خطر) تركي عثماني، يهدد (المصالح) العربية. المصالح العربية هنا.. صياغة معدلة وملطفة، لسياسة الارتهان والعمالة للإدارة الأمريكية، وخدمة (مشروعها) الصهيوني في المنطقة العربية. الموقف المتوجس و(المحذر) من الدور التركي، لا علاقة له بمصلحة وطنية أو قومية، بل ل(شبهته) الإسلامية. الدور الأمريكي المنفرد والمنحاز للصهيونية لدى هؤلاء.. مقبول، والرباعية الدولية مقبولة.. لكن تركيا حزب العدالة والتنمية، (المتهم) بإسلاميته.. غير مقبولة..! يقولون: تركيا لا تفعل ذلك، سعياً من أجل نصرة القضية الفلسطينية.. ورفع الظلم عن الفلسطينيين، بل تبحث عن مصلحتها، بعد أن أوصدت في وجهها أبواب الاتحاد الأوروبي. ما العيب أن تلتفت تركيا إلى مصالحها، ما دام ذلك يصب في مصلحة قضيتنا الكبرى..؟ ألستم تتكورون داخل الحضن الأمريكي كالجراء الأليفة.. بدعوى المصلحة، ولا ينال الأمة من سلوككم ذاك، إلاّ المزيد من التخلف والإذلال والتبعية.. وسلب الحقوق..؟ ليس من المفترض.. بشكل مطلق، أن تركيا حين تتحرك من أجل رفع الحصار عن غزة، إنما تفعل ذلك، بدافع من عاطفة إسلامية محضة، مهما قيل عن (إسلامية) حزب العدالة والتنمية. تركيا تتمتع بخصائص الدولة الإقليمية الكبرى، من خلال موقع جغرافي حيوي، واقتصاد قوي ينمو بوتيرة متصاعدة، إضافة إلى كثافة سكانية، وثقل بشري.. بأبعاد دينية وحضارية وثقافية، يمتد من آسيا الوسطى إلى البلقان. هذا الواقع أدركته النخبة السياسية التي تحكم تركيا الآن، وتسعى لترجمته إلى حقيقة وفعل في سياستها الخارجية.. يتناسب ودور تركيا، بوصفها قوة إقليمية متنامية، وينسجم مع نسقها القيمي والأخلاقي. لذا..فهي حين تقف في صف المحاصرين في غزة، فإنها لا تنافق ولا تجامل.. أو تزايد. بل تتصرف من مسؤوليتها، بوصفها قوة إقليمية كبرى، معنية بما يحدث عند حدودها الجنوبية، مثلما يفعل النظام الإيراني، وهو الذي لا يملك نصف عناصر القوة التي لديها، ولا صدق المواقف والمشاعر تجاه قضايا المنطقة، وتاريخية العلاقة وعمقها.. مع شعوبها. إيران.. هي الطرف الثاني الذي أربكه وأغاظه الحضور التركي. لفترة ليست وجيزة، تمتع النظام الإيراني بفضاء عربي شبه خال من أي (قوة) فعلية. الجامعة العربية صارت (أحفورة) لكائن منقرض.. لم يبق منها إلا شكلها، وما يُسمّى (النظام العربي).. كان قد سقط، ودُفن في (كامب ديفيد)، وسياسة المحاور الإقليمية فشلت: (مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي). بعد مجيء الاحتلال الأمريكي، وانهيار الدولة في العراق، فُتح الباب مشرعاً أمام أحلام وأطماع ساسة طهران، ودهاقنة (قم).. فاندفعت جحافل النفوذ السياسي، والاستخباراتي، والثقافي الإيراني، تجوس خلال الديار العربية.. بعدما دحرت ما يقرب من عقدين، وقف خلالها العراق (العربي) سداً صلباً، ضد محاولات الاختراق والتمدد الصفوي الإيراني للعمق العربي، عبر سياسة (تصدير الثورة)، التي تبناها نظام الخميني. غير الإمساك بمفاصل العراق، وتحويله إلى (محمية) فارسية، نجحت إيران على الصعيد السياسي، في استغلال انهيار النظام العربي، الذي بلغ أوج سقوطه بالاحتلال العراقي للكويت، إبان ذروة الصراع بين أجنحة (حزب البعث) في دمشق وبغداد.. وهو الحدث الذي أقلق النظام السوري من غريمه التقليدي.. فدفع بنظام الأسد لقبول الغزل الإيراني، والارتماء في أحضان طهران..نكاية ب(العدو) المشترك..! سعى النظام الإيراني أيضاً، لتجنيد الأقليات الشيعية في الدول العربية، لخدمة مصالحه، وتوسيع نطاق نفوذه.. على حساب المصالح الوطنية لكل بلد، وحقق نجاحاً في لبنان، شلّ البلد وجعله رهينة للقرار الإيراني، وورقة ضغط ومساومة في سياسته الخارجية. استفادت إيران كذلك، من تخلي العرب عن القضية الفلسطينية، وتسليم كافة (الأوراق) للإدارات الأمريكية المتصهينة، فدخلت على (خط المقاومة)، ودعمت سياسياً وإعلامياً، الحركات الرافضة للحلول الاستسلامية، وأمسكت بها هي الأخرى..(ورقة) في لعبة سياستها الخارجية، لكسب مواقع تفاوضية أفضل.. ضمن سعيها لتكون (قوة إقليمية). في ظل هوان، وتبعية، وهامشية الأنظمة العربية، الذي لم تشهد الأمة مثله، في أشد عصورها ظلاماً وانحطاطاً، لعب النظام الإيراني أهم ورقة.. ورقة المقاومة، دون أن يريق نقطة دم زكية واحدة، فانحازت إليه الجماهير. لقد تحولت قضية الأمة الكبرى، وجرحها الدامي..فلسطين، إلى لعبة شعارات "بمحو إسرائيل من الوجود"، يلوكها النظام الإيراني.. فيحقق مكاسب إعلامية وسياسية، والقدس يبتلعها التهويد. على الصعيد العقدي والثقافي، قام النظام الإيراني، ضمن سعيه لشق صف الأمة وتفتيتها، وتمزيق نسيجها الاجتماعي.. بحملات (تبشير) لنشر التشيع، في كثير من الدول العربية والإسلامية، من خلال المراكز (الثقافية)، ومن خلال استقطاب عشرات الألوف من الطلاب العرب والمسلمين في الجامعات الإيرانية. النجاحات الواضحة للنظام الإيراني في هذا المجال، كانت في غرب إفريقية وأمريكا الجنوبية، من خلال تجنيد الجالية اللبنانية الشيعية المتنفذة اقتصادياً في تلك المجتمعات. لقد تحول كثير من اللبنانيين الشيعة في تلك البلدان، إلى ناشطين وعملاء مخلصين في خدمة السياسة الخارجية لإيران، وامتداداً طبيعيا لمناطق نفوذها، أكثر من ولائهم لبلدهم وخدمة مصالحه.. فضلاً عن أن يكون لديهم ولاء، لأمتهم العربية وخدمة قضاياها. دخول تركيا المنطقة العربية، من بوابتها الأوسع..الصراع العربي الإسرائيلي، كان بمثابة الصدمة للنظام الإيراني. رأى ساسة طهران أن طموحات الهيمنة، وما عملوا على بنائه خلال أكثر من عقد من الزمن.. عبر سياسة (الشعارات)، والجعجعة الإعلامية، وتجنيد العملاء، صار يتفلت من أيديهم في غضون أشهر، من خلال سياسة مطردة.. بدأت في دافوس وتوجت في أسطول الحرية.. وتجاوب معها (الشارع) العربي بسرعة. الفضاء العربي الذي صال فيه الإيرانيون وجالوا وحدهم، جاء من ينافسهم عليه.. بل بدأ يزحزحهم. لماذا يقلق النظام الإيراني ويضطرب ساسته، من دخول السياسة التركية للساحة العربية..؟ إيران تدرك من واقع عقيدتها السياسية، أن طبيعة البلدين لا تسمح بأن يلتقيا في ساحة تنافس واحدة، أو أن (يقتسما) منطقة نفوذ مشتركة، لأسباب عقدية وتاريخية. تاريخياً.. النظام الإيراني الحالي، هو امتداد لفترة (الحكم الصفوي)، الذي أقامه إسماعيل الصفوي في عام 1499 م، حين اقتطع الهضبة الإيرانية من دولة الخلافة العثمانية، وأسس نظاماً شديد التطرف، عمل على أساس من تعاليمه، على (تشييع) عموم المسلمين بالقسر والإكراه، حتى سفك دماء قرابة المليون مسلم.. فارضاً طقوساً مزجت تعاليم إسلامية بممارسات فارسية قديمة. الصراع بين العثمانيين والإيرانيين الصفويين، لم تحسمه معركة (جالديران)، التي هزمت فيها الجيوش العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول، جيش إسماعيل الصفوي عام 1514 م، واحتلت عاصمته تبريز. لقد استمرت (الدولة الصفوية) في إيران، تشاغل السلطنة العثمانية.. في حروب شرسة وطويلة، وتتواطأ مع أعدائها ضدها، وكانت سبباً في إرهاقها وإضعافها عسكرياً، أثناء حروبها مع الإمبراطوريات والممالك الأوروبية. بل إنها في فترة من الفترات، دخلت في تحالف مع الاستعمار البرتغالي، في محاصرة القوات العثمانية في البحر الأحمر، التي كانت تتصدى للتهديد البرتغالي للمدينتين المقدستين.. وهو ما قد يفسر اطمئنان (الغرب) لإيران، ودورها في المنطقة، وتعاونه معها.. رغم شعاراتها الراديكالية:" الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل". يقول المؤرخ الأمريكي، William McNeill ) ) صاحب الكتاب الشهير: ((The Rise of The West: A History of the Human Community "أدّى ظهور الصفويين في إيران (1499) إلى زعزعة توازن تاريخي وسياسي وديني، وكانت إيران عنصر إثارة للقلاقل في العالم الإسلامي، وسبباً للصراعات في القرون: السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وسبباً في الجمود وتراجع الفنون والأداب في العالم الإسلامي". على الصعيد العقدي والأيدولوجية السياسية، ما يفرق تركيا عن إيران.. أكثر بكثير مما يحفظه التاريخ في إرشيفه. يلتزم النظام في إيران.. ويسير، في سياسته الداخلية، وعلاقاته الخارجية مع دول الجوار، وفق عقيدة باطنية إقصائية، عبّر عنها في دستوره.. وهو ما يدفعه إلى التربص بجيرانه في الخليج، وتهميش و(إقصاء) ما يقرب من 40% من سكان إيران، ممن لا يعتنقون تلك العقيدة. الإقصاء الذي يمارسه النظام الإيراني، من خلال العقيدة الصفوية، ويتمثلها في أيدولوجيته السياسية..يجعله بالضرورة في تضاد مع تركيا.. الدولة والشعب، بسبب من موقف تاريخي وتباين عقدي. تتبنى تركيا (الحديثة) نظاماً علمانياً مفتوحاً، ويدين غالبية شعبها بالإسلام السني.. ويتكئ على موروث عثماني.. حضاري وسياسي، تنظر إليه إيران بكثير من التوجس والكراهية. توجهات (حزب العدالة والتنمية)، صارت تتناغم باطراد مع هذا الموروث، وتستدعي من الذاكرة الجمعية، دوراً مركزياً لتركيا العثمانية..تستحقه. الميراث العثماني لتركيا، أكثر شمولاً، وأكثر تنوعاً وتسامحاً، ومنسجم مع جيرانه العرب..تاريخاً وعقيدة، مقابل موروث إيراني صفوي، قائم على عقيدة طائفية إقصائية، ونزعة تسلط وهيمنة، وسجل حروب دموية، وحملات (تطهير) تقتل على الهوية.. مفرغة من أي مضامين حضارية. من أيضاً.. لا يريد أن تدخل السياسة التركية في المعترك العربي الصهيوني؟ بالتأكيد.. الصهيونية وحلفاؤها من اليمين المسيحي المتطرف. ينظر للدولة اليهودية، من لدن صناع القرار، والدوائر الغربية، على أنها رأس حربة وخط دفاع متقدم، في الصراع بين الحضارة الغربية، بوجهيها المسيحي واليهودي.. وبين الإسلام. يقول (جان فرانسوا دينيو)، وهو وزير فرنسي سابق، في كتابه الشهير الذي سماه: "الذي أؤمن به" (1994): "رغم أن 541 سنة مرت، فإن مجيء الأتراك ومعهم الإسلام، ووصولهم إلى القارة الأوروبية واستيلائهم على اسطنبول، وصولاً إلى أبواب فيينا، وسيطرتهم على الإمبراطورية الرومانية الشرقية، مركز الكنيسة الأرثوذكسية، هو أمر لم يهضم في داخلنا، ولم ولن يقبل". التصريحات الحادة ضد تركيا، التي صدرت من بعض الساسة ورجال الكونجرس الأمريكي، وعبّر عنها النائب الجمهوري مايك بنس، حين قال: "تركيا ستدفع الثمن"، وكذلك الرسالة الموجهة للرئيس أوباما، التي وقّع عليها (126) نائباً من نواب الكونجرس، يعارضون فيها أي إدانة لإسرائيل، بسبب عدوانها على أسطول الحرية، ويحذرون في الوقت نفسه تركيا، من (التمادي) في مناصرة الفلسطينيين في غزة، لكسر الحصار والتجويع المفروض عليهم. هذه المواقف وغيرها، ليست بعيدة عن نفس (الروح) الصليبية، التي تحدث عنها (فرانسوا دينيو)، ولا يمكن أن تكون تعبيراً عن حرص على مصالح أمريكا. مثل هذا (القلق) والتوتر الغربي، الذي يفرز مشاعر و(مواقف)، تعبر عن مكنون حضاري وديني عدائي.. كلما نهض شعور إسلامي، وتتم مواراتها و(تغليفها) بالدبلوماسية، سوف تتصاعد وتيرتها في القادم من الأيام، مع استمرار تركيا في نفس سياستها (الفلسطينية). ستكون هناك أيضاً، ضغوط سياسية مختلفة على الحكومة التركية، وأعمال ابتزاز وإرهاب، من خلال دعم استخباراتي لعناصر التمرد الكردي، وهو ما تمت ملاحظته من خلال ازدياد العمليات الإرهابية النوعية لحزب العمال الكردستاني، وألمح إليه وزير الداخلية التركي.. حين أشار لدور عن تورط جهاز (الموساد) الإسرائيلي، ثم أكده رئيس الوزراء رجب أردوغان في 3 يونيو، عندما تحدث عن تورط جهاز استخبارات خارجي. ليس من المحتمل أن تمضي تركيا.. بدون حليف قوي في المنطقة، على نفس السياسة القوية والواضحة، بخصوص المسألة الفلسطينية. كما أنه ليس متوقعاً، أن تذعن للضغوط. تملك تركيا من عناصر القوة الداخلية والخارجية، أكثر بكثير مما لديها من نقاط الضعف، التي أبرزها التمرد الكردي. أمريكا و(حلف الناتو)، لن يفرطا بسهولة بتركيا..نظراً لموقعها (الجيواستراتيجي)، ولن يتحملا خسارتها، كعنصر اعتدال في منطقة حساسة ومتفجرة. أوروبا.. وإن لم تقبلها (شريكاً) في (النادي المسيحي).. الاتحاد الأوروبي، إلاّ أنها كذلك، لا تتحمل كلفة تحويلها إلى (عدو) صريح، ولن تسمح لسياسة اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة، ولا لإسرائيل.. بذلك. تركيا تعرف أنه لا يمكن الوثوق بإيران، لأسباب سياسية وأيدولوجية.. وبسبب تضارب واضح في الأهداف والمصالح. كلاهما تسعى لتكون قوة إقليمية مؤثرة في المنطقة، باختلاف جوهري في الوسائل: تركيا بدبلوماسيتها، وموقعها الحيوي بين الشرق (العربي) والغرب (الأوروبي).. وباقتصادها القوي. أما إيران.. فمن خلال (عملقة) مؤسستها العسكرية، ولعب الورقة الطائفية ضد الجيران ودول المنطقة..لإضعافها وتفتيتها. تعلم تركيا.. في الوقت نفسه، أن سوريا على أهميتها، تبقى حليفاً صغيراً. لذلك.. فإن (مثلث) العلاقة التركي، الذي يمكن أن يؤثر في لعبة التوازنات في المنطقة.. ضد الغطرسة الصهيونية، وأحلام الهيمنة الصفوية الإيرانية، يحتاج إلى (وتر)..إلى حليف قوي، يملك القوة السياسية، والاقتصادية، والقوة الدينية.. ببعديها الحضاري والتاريخي. هل ترتقي المملكة لقدرها التاريخي، كدولة محورية: دينياً، واقتصادياً.. وموقع (جيوسياسي) بالغ الأهمية، وتكون هي (وتر) المثلث.. لعلاقة، تحقق لها دورها الطبيعي، بوصفها قوة فاعلة ومؤثرة في المنطقة، وفي قضايا الأمة. كما تضمن لها هذه العلاقة.. إذا ما وجدت، توازناً يحتاجه استقرار المنطقة، ويحتاجه أمنها السياسي والاجتماعي، ليقاوم مشاريع الهيمنة والتفتيت الطائفي.. الذي يهدد الأمن الوطني للمملكة.. والأمن العربي بشكل عام..؟ فلول الاحتلال الأمريكي تؤذن بالرحيل..مدحورة، وأسطول الحرية التركي يسير، ويرسم طريقاً جديدة في المنطقة.. فمن سيصعد إلى (الأسطول)، ومن سيبقى يلوّح لآخر عربة (همر) أمريكية.. تولّت، تحمل الخزي وعار الهزيمة، وأحلام (العملاء)، الذين استقبلوها بالورود.. وآمال (الواهمين) الذين راهنوا عليها..؟