ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟ وماذا ينفع الساسة لو ربحوا منصباً أو وزارة أو رئاسة وخسروا وطناً وحاضراً ومستقبلاً؟ وماذا ينفع الأحزاب لو استولت على سلطة وحققت طموحاً وهيمنة وخسرت شعباً مغلوباً على أمره وتركته في بحر هائج لا قرار له ولا أمن ولا أمان ولا حتى مجرد لقمة عيش؟ تلك الأسئلة الوجودية الجوهرية تؤرق المضاجع ونحن نتابع بكل حسرة وأسف وقلق التطورات المتلاحقة التي تفتعل في أوطاننا لإثارة المشاكل والأزمات وصب الزيت على نار الخلافات وإيقاظ الفتن النائمة وإشعال نيران حروب أهلية وطائفية ومذهبية ندرك جيداً سهولة بداياتها، ولكن الله عز وجل وحده يعرف كيف ستنتهي وإلى أين المصير وإلى أي درك أسفل تقاد إليه شعوبنا كالأغنام المساقة الى المذابح، بعد أن يفرغ المغرضون من استخدامها كوقود والتباهي بها كأعداد وأرقام تؤيد هذا الفريق أو تهتف لآخر وتفتديه بهتافات"بالروح والدم"!؟ عناد ومكابرة واستكبار والنتائج دموع وآلام ودماء بريئة تسفك ظلماً مع دمار شامل لا يستثني أحداً ولا يفرق بين حاكم ومحكوم وظالم ومظلوم وقوي وضعيف وغني وفقير؟ إنها التراجيديا العربية الدامية التي عشنا فصولها منذ أن أبصرنا النور في ظلام الليل العربي الطويل، وما زالت تتوالى علينا رعباً وخوفاً وقتلاً وتشريداً ودماراً وأهوالاً في حركة تصاعدية متواصلة وكأن القدر كتب علينا أن ندمن على رغم أنوفنا وإرادتنا على لعب دور المتفرج الدائم على فيلم من أفلام الرعب والإثارة التي اشتهر بها ألفرد هيتشكوك، أو أحد الأفلام الهندية المغمسة بالدماء والدموع والمملوءة بمشاهد العنف وحروب العصابات الإجرامية وصراعات الخير والشر. كل هذا يجري وشعوبنا مخدرة لا حول لها ولا قوة، ومهمشة ومهملة لا أحد يأخذ رأيها في حرب ولا يستشيرها في سلم أو استسلام ولا يشركها في قرار أو في اختيار سياسة ما ولا يلجأ إليها أصحاب"الحل والربط"، إلا عندما"يُحشرون في زاوية"أو يتعرضون لانتكاسة أو يواجهون معارضة شرسة. كل هذا يجري والخزائن فارغة والشعوب تئن والمخاطر تحيط بنا من كل حدب وصوب والأعداء يتناوبون علينا من كل الاتجاهات والخطر الصهيوني الداهم يهدد المصير والوجود والحاضر والمستقبل فيما نحن نتلهى بأحاديث الحصص والمحاصصة ونتنافس على المغانم والمكاسب والمناصب والوزارات ونثير الفتن ونحركها دفعة واحدة وعلى كل الصعد الطائفية والمذهبية والدينية والاجتماعية والاقتصادية ونغرق في جدل عقيم ونضيع في حوار الطرشان وكأننا نستنسخ فلاسفة روما ونسترجع تاريخهم وجدلهم حول جنس الملائكة، فيما الأعداء يقرعون أبواب العاصمة ويزحفون للمعركة الفاصلة، أو كأننا نقلد أخطاء ملوك الطوائف في الأندلس ونمارس خطاياهم في التشرذم والاختلاف والصراع والتنافس على التحالف مع الطامعين على اختلاف مشاربهم، على رغم علمنا بقاسمهم المشترك القائم على مطامعهم وأحقادهم لنبكي في النهاية ملكاً مضاعاً لم نحافظ عليه كالرجال! فالمشهد العربي اليوم خطير جداً وينذر بانفجار كبير لن يرحم أحداً من المحيط الى الخليج مهما حاولنا أن نكابر أو أن نتجاهل الأمر أو أن ندعي انه لا يخصنا: * العدو الصهيوني بعد ضربته الكبرى الأخيرة في مسلسل مؤامراته ومخططاته التوسعية وعزمه القضاء على الإرادة العربية والتهويد الكامل للقدس الشريف وهدم المسجد الأقصى المبارك والإنكار الشامل لحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمها حقه في إقامة دولته المستقلة القابلة للحياة. * المطامع الأجنبية تظهر الى العلن من دون مواربة من خلال الصراعات الدولية والرغبات الدفينة في الهيمنة على المنطقة واستنزاف ثرواتها تمهيداً للمنازلة الكبرى المرتقبة بين القوى العظمى خلال العقد المقبل. * القوى الاقليمية تحشد إمكاناتها وتعد العدة لمنازلة أخرى بهدف الهيمنة الكاملة على مقدرات المنطقة، بعد أن نجحت في تفتيت الصف العربي وإحكام السيطرة على القرارات المصيرية وتحويل الاتجاه من قرار عربي فاعل في شؤون المنطقة الى غياب عربي عنه بالترهيب والترغيب وتقسيم العرب وإثارة الفتن بينهم ليخلو لهذه القوى، وهي تركيا وإيران وإسرائيل، الجو وتسلب من العرب قرارهم وتضعهم في خانة هذا الفريق أو ذاك. * في المقابل تشهد الأوطان العربية حالات تمزق وشرذمة وآفات فتن عرقية ومذهبية وطائفية تهدف الى تفتيت الأمة وضربها في صميم قوتها ومنعتها وإضعافها لتسهيل الهيمنة على مقدراتها. ولا يكشف المرء سراً عندما يحذر من الفتن المتحركة التي لا ينفع أحداً إنكار وجودها أو التخفيف من مخاطرها لأنها ماثلة للعيان وواضحة المعالم والأهداف، فهي فتن حقيقية تطل برأسها البغيض على مجتمعاتنا وتهدد الحاضر والمصير والمستقبل وتنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم يتم تداركها وحصر أخطارها وسحب سمومها من التداول. فلم يعد الخطر مقتصراً على حروب أهلية وطائفية بل تعدتها الى خطر نشوب حروب داخل الأديان والمذاهب أي مسيحية - مسيحية وشيعية - سنية وعربية - كردية وعربية - عربية وصولاً الى حروب بين مختلف مقومات الأوطان وأطيافها. والأمثلة على هذه المخاطر كثيرة من بينها ما يجري في العراق من تحريض وقتل وإرهاب وإثارة فتن بين السنّة والشيعة، والتي يقول البعض ان الآتي أعظم وان التحضيرات تجري على قدم وساق لحروب أكبر تهدف الى تقسيم العراق بعد تدمير بنيانه وكسر عموده الفقري الذي كان في الأساس العمود الفقري للعرب في وجه المطامع الأجنبية المتعددة الوجوه والجوانب والجنسيات، الى أن تشارك في التواطؤ عليه نظام الداخل ومطامع الخارج وأوصلوه الى ما وصل اليه الآن... وما قد يصل اليه في المستقبل الداكن السواد والظلمة لا قدر الله. أما في فلسطينالمحتلة فالمؤامرة تتشابه في الإخراج والتنفيذ وتختلف في الأدوات و"الوقود". فإرهاصات الحرب الأهلية ما زالت تتفاعل والخوف من انفجارها في أي لحظة يملأ قلوب الشعب الفلسطيني المنكوب، والكل يسأل ولا مجيب عن أهداف الشقاق ونتائجه وعن الضمير الإنساني والمشاعر الوطنية للمتصارعين من أبناء الوطن الواحد، فيما العدو ينكل بهم جميعاً ويحاصرهم ويشبعهم قتلاً وقصفاً ودماراً ومن أجل ماذا؟ سلطة زائفة ووزارات فارغة وخزينة خاوية وشعب جائع يئن تحت وطأة الظلم والإرهاب والعدوان الغاشم وقتال رفاق السلاح وخصوماتهم الدنيئة. وكم تمنينا على"حماس"أن تبتعد عن وهج السلطة الحارق في هذه الظروف القاسية وأن تكون الدرع الواقية والمقاومة والممانعة والمصرة على التحرير بدلاً من الوقوع في شرك الحكم وبازارات المناصب وأفخاخ الاعداء والأقرباء؟ ولكن لا حياة لمن تنادي! وكم ناشدنا"فتح"وقيادات السلطة والفصائل كافة بأن تتحد وتبتعد عن المكائد والخلافات وتبني سياسة حافة الهاوية لتوجه كل إمكاناتها لمواجهة العدو وتخليص الشعب الفلسطيني من معاناته اليومية وهواجسه المتنامية ولكن لا حياة لمن تنادي! ومن العراقوفلسطين الى لبنان حيث المخاطر تكبر والحرائق تشتعل والعناد يبلغ مداه والمكابرة تحطم مقومات البلد، والاستكبار يهدد مصير الشعب المساق الى النكبات الدورية المتوالية منذ أكثر من ثلاثين سنة. ولا يسع المخلص المحب للبنان إلا أن يصرخ في وجه من يهمه الأمر: حرام عليكم ما تفعلونه بوطنكم وحرام عليكم أن تأخذوا شعبكم الى مصير محتوم لا نهاية له إلا الخراب والدمار والدماء والآلام. فالعنف يجر العنف والتظاهرات تقابل بتظاهرات مماثلة. فالأجدى بالجميع أن يحتكموا للدستور وأصول اللعبة الديموقراطية وعدم استخدام سلاح إسقاط الحكومات بأساليب غير ديموقراطية ضناً بالشعب وحرصاً على لبنان ووحدته ومستقبله. ومن أجل ماذا؟ مناصب ووزارات ومكاسب وصراعات ونكايات وتوازنات زائلة وفتن كانت نائمة ويتم إيقاظها بتحريك الغرائز وإثارة المشاعر الطائفية والمذهبية والدينية وإشعال حرائق لن يقتصر لهيبها على حدود لبنان بل لا بد من أن ينتشر ليحرق الجميع بعد التلاقي مع حرائق العراقوفلسطين ويأكل ما تبقى من أخضر ويابس ويصب في النهاية في مصلحة الأعداء وأولهم العدو الصهيوني. وكم نتمنى لو تنتصر الحكمة وينتفض حكماء العرب ولبنان لإطفاء النيران ومنع انتشارها والبحث عن مخارج مشرفة للجميع بالحوار والتنازل عن المكابرة والبحث عن حلول وسط والعودة الى شعارات الزعيم الوطني الراحل صائب سلام"لا غالب ولا مغلوب"و"التفهم والتفاهم"بدلاً من الاعتداء على ضريحه الطاهر، الذي كما قلت لنجله السياسي العاقل والحكيم تمام سلام، ان من قام به لو عرف تاريخ هذا الرجل ومواقفه المشرفة لترحم عليه ونثر على ضريحه الورود والرياحين والمسك والعنبر. إنها ساعة الحقيقة والاختيار ولحظة الحسم والقرار بين التحريض على الموت والانتحار والدعوة الى الحياة وإنقاذ الأهل والديار والمؤسسات الدستورية وإطفاء نور آخر أمل قبل خراب البصرة وحلول ساعة الندم والحسرة عندما لا ينفع ندم ولا دموع ولا دواء. ولا أدري لماذا تبادر الى ذهني الوضع العربي برمته عندما تابعت وقائع زيارة الرئيس بوش لفيتنام والاستقبال الحافل وأحاديث المشاريع والتعاون بعد حرب طاحنة حصدت أرواح مئات الآلاف من الجانبين الأميركي والفيتنامي. لعلنا نستخلص منها الدروس بأن البناء صعب ويحتاج الى سنوات من الجهد والعمل والعرق والدموع وأن الهدم سهل لا يحتاج إلا الى عود ثقاب وكلمة تشعل فتنة ولحظة واحدة لا غير. وعلى من يتحدث عن مثال هوشيه منه وهانوي العرب ان يطلع على حجم الخراب ومن ثم على المشاريع الكثيرة المرتبطة بالولايات المتحدة. فلكل شيء بداية ونهاية وكل حرب تنتهي بصلح أو بسلام أو باستسلام... وكل أزمة لا بد من أن تنفرج مهما اشتدت، فلماذا التعنت والعناد والمكابرة والاستكبار، ولماذا نرفض الانقاذ في البداية ثم نرضخ للشروط بعد"خراب البصرة"وهو خراب سيتمدد من البصرة الى كل عاصمة ومدينة عربية إذا استمر التأزم على ما هو عليه الآن؟ والأمل كل الأمل بأن ينتصر العقل على الجهل وتتغلب الحكمة على التهور ويسارع الحكماء الى اجتراح حلول سريعة وفاعلة للأزمات الراهنة قبل فوات الأوان ومحاولة الإمساك بخيط الأمل، أو بخيط معاوية الذي يربط بين أبناء المصير الواحد حتى ولو كان رفيعاً حتى لا نقع في المحظور ونلج أبواب مشاكل لا أمل بالخلاص منها. وما دمنا في ذكر معاوية والمشاكل أعود للتذكير بحكمة من التراث تروي أن معاوية سأل عمرو بن العاص عن سر الأحاديث عن دهائه فرد عليه مختالاً: لسبب بسيط وهو انني لا أدخل في مشكلة إلا وأجد لها حلاً... ثم التفت اليه قائلاً وأنت يا أمير المؤمنين ما هو سر الحديث عن دهائك المشهود؟ فرد عليه وهو يبتسم: لأنني على عكسك... عندما أجد نفسي أمام مشكلة أتجنب الدخول في غياهبها أو لا أدخلها في الأساس! فهل نتعلم من هذا الدرس ونجنب أنفسنا وأمتنا المزيد من الهموم والمشاكل والأزمات؟ انه سؤال برسم أصحاب الحل والقرار في ديارنا التي كانت عامرة! * كاتب عربي