كل شعوب العالم تحظى بالأمن والأمان والعقل والحكمة والحياة الطبيعية إلا الشعوب العربية مكتوب عليها قلة الراحة بسبب العناد والمكابرة والتشفي والرغبة في التفرد بالحكم والسلطة والثروة وكل مفاصل الحياة. سياسة الإنكار وعدم الاعتراف بالواقع المرير والمآسي التي يعيشها الناس ومعاناة الأكثرية في الحصول على لقمة عيش وحبة دواء ووظيفة محترمة يؤمن منها الإنسان حياة كريمة لعائلته وأطفاله. حتى الأمل كتب على شعوبنا أن يسرق منا ويحوّل إلى سلسلة من خيبات الأمل، والابتسامة من شفاه أطفالنا تنتزع منها انتزاعاً بيد وحشية كأنها لا تملك حقاً بالحصول عليها وأنها يجب أن لا تستحق إلا دمعة في عيونهم البريئة وصرخة أنين صادرة من أعماقهم. ولم يبق سوى الحلم بمستقبل أفضل وغد آمن فجاء دوره أخيراً لتدمره آلات القتل والدمار. كل هذا سببه سيطرة عقلية «كسر العظم» التي تحولت إلى سياسة عامة تطبق على امتداد الوطن العربي، فمنهم من مارسها وفق أسلوب شمشون «عليّ وعلى أعدائي يا رب»، ومنهم من تبنى فكر «يا قاتل يا مقتول»، ومنهم من يجاهر بقوله «أنا ومن بعدي الطوفان»، وآخر يهتف بحرارة «أنا أو لا أحد»، أو يهتفون له «أنت إلى الأبد». لا تنازلات ولا حلول وسط ولا تفاهم ولا محاولة للمصارحة مع النفس أولاً ثم مع الآخرين ولا رغبة في المصالحة ظناً منهم أنها تساوي «الهزيمة»، ونحن على استعداد لأن نهزم الشعب أو ندمره ونفنيه عن بكرة أبيه ولا نقبل بحوار ولا بمصارحة. فعقلية «كسر العظم» عقلية انتحارية، سادية، إجرامية تخبط خبط عشواء، لا رادع أخلاقي ولا إنساني ولا وطني لها، وهي تسعى منذ اليوم الأول لتسلمها كرسي الحكم المشؤوم إلى الهيمنة وإقصاء الآخر واجتثاث الأطراف المعارضة والموالية على حد سواء، تمهيداً للتنعم بالمغانم وإشباع رغبة شهوة السلطة الوحشية التي لا تشبع من دون أن تدرك حجم خطيئتها وتمتعها الزائف بسراب قاتل لا بد أن يودي بها في النهاية وهي تتربع على عرش من جماجم الأطفال الأبرياء وتقبع على قمة ركام البيوت وأطلال الأوطان. والمؤسف أن أحداً لم يتعلم من دروس التاريخ، تاريخنا وتاريخ الآخرين، ولا يتعظ بالنهايات الدرامية المأسوية لكل من مارس هذه العقلية المافيوية على صعيد شخصي وأصعدة وطنية. ويكفي أن نعطي مثلاً حديثاً وهو «الاتحاد الأوروبي»، فبعد حروب عالمية دامية سقط فيها عشرات الملايين من القتلى وعمّ في الدول الخراب توصل الأوروبيون إلى واقع تعاملوا معه بحكمة وهي أن الاتحاد قوة وأن التسامح يطوي صفحة الماضي البغيض، وهذا يتطلب قراراً لم نعترف به كعرب وهو الحل الوسط compromise بعد حوار وتقديم تنازلات متبادلة. أكثر من 50 عاماً من المفاوضات على كل شاردة وواردة من الجبنة إلى المدفع ومختلف الشؤون والقضايا تم إعلان الاتحاد الذي يضم الآن 28 دولة، كانت كرواتيا آخر دولة تنضم إليه على رغم ما يمر به من أزمات وعقبات، لكن المصالح الوطنية طغت على كل ما عداها. هذا بين دول وشعوب مختلفة ومتباينة الأعراق والأديان والأنظمة والعقليات، فكيف بنا نحن بكل ما يجمعنا من تاريخ وحضارة ودين ودم ومصالح مشتركة أو بين أبناء شعب واحد عاش بأمان ووحدة قروناً طويلة. وكان الزعيم الوطني اللبناني الرئيس الراحل صائب سلام أول ما تنبه إلى «الحل السحري»، فعمل على رأب الصدع وتوجيه الجهود رافعاً شعارات رائعة مثل «لا غالب ولا مغلوب» و «تفهم وتفاهم»... وغيرها، من دون أن يلقى أذناً صاغية إلى أن حل ما حل بلبنان واكتوى بنار حرب أهلية دامية لم تنته إلا بالعودة إلى ينابيع صائب بك في «اتفاق الطائف»، لكن حليمة عادت إلى عادتها القديمة وعاد الشرخ ليضرب من جديد الجسد اللبناني، وجاء نجله الرئيس تمام ليصلح ما أفسده الدهر والخلافات حاملاً شعار «حزب الأوادم» الذي دعا إلى تكوينه، وهو يستحق اسمه عن جدارة ويتمتع بصفات حميدة وقيم جامعة وفق إجماع اللبنانيين وكأنهم يقولون «ما أجمعت أمتي على باطل». وكان الرئيس الشهيد رفيق الحريري قد نجح في رفع شعار «لبنان أولاً» وتمكن من تظهير وحدة إسلامية – مسيحية وتأمين انضواء السنّة تحت راية لبنان بعد أن كانوا يتنقلون بين مصر وسورية والسعودية وأدى تحالفهم مع الفصائل الفلسطينية إلى نشوب الحرب الأهلية عام 1975. لكن الحريري استشهد وكاد مشروعه الوطني أن يتوارى، وحاول نجله سعد حمل الراية لكنه لم يُسمح له بالحكم ولا بالإصلاح وأحرج ليخرج كما هو معروف. وفي سورية نجد العقلية نفسها سائدة، فيما يتحدث البعض بهمس عن مؤتمر جنيف 2 للحوار من دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل بالسلام بعد 30 شهراً من الدمار والقتل والتشريد والمآسي. وكان من الممكن أن تسوى المسألة منذ بدايتها لأن النار تشتعل من مستصغر الشرر، لكن جرى ما جرى ولم يبق لنا سوى الدعاء بأن يتمكن أصحاب الحل والربط من البدء في الحوار وإيجاد حلول سحرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بلد يكاد يتحول إلى أطلال وشعب يتحول إلى شتات لاجئين في أصقاع الأرض. أما في مصر، فالمصيبة أعظم لأن الآتي خطير ومخيف في حال استمرار المضي في سياسة «كسر العظم» ورفض الحوار بعد أن فشل التفرد بالحكم. فلا حديث عن شرعية ولا عن ديموقراطية في ظل قهر وجوع وهيمنة وتفرد ولا يمكن لفريق واحد أن يحكم أو أن ينجح وحده بل لا بد من المشاركة والوحدة الوطنية والتضحية وتقديم تنازلات متبادلة لإيصال المركب إلى شاطئ الأمان وإنقاذه من الغرق. أما التعنت وتبادل التهديدات ورفض الآخر وتخويفه وتكفيره فإن مصيره الخراب وسقوط الهيكل على رؤوس الجميع لا فرق بين معارضة وموالاة. لقد استبشرنا خيراً بالربيع العربي على أمل أن يفتح صفحة جديدة لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفننا. وما جرى في مصر أن انتخاب الرئيس محمد مرسي بأكثرية هزيلة حملت جماعة «الإخوان المسلمين» على الظن أن الحظ قد ابتسم لها وأعطاها رخصة للهيمنة والسيطرة التامة على كل مفاصل الحياة وإقصاء الآخرين بعد القفز فوق رؤوس أصحاب «ثورة يناير» الحقيقيين، لكنها ارتكبت الخطأ تلو الخطأ إلى أن تدخل الجيش لينقذ مصر من الانهيار الكامل ويجنب الشعب المصري حمام دم لا يعرف إلا الله عز وجلّ متى يتوقف. وما ينطبق على مصر ينطبق على الدول الأخرى ليثبت أن عقلية «كسر العظم» وسياسة الهيمنة لن تجدي نفعاً بل تؤدي إلى الخراب الشامل. هذه العقلية عانينا منها منذ زمن طويل ودفعت الشعوب ثمنها غالياً من حاضرها ومستقبلها وأرواح أفرادها وثرواتها الوطنية. فقد سادت شعارات العروبة في مطلع القرن الماضي ورفعت شعارات «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» ولم نجن سوى الفرقة والتشرذم والخصام والانقلابات والحروب والخلافات العربية – العربية والأزمات الداخلية ومعها سياسة الإقصاء والاجتثاث وعقلية «كسر العظم»، ما أدى إلى تسريح آلاف الضباط والموظفين والخبراء الأكفياء وهجرة الملايين وهروب الثروات الوطنية وبالتالي التخلف والعنف والانهيار الاقتصادي. كل نسمات الأمل تحولت إلى خيبات أمل، فقد كنا ننادي بشعار أن «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، فإذا بنا نجابه بأنه تحول إلى خلاف وصراع وحقد وكراهية أفسد للود قضية بل أفسد القضية كلها وأفسد النفوس والنفسيات ودمر البشر والحجر. وفي السنوات الأخيرة برزت دعوات العودة إلى الدين وتبوأ المشهد الإسلام السياسي بكل فروعه وأشكاله وعقلياته وأساليبه التي تميزت بالعنف في معظم الحالات بدلاً من استخلاص العبر والدروس من دين المحبة والسلام والتسامح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وإشاعة أجواء التضامن والتآلف والتكاتف. وبدلاً من العودة إلى القرآن الكريم للتبصر فيه والسير بتعاليمه السمحة واتخاذ الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، قدوة في مكارم الأخلاق والرحمة والمودة، اتبع معظم المنتمين لهذه التيارات سبيل التشدد والعنف والفظاظة والتطرف، ضاربين بعرض الحائط قول الله عز وجل في محكم تنزيله: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس»، صدق الله العظيم. هذه الوسطية هي التي يجب علينا أن نسير على هداها بتوجيه إلهي وهي ما انتهجها الخلفاء الراشدون وكل مسؤول مؤمن كان يستمع إلى الرأي الآخر ويحترمه ويحميه كما كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما انتقدته امرأة فحاول بعض الصحابة ثنيها عن قول كلمتها فرد عليهم قائلاً: «لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها». والأمثلة كثيرة على صواب هذا النهج، نهج الاعتدال والصبر. أكتفي بمقولة الخليفة الأموي الكبير معاوية بن أبي سفيان: «والله لو كان بيني وبين الناس شعرة لما قطعتها». هذه هي الحكمة وهذه هي الحنكة في تجنب الغلو وإبعاد الأزمات، ويروى أن معاوية سأل عمرو بن العاص: «ما سرّ ما يقال عن دهائك»، فابتسم وردّ قائلاً: «إنني عندما أدخل في أي مشكلة أعرف كيف أخرج منها». فسأل عمرو بدوره معاوية: «وأنت ما سرّ حكمتك ودهائك يا أمير المؤمنين؟»، فردّ قائلاً: «إنني عندما أجد نفسي أمام مشكلة لا أدخلها أبداً وأتجنبها»، فقال عمرو: «لقد غلبتني يا أمير المؤمنين». نعم، هذا هو المطلوب لا أن ندخل أنفسنا في أزمة تلو الأزمة ونورِّط شعوبنا بمشاكل ما أنزل الله بها من سلطان ونعرضها للدمار والفناء ونشيع أجواء الحقد والكراهية والفشل. فلا حل إلا بالمصارحة والمصالحة بين جميع الأطياف والخروج من عقلية «كسر العظم» لأن البديل هو الوقوع في الهاوية. * كاتب عربي