الواضح ان اسرائيل تعاني من بقائها في لبنان، وتريد الخروج. انها تعلن، للمرة الأولى منذ 1978 عندما أصدر مجلس الأمن القرار الرقم 425، رغبتها في التنفيذ وسحب جنودها من جنوبلبنان، شرط ان يدخل اللبنانيون في مفاوضات معها لضمان أمن حدودها الشمالية. ما تريده اسرائيل بالتحديد هو انتشار الجيش اللبناني الى الحدود، ونزع سلاح "حزب الله"، ومنع الهجمات على شمالها وحماية اللبنانيين الذين تعاونوا معها في ما يسمى "الحزام الأمني". باختصار، انها تريد من لبنان ان يكون شرطيها في الشمال. يصر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، ووزير الدفاع اسحق موردخاي، ومستشاره الأمني لشؤون لبنان اوري لوبراني، على ان اسرائيل لا تريد شيئا من لبنان سوى أمن مدنييها في الشمال. لكن هل يمكن تصديق اسرائيل؟ عبّر عدد من المعلقين، منذ اطلقت اسرائيل حملتها الديبلوماسية في شأن القرار 425، عن شكوكهم في أن للدولة اليهودية اهدافاً أوسع من مجرد الانسحاب. انها تسعى، في رأيهم، الى اجبار لبنان على الدخول في صفقة منفصلة، أي ابعاده عن المسار السوري، وحرمان سورية من ورقتها للضغط المتمثلة بالعمليات العسكرية التي ينفذها "حزب الله". بكلمة اخرى، اسرائيل تريد الخروج من لبنان كي تتمكن من البقاء في الجولان. لا شك ان هذا ما تتمناه، ولكن هل هو كل ما في الأمر؟ سجل التاريخ يشير الى ان الأمر ليس كذلك. احتل لبنان دوما مكانا مميزا في منظور اسرائيل الجغرافي السياسي الى الشرق الأوسط، وهي لم تكف عن التدخل في شؤونه طوال السنين الخمسين من تاريخها. واعتبر قادتها، من ديفيد بن غوريون الى مناحيم بيغن، ومن اسحق رابين وشمعون بيريز الى نتانياهو، ان لبنان هو مفتاحها للهيمنة الاقليمية. اعتقد هؤلاء ان التحالف مع لبنان يسمح لاسرائيل باعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يتماشى مع مصالحها ويضمن هزيمة اعدائها، مهما تغيروا بحسب تغير الظروف: من قوى القومية العربية الى الوطنية الفلسطينية الى الأصولية الاسلامية. هذا الخط السياسي هو الذي يفسر تدخلات اسرائيل الكثيرة في شؤون لبنان، العلني منها والخفي، والسياسي كما العسكري. يكشف تاريخ علاقات اسرائيل مع لبنان بوضوح هذه الطموحات الاسرائيلية الأوسع والأبعد من مجرد ضمان الحدود الشمالية للدولة العبرية، بل ان الواقع هو استعمال اسرائيل الجانب الأمني مرات كغطاء لطموحاتها الجغرافية السياسية. السؤال هنا هو هل تخلت عن تلك الطموحات؟ هل هي مستعدة بعد كل هذه العقود لوقف التدخل في شؤون لبنان واحترام سيادته وسلامة أراضيه، ومن ضمن ذلك مجاله الجوي ومداخله البحرية؟ هل قادتها الصعوبات والخيبات في لبنان الى معاودة النظر في اهدافها الاقليمية؟ انه أمر بعيد الاحتمال. اذ يبدو نتانياهو، مثل بن غوريون قبله، مصمماً على فرض هيمنة اسرائيل على الشرق الأوسط، ومن هنا فالمرجح انه سيستمر في اعطاء لبنان اهمية خاصة ويحاول استعادة نفوذ اسرائيل فيه. كان بن غورويون واضع سياسة ما يسمى "التفكير المحيطي"، تلك السياسة المتكونة من قسمين: الأول، التحالف مع الدول غير العربية المحيطة بالمنطقة، مثل تركيا وايران واثيوبيا، والثاني التحالف مع الأقليات - سواء كانت طائفية ام دينية ام اثنية - الواقعة على "المحيط الاثني" للمجتمع العربي، مثل الموارنة والدروز والأكراد والسودانيين الجنوبيين وغيرهم. بين جميع هؤلاء الحلفاء المحتملين اعتبرت اسرائيل ان الموارنة اللبنانيين هم الأكثر احتمالا. وكانت هناك منذ الثلاثينات اتصالات بين الموارنة والجالية اليهودية في فلسطين بدأ اكثرها البطريرك الماروني عريضة والرئيس اميل اده الذي كان على علاقة مباشرة بحاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية. وبلغ من التقارب بين الجانبين ان الطرف الماروني قدم مذكرة الى الأممالمتحدة في 1947 يؤيد فيها قيام دولة يهودية في فلسطين. من هنا كان طبيعياً بعد ولادة الدولة اليهودية في 1948 ان تعتبر اسرائيل الموارنة "حلفاء طبيعيين" لها، حيث يوحد بين الطرفين الخوف من العالم العربي الاسلامي والعداء له. وبدأت منذ ذلك الحين العلاقات السياسية العسكرية السرية بين قادة الموارنة واسرائيل، وتسلموا منها المساعدات المالية. هذه كانت خلفية اعتقاد بن غوريون القوي، الذي عبر عنه مرات في الخمسينات، ان على اسرائيل استعمال القوة لمساعدة الموارنة في اقامة دولة مسيحية في لبنان تدخل فوراً في تحالف مع الدولة اليهودية. في 24 أيار مايو 1948، في المراحل الأولى من حرب فلسطين، قال رئيس الوزراء وزير الدفاع بن غوريون لهيئة الأركان الاسرائيلية: "نقطة الضعف في التحالف العربي هي لبنان، لأن الحكم الاسلامي هناك مصطنع ويمكن اضعافه بسهولة. يجب اقامة دولة مسيحية هناك تصل حدودها الجنوبية الى نهر الليطاني، وسنتحالف معها". اجتمع حزب الكتائب الذي كان يمثل الموارنة آنذاك مع مسؤولين اسرائيليين، وبحث الطرفان في خطط لثورة مسيحية على المسلمين في بيروت تتزامن مع غزو اسرائيلي لجنوبلبنان. لكن الوقت لم يكن مناسباً لمغامرة كهذه. لم يمنع ذلك بن غوريون من التمسك بالفكرة، وعاد اليها في 1956 عندما خطط، مشتركا مع بريطانيا وفرنسا، لحملة السويس الهادفة الى ضرب مصر جمال عبدالناصر. وكتب في يومياته في 19 تشرين الأول اكتوبر 1956: "قدمت مخططي للشرق الأوسط. الخطة العامة هي: ازاحة عبدالناصر، تقسيم الأردن والجزء الشرقي من العراق لعقد السلام مع اسرائيل ما يمكّن من توطين اللاجئين هناك بمساعدة مالية اميركية. تقليص الحدود مع لبنان الذي سيكون دولة مسيحية". بعد ايام من ذلك، في 22 من الشهر نفسه، كتب بن غوريون: "تقطيع اراضي لبنان لاقامة دولة مسيحية، ضم قسم من الاراضي الى سورية، وضم الجزء الآخر، الى حدود الليطاني، الينا". ترد هذه المقاطع البعيدة الدلالة في كتاب جديد عنوانه "ديبلوماسية اسرائيل السرية في لبنان" ISRAEL'S COVERT DIPLOMACY IN LEBANON, MACMILLAN PRESS LTD, LODON، من تأليف الدكتورة كرستن شولتز، الباحثة الشابة في كلية لندن للاقتصاد. وتحاجج الباحثة في شكل مقنع أن تدخلات اسرائيل الواسعة والعنيفة في احيان كثيرة في العالم العربي تشكل جزءا اساسياً من سياستها الخارجية منذ بن غوريون، وان الهدف لم يكن ابقاء العرب في حال من الانقسام والقلاقل والضعف فحسب بل كان يطمح الى اكثر: معاودة صوغ الجغرافيا السياسية للمنطقة لضمان سيطرة اسرائيل. واعتبر لبنان ضمن هذه الاستراتيجية "حلقة الضعف في السلسلة العربية" وهو منذ زمن بعيد هدف للتدخل الاسرائيلي. تدخلت اسرائيل في ازمة 1958 في لبنان عندما وفرت للكتائب وتنظيمات مسيحية اخرى السلاح والمال. ثم تقارب الطرفان اكثر، كما هو معروف، مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية في 1975، بعدما طلب منها المسيحيون في بيروتوجنوبلبنان المساعدة ازاء الضغوط القوية عليهم من الفلسطينيين وحلفائهم الراديكاليين. تظهر الدكتورة شولتز اعتماداً على مصادر اسرائيلية ان العاهل الاردني الملك حسين، بعلاقاته الوثيقة السرية مع اسرائيل، هو الذي نصح صديقه الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون بالتوجه الى الاسرائيليين، لأنهم كانوا، كما رأى، الطرف الوحيد القادر على انقاذ قوة الموارنة في لبنان. في نيسان أبريل 1976 اتصل الملك حسين بالسفير الاسرائيلي في لندن ليطلب المساعدة للموارنة. وفي آب اغسطس من العام نفسه التقى شمعون رئيس وزراء اسرائيل اسحق رابين في سفينة حربية اسرائيلية للبحث في شروط المساعدة العسكرية الاسرائيلية للموارنة. بعد ذلك بدأ تدفق المساعدات الاسرائيلية على نطاق واسع، متخذة شكل الاسلحة والتدريب. عندما جاء حزب ليكود الى السلطة في أيار مايو 1977 تبنى بحماسة الأفكار والسياسات التي اطلقها بن غوريون قبل جيل: استعمال القوة العسكرية ضد العرب من دون استفزاز مسبق منهم، من أجل تحقيق اهداف اسرائيل على الأرض: العزم على دحر الفلسطينيين والسوريين، والسعي الى الهيمنة الاقليمية. وأيضاً، وهو مما اعتبر مفتاح كل هذا، الاصرار على العلاقة مع الموارنة باعتبارهم "الحلفاء الطبيعيين" لاسرائيل. كانت هذه الخلفية التي برزت منها "عملية الليطاني" الاسرائيلية في 1978، التي ادت الى اقامة "الحزام الأمني"، ثم العملية الوحشية التي اطلق عليها كذباً "سلام الجليل" في 1982 ووصلت القوات الاسرائيلية خلالها الى بيروت، مكلفة اللبنانيينوالفلسطينيين خسائر بشرية كبرى اضافة الى الخسائر المادية الهائلة للبنان. وكان هذا تحقيقاً لحلم بن غوريون قبل 34 سنة في اعادة ترتيب الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط باستعمال القوة. كان للعدوان الاسرائيلي على لبنان الذي شنه رئيس الوزراء مناحيم بيغن ووزير الخارجية اسحق شامير ووزير الدفاع ارييل شارون ورئيس الأركان رافائيل ايتان اهداف بعيدة المدى، هي: * اقامة دولة مارونية تابعة لاسرائيل برئاسة بشير الجميل. * تدمير منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية عموما بما يسمح لاحقا بضم الضفة الغربية وقطاع غزة الى اسرائيل وطرد السكان الى الأردن. * الحاق الهزيمة بسورية في شكل يؤدي الى تفكيكها. * بروز "اسرائيل الكبرى" كالقوة العظمى الاقليمية القادرة على فرض ارادتها على الشرق الأوسط. تقول الدكتورة شولتز في كتابها ان "الهدف الرئيسي للحرب كان اقامة نظام سياسي جديد. والواقع ان شارون أوضح لمساعديه ان عملية ناجحة في لبنان ستضمن لاسرائيل، كما اعتقد، السيادة المطلقة خلال السنوات الثلاثين المقبلة، لتتمكن خلالها من فرض الأمر الواقع بحسب مصلحتها". لكن فهم بيغن وشارون للوضع اللبناني عموماً والموارنة خصوصاً كان يعاني خللاً عميقاً. وجاءت الحرب بكارثة سياسية للموارنة واسرائيل يستمر الطرفان في دفع ثمنها. وجد الموارنة، الذين اعتقدوا ان التحالف مع اسرائيل سيعيد اليهم السيطرة، انهم يضطرون الى الدفاع عن وجودهم نفسه. اما الاسرائيليون ففشلوا في ترجمة مكاسبهم العسكرية الى مكاسب سياسية. ونجح السوريون وحلفاؤهم في لبنان في القضاء على اتفاق 17 أيار مايو 1983 الذي عقد برعاية أميركا وهدف الى ادخال لبنان الى المدار الاسرائيلي. ووجدت الدولة العبرية نفسها بعد ذلك ازاء مقاومة لبنانية عسكرية متزايدة الكفاءة، هي الآن في طور اخراج الاسرائيليين من لبنان. ولكن، هل تعلمت اسرائيل استحالة التوصل الى اهداف سياسية دائمة عن طريق القوة وحدها؟ ان التصريحات العدوانية لنتانياهو وزملائه لا تشجع على هذا الاعتقاد. تحليل الدكتورة شولتز لسياسات اسرائيل هو الأفضل الذي صدر حتى الآن، وتقول مستنتجة في نهاية بحثها: "واضح، اذا نظرنا الى الموضوع من خلال اطاره الزمني الكامل من 1920 الى 1982، ان التدخل الاسرائيلي في لبنان تصاعد وتحول من السر الى العلن ومن السياسي الى العسكري، وكل ذلك من أجل هدف اسرائيلي ملح: الهيمنة على شرق المتوسط". واليوم، بعد عقود من التآمر والعدوان شبه اليومي على لبنان يقول رئيس وزراء اسرائيل القومي المتطرف انه مستعد لانهاء عقدين من الاحتلال والانسحاب من الجنوب. ولكن لا بد للشروط التي وضعتها اسرائيل للانسحاب - المفاوضات الثنائية، نزع سلاح المقاومة، ضمانات لبنانية لأمن اسرائيل - أن تثير الشكوك في ان اسرائيل لم تتخل عن انجذابها القديم الى التدخل في شؤون جارها الأضعف. كما ليس هناك دليل على انها تخلت عن مطامحها في الهيمنة. بل نجد ان الادلة تشير الى العكس تماماً. السؤال الجوهري اليوم هو: هل اسرائيل ما زالت ترى ان لبنان هو مفتاح اعادة ترتيب الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط؟ اذا كان الأمر كذلك ستحاول استعادة نفوذها في لبنان واضعاف نفوذ سورية، منافسها الاقليمي الرئيسي. اذاً، سواء انسحبت اسرائيل من الجنوب او استمرت في الاحتلال، المرجح ان لبنان يبقى ساحة للصراع السياسي، وحتى العسكري أحياناً، بين سورية واسرائيل. وهناك درس واضح يقدمه التاريخ: لا سلام دائماً في الشرق الأوسط إذا لم تكن هناك تسوية سلمية بين سورية واسرائيل، ولا أمل بسلام حقيقي في المنطقة. وفي غياب هذه التسوية سيبقى لبنان يدفع الثمن.